تم النشر في:
مجلة كلية الآداب: الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، المجلد 79، العدد 1، يناير 2019 (ص. 101-169)
* تم تمويل هذا العمل من قبل جامعة الكويت، مشروع بحث رقم (OL03/15)
الباحثون:
د. حسن عبدالله جوهر – قسم العلوم السياسية – جامعة الكويت
أ. د. غسان العزي – قسم العلوم السياسية – جامعة الكويت
ملخص البحث
ابتدع الباحث السياسي، ووزير الخارجية الفرنسي الأسبق، أوبير فدرين (VédrineHubert ) مصطلح “القوة الأعظم” ليميّز بين القوى العظمى والولايات المتحدة الخارجة لتوها من الحرب الباردة غداة انهيار جدار برلين في عام 1989، والتي وجدت نفسها على رأس النظام الدولي دون منازع، وفي تسعينيات القرن المنصرم انتشرت كتابات المحافظين الجدد الأميركيين الداعية إلى بسط سيطرة بلادهم على رأس النظام العالمي عبر استغلال اللحظة التاريخية التي قد لا تتكرر، حيث كانت روسيا تتخبط في حبائل الانتقال إلى اقتصاد السوق بينما كانت القوى العظمى الأخرى منهمكة في شؤونها الخاصة.
وصل المحافظون الجدد إلى السلطة مع فوز الرئيس جورج بوش الابن (2000-2008) لتسقط عليهم تفجيرات 11 سبتمبر 2001 كـ “نعمة من السماء” بحسب تعبير ستانلي هوفمان (Hoffmann Stanley)، التي استغلت بشكل أساسي لتطبيق سياساتهم الهادفة إلى السيطرة المحكمة على النظام الدولي.
بحثت هذه الدراسة أغوار السياسة الأميركية حيال النظام الدولي في عهد الرئيس جورج بوش الابن، من خلال الأزمات الدولية سيما في منطقة الشرق الأوسط التي كانت مسرحاً لمعظمها، كما ردود فعل القوى الدولية عليها، بغية رصد التأثير المتبادل بين هذه السياسة وتفاعلها مع سياسات القوى العظمى الأخرى من جهة، وهيكلية النظام الدولي من جهة أخرى، وفهم أسباب صمود هذا النظام المذكور أمام محاولات تطويعه لمصلحة قوة عظمى واحدة، وقدرته على فرض تغييرات جذرية في أنماط سلوك القوى العظمى في الساحة الدولية.
——————————————-
المصطلحات الأساسية: العلاقات الدولية، السياسة الخارجة الأمريكية، المحافظون الجدد، النظام العالمي الجديد.
Reciprocal Influence Between International System Structure and Superpowers’ Policies: The Administration of President George Bush, Jr. as a Model
Abstract
Former French Foreign Minister, Hubert Védrine, invented the term “Hyper Power” to distinguish the United States as an undisputed world’s leader following the fall of the Berlin Wall in 1989. By mid 1990s, a widely spread writings of American Neo-conservatives called for US global hegemony through the exploitation of such an historic moment, which may not be repeated. In the words of Stanley Hoffman, the September 11 bombing was a “blessing from heaven” for the Bush Administration to take a full control of the new International System.
This paper attempts to explore US foreign policy perception of the world order under President George Bush. American reactions to international crises, especially in the Middle East, which was the scene for the most part, will be analyzed. In addition, the response of other international powers to the same events will be evaluated. Reciprocal influence of both US and other super powers on the world system will be compared to assess its potency to resist any monocular recommitment by a single power. Most importantly, a recusant world order is more likely to impose drastic changes in the patterns of behavior even on the great powers in the international arena.
——————————————-
Key Words: International Relations, US Foreign Policy, Neo- Conservatism, New World Order.
