الطليعة 21 أغسطس 1996

المتاجرة بمفهوم الولاء والوطنية استرزاق رخيص خاسر!
يعج الوطن والإقليم الجغرافي الذي ينتمي إليه هذا الوطن بمشاكل دقيقة ومتداخلة ويطوي صفحة حرجة وحاسمة، الأمر الذي يستدعي تأصيل الوحدة الوطنية والإخلاص في مواجهة التحديات من خلال الوقوف الرجولي الموحد والانصهار في بوتقة واحدة أمام جميع هذه المخاطر ذات التأثير الشاسع على جميع القطاعات والفئات الشعبية، ولعل من أهم الأولويات التي تتطلبها مثل هذه المرحلة أولاً تنسيق الجهود المتبعثرة حالياً في سبيل اختيار مجلس شعبي يليق بعراقة الديمقراطية الكويتية ويرتقي إلى مستوى الطموح الجماهيري ويتأهل لمواصلة المسيرة الدستورية والتصدي لمحاولات تفريغ روح الدستور، وذلك عن طريق تجسيد معاني التشريع والرقابة وهيبة القانون، وعلى الصعيد الإقليمي، يجب استنهاض المساعي والقدرات لانتزاع فتيل الفتن والدوائر المحاطة بالمياه الدافئة والثروات الكامنة لهذه المنطقة والتصدي لمحاولات قوى الشر الإقليمية والعالمية باستدراج الكويت إلى أتون محرقة جديدة لا ناقة لنا بها ولا جمل.

في خضم هذه التطورات الخطرة وأولويات التصدي المطلوبة تنبري بين الفينة والأخرى بعض الأقلام بغية تعكير الجو العام وتحييد الأنظار عن أمهات المسائل وذلك من خلال نشر الأقاويل والأكاذيب أو محاولة جر الآخرين إلى معتركات صحفية أو ديوانية مهمشة وفارغة من أي جوهر ومضمون، وعلى الرغم من أننا قطعنا شوطاً كبيراً في الكويت في إخماد هذه الظاهرة حيث ارتقى الوعي الوطني والسياسي للسواد الأعظم من المواطنين إلى مستوى كشف هذه الأقلام إلا أن دابر هذه المشكلة لم يقطع بعد لسبب مهم وحساس.

فبين فترة وأخرى تنزلق بعض الأقلام الوطنية الجادة والمدافعة في الغالب عن القضايا العامة إلى متاهات قد تستدرج إليها أو قد يغلب عليها تراكمات قديمة ومتأصلة فتجرها بتلقائية إلى التخبط فلا ينفع عندئذ رادع المبادئ أو القيم التي ينادي بها دوما، وقد تحمل مثل هذه الهفوات على محامل حسن الظن أو الأخطاء التقديرية لاجتهادات معينة، ولكنها تحول تلك الهفوات إلى نهج منظم ومتواصل قد يغير القناعات بمصداقية تلك الأقلام وحتى نزاهة أصحابها من الأساس، وتكمن الطامة الكبرى في تحويل مفاهيم المواطنة والولاء والوطن إلى سلع للمتاجرة الصحفية أو حتى المكابرة والتعالي السياسي، والأغرب من ذلك أن يتصدى لهذا المسعى المخزي أصحاب زوايا مرموقين وذوو مسؤوليات صحفية في جرائد يومية يشهد بوطنيتها ونزاهتها للأمانة الصحفية في هذا الزمن الغابر!

فقد تصدى أمثال هؤلاء لإثارة موضوع الولاء والوطنية وازدواجية المواطنة بين المرجعية الدينية والمرجعية السياسية وربط هذا الموضوع في سلسلة مقالات مع التطورات الإقليمية التي تشهدها المنطقة جراء التصعيد الإعلامي والسياسي لحكومة الولايات المتحدة ضد إيران وتهدف مثل هذه المقالات بصراحة إلى الطعن بولاء شريحة تمثل نصف المجتمع الكويتي بسبب تمسكها بمرجعية دينية، لا تحدها جنسية أو مكان وإنما الأصول المعيارية للاجتهاد العلمي، تنهل منها أحكامها الشرعية ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل والتبجح بأن المرجعية الدينية هذه تتصادم مع الولاء السياسي للوطن.

والجهل المركب لأصحاب هذه الرؤية يدفعهم أيضاً إلى التغني بما يعرف بـ “أمجاد الآباء والأجداد” ومحاولة التمويه بأن ولاء هذه الشريحة للوطن والأرض كان قائماً منذ نشأة الكيان الكويتي ولم تعقها المرجعية الدينية في السابق، وهنا يجب أن نتساءل إذا كان الولاء قد تأصل بهذا الشكل التاريخي العميق وتوارثته الأجيال فلماذا التباكي إذا على احتمالات فقدانها؟ وإذا كانت المواطنة والولاء محفورة في وجدان الكويتيين منذ الأزل فلا يبقى لمثل هذه الأصوات النشاز سوى تفسير واحد هو تكرار وتواصل نبرة العنصرية والطائفية لبعض الفئات المريضة وتواصلها ضمن امتداداتها التاريخية التي لم تلق سوى المزيد من الفشل عبر مرور الوقت.

