06 نوفمبر 1993

ناقوس الخطر يدق في عالم الصحافة
حري بالمواطن الغيور والمتبصر أن يتفاعل وباستمرار مع أحداث الواقع المحلي من خلال التعبير عن الرأي إزاء مستجدات الساحة التي يعيش هواجسها وإفرازاتها ويتأثر بطبائعها المتقلبة والمتجددة، بل وتعد المشاركة الإيجابية في هذا البعد الاجتماعي-السياسي من أهم الدلائل في قياس مستوى الوعي الشعبي واحتساب نبضات الحياة في جسد صناعة التاريخ والمستقبل وما ستؤول إليه هذه الصناعة الحضارية من نتائج تقرير المصائر ليس للجيل المعاصر فحسب بل للأجيال الصاعدة وتلك التي أودعت صلب الرجال وأرحام النساء.

لكن المتتبع لإرهاصات الساحة الكويتية بعد تجربة الغزو والاحتلال وعودة الحياة الديمقراطية، يستشعر وابلاً من الاستقطاب الحدي والتطرف في تسييس مختلف قضايا المجتمع اجتماعية كانت أم اقتصادية أم فكرية وغيرها، بل أصبحنا نعيش السياسة ونمارس السياسة ونتغذى على السياسة في جميع أمورنا وسلوكنا اليومي دونما الانتباه إلى أننا قد انخرطنا في دوامة سياسية مغلقة فقدنا معها طبيعة الحياة العادية بعفويتها وفطرتها وتخصصاتها.

ولسنا نستدل على هذه الظاهرة الجديدة من وحي الخيال أو الحدس المرهف، وإنما من واقع ملموس ويومي وذلك من خلال صفحات الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية، فما يحدث على أعمدة وزوايا هذه القناة الإعلامية الوحيدة “إضافة إلى لقاءات المنتديات الديوانية” لا يمكن اعتباره، في أقل التقديرات، تفاعلاً طبيعياً وفقاً للمؤشرات السياسية المعتادة.

أن ما يحدث في الحقيقة هو صورة حية ناطقة بما يجري من تخبط واضح على أرض الواقع السياسي الآخذ في الاضطراب والمتجه بطبيعة الحال نحو منحنيات قاتمة وغير مأمونة العواقب، وهذا ما يجب التنبيه له والتحذير منه ولو بإطلاق صفارات الإنذار.

فإستراتيجية الذبح السياسي على منابر الإعلام الصحفي باتت هي الأداة المألوفة بدلاً من التعبير عن الرأي، وتحولت الصحافة الكويتية إلى جبهات للمعركة السياسية يدفع ثمنها القراء والمشتركون ويصب ريعها في جيوب البعض القليل.

ولسنا بصدد تحليل ورصد ما يكتب على صفحات الجرائد والمجلات من اتهامات وسباب وتجريح وسخرية، فهذه وإن دخلت في عمق اللعبة السياسية والسوق الحرة فهي لا تعكس سوى أخلاقيات أصحاب أقلامها وبرنامجهم السياسي المنظم والأضواء الخضراء التي فتحت بها طريق البث والإعلام، كما أننا لسنا بصدد إثارة العواطف ودغدغة المشاعر حول مفهوم الوحدة الوطنية والتباكي خوفاً من فقدها بسبب تمزق الساحة، إذ سوف يصدح الجميع وبصوت عال بأنهم يفعلون ما يفعلون حرصاً على الوحدة الوطنية، ولكن ما يهمنا هو طرح الواقع السياسي كما هو قائم وانعكاساته المباشرة وغير المباشرة على التنمية الشاملة لهذا البلد، والتي غدت دوائر الخطر تحوم من حولها غي أكثر من بعد، وفيما يلي نحاول استبيان جملة من هذه المحذورات:

أولاً: تقع إحدى مكامن الخطورة العامة في الاتجاه الكويتي الجديد والذي يمكن وصفه بالانغماس السياسي إلى أخمص القدمين Too Much Politics وفي ظل غياب التنظير السياسي السليم Little Political Science، على ركيزتين: الركيزة الأولى هي التقوقع على الداخل والانزواء على الذات والاستسقاء من ماء واحد هو منبع الواقع المحلي الصرف، وتتجلى خطورة هذا الضيق في الأفق من خلال حجب الرؤية عن الانفتاح على الواقع الدولي بتداخلاته وتعقيداته المنبثقة عن الثورات المتلاحقة والسريعة في عوالم الصنعة والإبداع والاتصال والمواصلات وحتى في قطاعات الاستراتيجيات السياسية والتأهب لحرب الحضارات العالمية القادمة! وأمر طبيعي أن تشغلنا الاهتمامات الداخلية والمحصورة في نطاق الصراع النفوذ السياسي والاستفراد بمفاتيح القوة القاهرة للآخرين عن رصد هذه التحولات الجذرية في محيطنا الأكبر، ولا سيما عندما نضع الكويت في موازين القوة العالمية ولعبتها الكبرى!

أما الركيزة الثانية في مكمن الخطورة الحالية فتتمثل في حالة الاستقطاب الشديد نحو محاور سياسية سواء للفئات المتعاطفة مع التيارات المتصارعة أو تلك المحايدة وانصهار الجميع رغباً أو كرهاً في بوتقة هذا التفاعل السياسي المتعاظم، ومما يزيد هذه المشكلة تعقيداً مسألة الضآلة البشرية في هذا المجتمع الصغير، فدوى السياسة والتسييس في مثل هذه الحالة وعلى ضوء اعتباراتنا الاجتماعية والديمغرافية سوف تنتشر بسرعة جنونية لتشمل كل إدارة ومؤسسة وديوانية وأسرة، وما دامت القضايا الهامشية ومعركة فلان وعلان في الصحافة وغيرها من الميادين هي المستحوذة على العقول فأن ذلك يعني اتساع دائرة العزلة حول حظيرة السياسة المحلية الضيقة ومزيد من الجهل والتقاعس عن الاهتمام بالبيئة الخارجية.