التأثير المتبادل بين بنية النظام الدولي وسياسات القوى العظمى: إدارة الرئيس جورج بوش الابن نموذجاً
مقدمة
تناولت هذه الدراسة التأثير المتبادل بين سياسات القوى العظمى وبنية النظام الدولي في خلال العقد الأول من الألفية الجارية، وتطبيق ذلك على حالة الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس جورج بوش الابن (2000-2008)، حيث شهدت تلك الفترة العديد من الأزمات الدولية، بعضها كانت الولايات المتحدة ضحية لها ومنها ما افتعلتها سعياً وراء أهداف محددة، ففي البداية كانت تفجيرات 11 سبتمبر 2001 التي أدخلت بنتائجها تغييرات جذرية على مفاهيم الإدارة الأمريكية الأمنية الكلاوزفيتسية، نسبة إلى كارل فون كلاوزفيتس (Carl von Clausewitz)، فجاءت ردة فعل واشنطن المباشرة متمثلة باحتلال أفغانستان ثم العراق، الأمر الذي تسبب بدوره خارجياً بأزمات دبلوماسية خلطت أوراق التحالفات الدولية، ولم تتمكن حتى إدارة الرئيس باراك أوباما التالية وعلى مدى دورتين رئاسيتين (2008-2016) من إعادة ترتيب هذه الأوراق وفقاً للمصالح الأميركية على الرغم من إتباعها سياسات جديدة اختلفت بشكل كبير مع تلك التي اتبعتها الإدارة الجمهورية السابقة.
وتزامنت تلك الأحداث الدراماتيكية المهمة مع هيمنة فكر المحافظين الجدد على مفاصل الإدارة الأمريكية، خاصة في مواقع اتخاذ القرار كوزارتي الخارجية الدفاع ومجلس الأمن القومي، مما فتح المجال واسعاً أمام كبار منظري اليمين المتطرف لإخراج أدبياتهم الأيديولوجية ونظرياتهم الأكاديمية من المنظور الفكري إلى حيّز التنفيذ الفعلي، بل على صعيد رسم وتحديد طبيعة العلاقات الدولية وهيكلية النظام العالمي، ومحورية الدور الأمريكي المهيمن في هذا الصدد.
لذلك، استندت هذه الدراسة على الأطروحات السياسية للعديد من منظري المحافظين الجدد في الحزب الجمهوري (من أمثال ريتشارد بيرل، بول وولفوفيتز، روبيرت كيغان، وليام كريستول، ديك شيني، وليام كريستول، لورانس كابلان، ستانلي هوفمان، رونالد آسموس، روبرت كابلان)، ودعواتهم المستمرة لتولي الولايات المتحدة زعامة النظام العالمي دون منازع، وتطبيقات ذلك على العقيدة السياسية لإدارة الرئيس بوش التي استغلت الحرب على الإرهاب مدخلاً للعديد من السياسات الاستباقية في العالم، خاصة في منطقة الشرق الأوسط، وإعادة رسم العلاقات الأمريكية بحلفائها وخصومها على حدٍ سواء، من أجل إرساء أو فرض نموذج القطبية الأحادية على هيكلية النظام الدولي، بالإضافة إلى مناقشة أبرز التحديات التي واجهتها الحكومة الأمريكية أمام تحقيق هذا الطموح السياسي الجريء.
من جهة أخرى، استعرضت الدراسة الأدبيات السياسية المناهضة لفكر اليمين المحافظ ولنموذج القطبية الأحادية، من المدرسة الأمريكية نفسها بالإضافة إلى المدرسة الأوربية (من قبيل هنري كيسنجر، زبيغنيو بريجنسكي، جوليان فايس، برونو ترتريه، برتران بادي)، والناقدة بشدة للاستراتيجية الأمريكية الجديدة وسياساتها في بعديها النظري والتطبيقي.
انقسمت الدراسة إلى فصلين رئيسيين، حيث تناول الفصل الأول منظور الإدارة الأمريكية للنظام الدولي كما يراه المحافظون الجدد، خصوصاً من تقلد منهم مناصب سياسية رفيعة المستوى، وردة فعلهم على تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 في العمق الأمريكي، وموقفهم من القوى المنافسة للولايات المتحدة، وأخيراً محورية الشرق الأوسط كبوابة الدخول نحو عالم القطبية الأحادية.