وانطلاقاً من السرد السابق فأن التسويق لمفهوم المواطنة والولاء يأتي في إطار الترويج لفكرة وهدف مؤقت يخدم مصلحة بعض القوى الكبرى دون أن يكون لهذا المفهوم أدنى ارتباط بمصلحة الكويت وأهلها وثرواتها، وبمعنى آخر قد يسعى البعض إلى نشر مفهوم الانقياد والطاعة للقرار الأمريكي في حالة المواجهة مع إيران أو في حالة فرض فتوى سياسية من البيت الأبيض للاعتراف والتطبيع مع الكيان الصهيوني المجرم وتمجيد بعض الجلاوزة المتسلطين على رقاب الشعوب المغلوبة على أمرها دون اعتراض وإن تصادم ذلك مع الأحكام الشرعية.

إننا لا نفهم من الولاء والمواطنة سوى احترام دستور البلاد وقوانينه الصادرة والعمل من خلال مؤسساته السياسية الشرعية وخدمة هذه الأرض ورعاياها من أي منصب أو وظيفة وأخيراً الدفاع والتضحية في سبيل ذلك في حالة تعرض أي مما سبق للخطر، وإذا اتفقنا على هذا التعريف يجب أن نصدق ذلك من وحي التطبيق والعمل.

ما هو رد الشكاكين في الاختبار السياسي لهذه الطائفة من المواطنين في البرلمان الحالي، هل يتجرأ أحد على الطعن بمصداقية هؤلاء النواب على صعيد الدفاع عن المرتكزات الدستورية وروح القانون وحماية المال العام والتصدي لقضايا الشعب الكويتي ضد الواسطة والمحسوبية والشللية؟ وهل يقوى أحد على إنكار الموقف الفريد الذي صمد من خلاله نواب هذه الطائفة بعد أن أعلن الكثيرون بما في ذلك أصحاب الأقلام الجارحة بيعهم الوطن لصدام حسين في بداية الثمانينيات وحتى 1 أغسطس 1990؟  وهل يستطيع أيا كان يتجاهل دور الكويتيين جميعاً في التضحية والشهادة والتكافل الوطني إبان الاحتلال البعثي للبلاد؟

ينبغي قبل توجيه هذه التهمة والظنة في مسألة المرجعية الدينية الرشيدة مراجعة بعض فتاوى المراجع السياسية ومقارنتها مع القرارات الوطنية والقومية التي أصدرها من كان البعض يكن له الولاء، إن إجهاض غزو عبدالكريم قاسم للكويت عام 1961 كان بسبب فتوى المرجع الأعلى آية الله محسن الحكيم، وعندما أصدر صدام حسين أمرا بفتح الكويت تحقيقاً لطموحات القومية العربية أصدر المرجع الأعلى آية الله السيد الخوئي فتوى بحرمة الصلاة على أرض الكويت المغصوبة للجنود العراقيين وكذلك حرمة شراء البضائع الكويتية المسروقة وحرمة التعدي على المواطنين الكويتيين، وعندما كان صدام حسين يقصف المدن والأهالي الإيرانيين بأموال عربية يطبل لها بعض كتاب اليوم كان تحذير المرجع الديني الأعلى آية الله الخميني بأن صدام حسين سوف يغزو الكويت بمجرد انتهاء حربه ضد إيران.

يجب أن يعرف الشكاكون والمغرضون بأن الدين هو الحصن الواقي للوطن، فحب الوطن من الإيمان شعار إسلامي وديني مقدس، والخوف والمتاجرة بالأوطان أنما يكون منبعه الولاءات السياسية وخاصة لعواصم القوى الغربية والصهيونية العالمية التي حولت دول العالم الثالث إلى سوق دولية للنخاسين، ومع ذلك يقرع البعض طبول الولاء لهم ولمبادئهم وأخلاقياتهم الساقطة ولا يرضى للوازع الديني أن يقف في وجه هذا الانحطاط.

أن الوطنية والولاء للأرض وبجكم الطبيعة والقانون لا تحتاج إلى وصية أو ولاية لأن هذا الشعور ذاتي المنبع أصيل المصدر يعكس معدن الإنسان وحقيقته، فليحتفظ أدعياء الوطنية بوطنيتهم وليس الآخرون بحاجة إلى مرجعيتكم السياسية..