ثانياً: ينبع مصدر الخطورة الثاني من التكالب السياسي “المفرط”، وكما هو الواقع الحالي في استنزاف الطاقات المعتبرة في قطاعات أكثر إلحاحاً من النشاط السياسي الأعمى، وإذا احتسبنا الكم المتفاقم من الكتاب الصحفيين والتخمة التي ترسبت في ميدان الصحافة من مختصين أكاديميين في قطاعات علمية مهمة مثل الهندسة والطب ومروراً برجال الأعمال والمال وخطباء المساجد وأعضاء مجلس الأمة وقياديي الهيئات والمؤسسات ورجال القانون والفن، وانتهاءً بالبطالين والمتزلفين، واستقطعنا هذا الكم من سوق العمل وقطاعات الإنتاج التي تأهلوا لتجنيد قدراتهم من أجل الارتقاء بها نستطيع أن نقدر حجم الاستنزاف من استثماراتنا البشرية وقوتنا الإنتاجية، وقطعاً يعتبر هذا التوجه عالة على موارد العطاء العام وهدراً للكفاءات المعدة للعمل التخصصي المناسب لها، وخاصة إذا وجدنا المسارات العامة في الكتابة الصحفية تحمل نفس الأفكار والمضمون وذات الرسائل التي يتبادل من خلال السب والقذف تارة والدفاع والمديح لنفس التوجه ورموزه تارة أخرى، وتدخل التركيبة السكانية مرة أخرى كعامل مساعد على زيادة الاستنزاف من الثروة المحدودة جداً في هذا المجتمع؟

ويمكن الاستعاضة عن هذا التخبط الإعلامي والمزاحمة الصحفية لكل من هب ودب في هذا المضمار المتوخى فيه الأمانة والطرح الموضوعي وخاصة في ظل الاعتبارات الصحفية في هذا البلد حيث الصحف محدودة ولا ينبغي تحويلها إلى سلاح سياسي لفئة على حساب أخرى، ويمكن الاستعاضة عن ذلك باكتفاء التيارات السياسية بطرح برنامجها السياسي ومنطلقاتها المبدئية بواسطة ثلة من منظريها تبعاً لمعايير الجودة في الطرح واحترام الرأي الآخر واستخدام الحجة والمنطق بدلاً من القذف واللعان.

ثالثاً: ولعل أكبر مكامن الخطورة في الإفراط السياسي الحالي ينبع من زاوية عوامل التحطيم الذاتي Self-Destroying Forces والتي تعكسها مؤشرات واضحة، وأولى هذه المؤشرات تتمثل في تقهقر التسامح السياسي ونمو منحنيات الهيمنة من خلال أسلوب الإرهاب الفكري، وهذا ما يجمل في طياته نسف القاعدة المشتركة والموثقة دستورياً والمتجسدة في الديمقراطية، فالديمقراطية هي الضمان الوحيد وصمام الأمان لحفظ الحقوق وحياة الرأي والتنافس المشروع، ومن الواضح أن الاتجاه الحالي وبحسب مقتضيات الواقع الكويتي لا يصب في تعميق مسار الديمقراطية ولا حتى الحفاظ على مستوياتها الحالية بل العكس هو الصحيح، ومن الفداحة أن تتحول الديمقراطية كمبدأ ونظام إلى وسيلة تنسف قاعدتها بعد أن تتحقق الأهداف السياسية لأي فئة أو تيار من خلال قنواتها.

أما المؤشر الثاني في هذا الاتجاه فينعكس على تفشي ظاهرة المواجهة الإعلامية وتوغلها إلى أرض الواقع العملي وفي داخل دهاليز المؤسسات والإدارات، وخصوصاً أن نماذج حية من هذه المواجهة بدأت تظهر على المكشوف عن طريق التجميد الإداري مرة ووضع من حبته العين في المنصب الزين مرة ونهش خطوات المسؤولين في برامجهم التنفيذية من أجل التجريح السياسي لا غير والثناء على تخبطات البعض الآخر من أجل المصلحة السياسية لا غير مرة ثالثة. 

أما المؤشر الثالث والأخير فهو قصر النظر وبدائية التفكير عند الكثير من المنغمسين في السياسة في حالة الاعتقاد بأن التطبيل الإعلامي وإحراز النفوذ السياسي السريع هو ضمان لتحقيق الأهداف السياسية والمحافظة عليها لاحقاً، ولقد أثبتت تجارب التاريخ وملل الحضارات الغابرة منها والمعاصرة بأن استثمار الطاقات وفي مجالات الحياة المختلفة وتأهيلها والقدرة على تغذيتها المتواصلة وتطعيمها بأجيال ودماء جديدة هي السبيل الأوحد لتحقيق الأهداف بعيدة المدى والاحتفاظ بالتفوق لمدد أطول، ومن المهازل اعتبار انجازات النفوذ والعجب اللحظي بعدد من يمثل التيار السياسي في المناصب القيادية وإن لم تكن وفق اعتبارات الكفاءة والميزان العادل، أو التفاخر بعدد الكتاب في صحف ومجلات محلية لا تزيد عن أصابع اليد الواحدة واعتبار ذلك حلماً سياسياً تبنى عليه آمال تتحول فجأة إلى آلام ومحن، وكفانا الله شر المحن!