واستعرض الفصل الثاني السياسة الأمريكية الرامية إلى بسط نفوذها على النظام الدولي انطلاقاً من منظور الشرق الأوسط الجديد، انطلاقاً من العراق تحديداً، وإيذاناً بعصر استخدام القوة العسكرية بشكل منفرد في غزو الدول الأخرى بغرض احتلالها وتغيير أنظمتها السياسية، حيث تم مناقشة وتحليل النجاحات والإخفاقات الأمريكية على صعيد إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط الكبير فكرياً وسياسياً، وتغيير مسار العلاقات مع حلفائها الأوربيين، بالإضافة إلى عرض ردود فعل القوى المنافسة لها في النظام الدولي ومواقفها السياسية تجاه محاولات واشنطن للاستفراد بقيادة العالم، وفي مقدمتهم كل من روسيا والصين.
أفضت الدراسة إلى خلاصة مفادها أن العلاقة بين سياسات القوى العظمى وهيكل النظام الدولي القائم تتسم بالتأثير المتبادل، فبالقدر الذي يؤثر فيه هيكل النظام الدولي على سياسات القوى العظمى يتأثر النظام الدولي نفسه بالطريقة التي تدار فيها هذه السياسات، حتى يتخذ شكلاً آخر من أشكال القطبية العالمية.
كما خلصت الدراسة إلى أن طبيعة النظام الدولي يميل إلى مقاومة الأحادية القطبية بحيث لا تستطيع دولة بمفردها، مهما أوتيت من مقومات القوة، أن تمارس سيطرة مركزية ودائمة عليه، وهي النتيجة التي انتهى إليه التحليل بشأن إدارة الرئيس بوش، ومنظورها اليميني المتطرف حيث آلت مساعيها الرامية لتطويع النظام الدولي وجعله أحادياً تحت قبضتها إلى كشف ما يعرف بمعضلة “عجز القوة” في العلاقات الدولية المعاصرة.
منهجية الدراسة
(1) مشكلة الدراسة:
انطلقت فكرة الدراسة من خطورة الأحداث السريعة والمتلاحقة التي شهدتها الساحة الدولية بعد تولي جورج بوش الابن رئاسة البيت الأبيض في الولايات المتحدة بدءً بالهجمات الإرهابية على نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر 2001، التي استغلتها الأيديولوجية اليمينية المحافظة المحيطة بالقرار الأمريكي فوراً لإعادة هيكلية النظام الدولي وفق الإرادة الأمريكية وقراراتها الأحادية، خاصة في اللجوء إلى استخدام القوة العسكرية على نطاق واسع، والتي تمثلت في إعلان الحرب على أفغانستان والعراق واحتلالهما، دون الاكتراث بردود فعل المنظمة الدولية ومواقف القوى العالمية الأخرى، بما فيها الدول المنافسة، ناهيك عن ما قد يطرأ على هيكلية النظام الدولي القائم وقواعد العلاقات الدولية في ظله، أو النتائج المترتبة على مثل هذه التغييرات الجذرية، خاصة ما يتعلق بتحديات الأمن والسلام العالميين، وضرورة اختبار قدرة النظام الدولي عبر مكوناته من الدول والمنظمات الإقليمية منها والعالمية على الصمود ومواجهة هذا التحدي الجدي والأحادي الجانب، وفي ظل عالم مختلف تماماً ومحاط بشبكة شاملة من التقنية المعلوماتية والتشابك المعقد من المصالح والترسانة الرهيبة من القوة العسكرية بما فيها أسلحة الدمار الشامل الفتاكة والعابرة للقارات.
(2) الأسئلة البحثية:
سعت الدراسة إلى التحقق من مدى صحة مقولة بحثية أساسية مفادها أن العلاقة بين سياسات القوى العظمى وهيكل النظام الدولي القائم، سيما وقت وقوع الأزمات، تتسم بالتأثير المتبادل، فبالقدر الذي يؤثر فيه هيكل النظام الدولي على سياسات القوى العظمى، من حيث تحديد أهدافها ورؤاها وطريقة إدارتها للأزمات وكيفية تحقيقها لمصالحها، يتأثر النظام الدولي نفسه بالطريقة التي تدار فيها هذه السياسات، إلى حد حدوث تحول كامل فيه، ليتخذ شكلاً آخر من أشكال الهيكلية القطبية.
