الرأي العام 02 يوليو 1996 |
النفط بعد الخمسين |
في ذكرى احتفالنا باليوبيل الذهبي لتصدير أول شحنة من النفط الكويتي للأسواق العالمية لا بد من تقييم واقعنا “النفطي” والوقوف على أهم المنعطفات التي خلفها انفجار ينابيع الثروة في هذا البلد.. ولا شك بأن حدث اكتشاف النفط والاسترزاق منه بالكامل قبل نصف قرن قد غير معالم حياتنا وواقعنا بصورة جذرية، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بعد هذه السنوات الطويلة هو: هل يستمر هذا الواقع الميسر والسهل والرفيع المستوى لمدة نصف قرن آخر؟ من الطبيعي أن يكون الجواب على هذا الاستفسار نابعاً من تقييمنا لطبيعة إدارة واستثمار المرفق النفطي والدور الذي لعبته هذه الثروة الهائلة في تطوير أنماط تفكيرنا وابتكار القنوات الجديدة والإضافية لتحسين الاستفادة من هذا المورد أو حتى الدفاع عن موقعه العالمي في مقابل التحديات الاقتصادية والسياسية والإستراتيجية التي تواجهه خصوصاً من قبل قوى عالمية ومتطورة وفي الوقت نفسه محتاجة إلى هذا المنبع الحيوي. قد لا يكون من أولويات احتفالاتنا بولادة النفط إشهار هذا المورد كسلاح إستراتيجي وآلة للضغط السياسي عالمياً، وإن كان ذلك لا يخلو من أهمية وجدارة في التفكير الجماعي مع من يملك هذا المصدر من الدول المشابهة لنا، ولكن ما يفرض نفسه بشكل طبيعي على بساط البحث هو تقييم استفادتنا من النفط داخلياً على مدى السنوات الطويلة الماضية، ولكي يكون بعض جوانب هذا التقييم بسيطاً وسريع الوصول إلى عمق الإدراك يفضل الاستشهاد بلغة الأرقام والشواهد الإحصائية. فمنذ العام 1946 أصبح النفط هو المورد الأول والأخير لإيرادات الدولة من المال ويصل معدل اعتماد الدولة على صادرات النفط خلال الخمس سنوات الماضية إلى حوالي 50% على أقل التقديرات ولم تتراجع نسبة الاعتماد هذه عن 85% طوال العمر النفطي ولكنها كانت تصل إلى 96% في مرات عدة. ويشمل الجمود أيضاً استقرار مستويات الإنتاج والتسعير على مدى سنوات طويلة جداً، فقد حافظت الكويت على مستوى إنتاج مليوني برميل من النفط يومياً في المتوسط وذلك منذ بداية عقد الستينيات في حين أن سعر البترول ظل محكوماً بإرادة الدول المستهلكة وليس المصدرة في معظم مراحل الحياة النفطية، وباستثناء بعض المنعطفات التاريخية كان النفط من أرخص المواد الأولية بل البضائع العالمية في الأسواق. ويظهر انعكاس جمود مستوى الإنتاج بلا شك على توزيع الثروة داخلياً، فمثلاً كان إيراد الدولة من النفط حوالي 160 مليون دينار عام 1961 وحوالي 280 مليون دينار عام 1969 في حين بلغ عدد السكان الكويتيين في السنة الأولى 113 ألف مواطن وفي السنة الأخرى حوالي 300 ألف مواطن، وهذا يعني أن حصة المواطن من الدخل النفطي كانت تتراوح ما بين 950 و 1450 دينار كويتي سنوياً، أما اليوم وفي ظل أسعار النفط الحالية فقد يكون متوسط حصة المواطن من الثروة النفطية حوالي 3200 دينار كويتي سنوياً. وإذا فاضلنا بين معدلات التضخم ومستويات المعيشة نجد أن مواطن الستينيات بالتأكيد أفضل حالاً وأكثر قناعة من مواطن عقد التسعينيات، بل أن حال المواطن اليوم لا يكاد يقارن مع المستوى الذي اعتاد عليه جيل الثمانينيات الذي كان في بحبوبة من العيش وبحصة تتراوح ما بين 7000 و 11000 دينار في بداية ونهاية عقد الثمانينيات، وإذا أخذنا بعين الاعتبار المدة الزمنية القصيرة التي تفصل عقد الثمانينيات والتسعينيات نجد أن غالبية جيل التسعينيات قد أحسوا الفرق الشاسع عما كانوا عليه قبل عشر سنوات. ومن المفارقات في هذا الخصوص أن الكثير من مشاريع التنمية والخطط الخاصة بتدشين البنية التحتية للبلاد قد تمت في السنوات الأولى من الاكتشاف النفطي بينما غابت مثل هذه المشاريع في العقود المتأخرة ورغم ذلك فأن الدولة تعيش حالة محرجة من الضائقة المالية وتراكم الديون الداخلية والخارجية، وهذا الاتجاه يخالف من الناحية الاقتصادية والمنطقية الحقيقة الكامنة في أن الثروة يجب أن تغذي نفسها وأن الغنى يجب أن يتعاظم في حالة استثماره بطريقة صحيحة ونزيهة، ولكن ما نراه هو فقدان رأس المال نفسه ناهيك عن تبخر العوائد والفوائض التي جمعتها الحكومة إبان أيام اليسر الاقتصادي، فقد خسرت الدولة ومنذ مطلع هذا العقد حوالي 65-70% من ثروتها المسالة وتم شفط احتياط الأجيال القادمة بل أصبحت الدولة مدينة بحوالي 10 مليارات دينار وهي أرقام مذهلة وخيالية إذا ما جمعت خصوصاً في ظل دولة يتجاوز عدد سكانها النصف مليون بقليل ويمتلك رصيداً نفطياً ضخماً، ولنا أن نتساءل ماذا سيكون عليه الوضع بعد 50 سنة أخرى في ظل العقلية المشلولة عن إيجاد بدائل أخرى للنفط واستمرار معدلات الضخ النفطي كما هي عليه الآن واستمرار النمو السكاني بين المواطنين بحسب المعدلات الحالية، فإذا وصل عدد المواطنين إلى ثلاثة ملايين نسمة بعد خمسين سنة وظل إيراد الدولة المعتمد على النفط بنسبة 90% فأنه عندئذ سيكون متوسط دخل الفرد 1000 دينار سنوياً (هذا إذا ما حسبنا عوائد النفط بحوالي ثلاثة مليارات دينار)، وبهذا المدخول لا يمكن للمواطن الكويتي حينذاك بالطبع أن يملك “غاري” الكتروني يذهب به إلى الدوام في وقت تكون شركات السياحة الدولية قد حددت رحلاتها الصيفية للسفر إلى الفضاء الخارجي أو قضاء الإجازات على سطح القمر!! |