كما امتحنت الدراسة فرضية أن النظام الدولي بطبيعته ينزع إلى مقاومة نموذج القطبية الأحادية، بحيث لا تستطيع دولة بمفردها، مهما امتلكت من أسباب ومقدرات القوة، الصلبة والناعمة، أن تمارس سيطرة مركزية منفردة ومستديمة عليه، وبناءً على ما سبق تم طرح الأسئلة البحثية للدراسة على النحو التالي:
(أ) ما هي رؤية المحافظين الجدد التي تبنتها إدارة الرئيس جورج بوش الابن للنظام الدولي والقائم على هيكلية القطبية الأحادية، وموقفهم من القوى العظمى المنافسة للولايات المتحدة؟
(ب) كيف ساهمت تفجيرات سبتمبر 2001 الإرهابية في تطبيق رؤى اليمين المتشدّد توخياً لبناء نظام عالمي جديد أحادي القطبية وأميركي القيادة؟
(ج) ما هو موقع ودور منطقة الشرق الأوسط في عقيدة جورج بوش الابن ومحورية ذلك في النظام العالمي الأمريكي المنشود؟
(د) كيف كانت استجابة بنية النظام الدولي، على صعيد القوى الرئيسية فيه، تجاه المساعي الأمريكية للاستفراد بالزعامة السياسية العالمية؟
(3) أهمية الدراسة:
تنبع الأهمية العلمية لهذه الدراسة مما تمثله من إضافة علمية للدراسات في حقل العلاقات الدولية والنظام العالمي، خاصة فيما يتعلق برصد وتحليل علاقة التأثير المتبادل بين سياسات القوى العظمى وبنية النظام الدولي، فقد ساد نموذج النظام الكوني المتعدد القطبية قبل الحرب العالمية الثانية نتيجة لتوازن قوى كان قائماً بين الأقطاب الكبرى الأوربية المؤثرة فيه، ثم استبدل بنظام ثنائي القطبية في أعقاب الحرب العالمية الثانية حين تقاسم النفوذ فيه، وعلى مدى نصف قرن من الزمن، قوتان عظيمتان هما الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأميركية، وبعد نهاية حقبة الحرب الباردة اتسم هذا النظام بالسيولة والغموض على خلفية محاولات أميركية للانفراد بقيادته في عهد الرئيس جورج بوش الأب (1990-1994)، إلا أن تلك المحاولات سرعان ما اتسمت بالوضوح والجرأة والعلنية في عهد الرئيس بوش الابن، الذي استخدم كل وسائل الضغط السياسي والعسكري والاقتصادي في سبيل تحقيق هذا الغرض، ولكن حيال إخفاق إدارة الرئيس بوش في تحقيق أهدافها جاءت حكومة الرئيس باراك أوباما لتمارس سياسة مغايرة تماماً نتج عنها تأثير متبادل ومختلف مع النظام الدولي الذي لم يعد أحادياً ولا ثنائياً بل ينزع إلى شكل جديد من أشكال التعددية غير ذلك الذي كان سائداً قبل الحرب العالمية الثانية، ولذا فأنه من الأهمية بمكان تحديد ملامح هذا النموذج الجديد من خلال التغيير الجذري في السياسة الخارجية الأمريكية من ناحية، وبروز الدور المحوري للقوى الرئيسية في العالم مجدداً من ناحية أخرى.
(4) المنهجية العلمية:
قد لا تختلف مدرسة الواقعية الجديدة أو البنيوية في شكلها الجديد عن الواقعية التقليدية بخصوص اعتبار العوامل النابعة من البيئة الخارجية كمحدد رئيسي للسلوك الخارجي للدول، وذلك انطلاقاً من الأساس الذي يؤكد ندرة الأمن وفوضوية النظام الدولي، ويدافع كينيث وولتز (1979)، (2001) (Kenneth Waltz) عن هذا المنظور المنهجي (Systemic Perspective)، حيث أن المنظومة الدولية تفرض طريقة معينة على شكل الوحدات التابعة لها وتصرفاتها عن طريق مظاهرها الضاغطة والسائغة، أي أن المنظومة الدولية هي بنية تفرض نفسها على عناصرها في نظر وولتز وتشكّل بالتالي كل خيارات السياسة الخارجية للدولة.
الأمر الأهم الذي جاء به كينيث وولتز أنه بيّن أن تفاعل الكيانات من دول ومنظمات وشركات وغيرها، فيما بينها، ينتج فاعلاً جديداً ومستقلاً عن الأطراف المشكلة له، ويتمثل ببنية النظام الدولي نفسه، حيث أن الطبيعة الفوضوية لهذا النظام الدولي هي التي تحدد سلوك كياناته المختلفة، ونضيف بأن سلوك الفواعل يعود بدوره ليحدد بنية النظام الدولي في تأثير متبادل فيما بينهم.
لذلك، فأن النظام الدولي هو المتغير المستقل في هذه الدراسة، وبالتالي فأن السياسة الأميركية هي متغير تابع له، وبطريقة التغذية العكسية تضحي السياسة الأميركية متغيراً مستقلاً بينما يكون النظام الدولي هو المتغير التابع، وبالطريقة نفسها أيضاً تكون السياسة الأميركية متغيراً مستقلاً وسياسات القوى العظمى الأخرى متغيراً تابعاً، وهذا الفاعل يتحول من جديد ليغدو متغيراً مستقلاً حيال النظام الدولي كمتغير تابع، وذلك في حركة دائرية مستمرة.
هذا التصور أو النموذج (Model) يفرض انتهاج بحثنا لمنهج تحليل النظم الذي تميّز به دافيد إيستون (1957) (David Easton)، ويتخذ من النظام الدولي وحدة للتحليل باعتبار أنه مكوّن من وحدات معينة من العناصر المتفاعلة والمترابطة، ووفقاً لهذا المنهج يحدث التفاعل أفقياً بين الوحدات الموجودة على المستوى نفسه أو رأسياً بين الوحدات الموجودة على أكثر من مستوى، كما أن النظام يعيش في بيئة يتفاعل معها أخذاً ورداً، ولذا يركّز البحث وفقاً لهذا المنهج على التفاعل بين القوى العظمى عند قمة النظام الدولي في مجال إدارة الأزمات الدولية.
على هذه الخلفية تعتمد الدراسة على المنهج التحليلي القائم على التفكيك والتركيب في انتقال مستمر ما بين الاستقراء والاستنباط، بالاعتماد على الملاحظة غير المباشرة من خلال المصادر الأساسية الموثقة للأخبار والمعلومات، كالبيانات الرسمية وتصريحات القادة بالإضافة إلى الكتب والدراسات الصادرة عن أصحاب القرار والمحللين المقربين منهم كما المراقبين من أصحاب الخبرة والتجربة.
الدراسات السابقة
تزخر أدبيات النظام الدولي، والمواضيع المتعلقة بالمفاهيم والنظريات والتحليلات الخاصة به، بمرجعية ضخمة من الدراسات والبحوث العلمية لعدة أسباب لعل من أهمها أن هيكلية النظام العالمي تعد عصب السياسة الدولية، ونقطة ارتكاز أساسية في شرح ديناميكيته وتفسير السلوك الخارجي للدول التابعة له، وطبيعة العلاقات الثنائية والجماعية التي تربط مكوناته من الدول القومية والهيئات والمنظمات السياسية والفواعل الأخرى من غير الدول مع بقية عناصر المنظومة الدولية، في حركة متواصلة تحمل معها مختلف أشكال التفاعل الإيجابي والسلبي، كما تغذيها الحالة المستمرة لتعزيز إمكانيات دول العالم، وبغض النظر عن حجمها وموقعها الجغرافي، من مصادر القوة بجميع أنواعها الصلبة والناعمة.
كما أن جدلية نظريات السياسة الدولية، واختلاف منطلقاتها الفكرية والأيديولوجية ساهمت في ظهور العديد من المدارس والمناهج العلمية المتنافسة في تحليل تطبيقات العلاقات الدولية المعاصرة ومنها هيكلية النظام الدولي نفسه، الأمر الذي أثرى إلى حد كبير الإسهامات الأكاديمية في هذا الشأن.
إضافة إلى ذلك، فأن طبيعة الأحداث السياسية وتحولاتها الرئيسية والنتائج المترتبة عليها، تحمل في طياتها بروز قوى سياسية أو تعاظم قدراتها مقابل تراجع قوى أخرى أو ضمورها، على الصعيد العسكري أو الاقتصادي أو الأيديولوجية السياسية، وتتأثر معها مواقع النفوذ والسيطرة والتحكم في القرارات الدولية، وهذا ما يستدعي مواكبة مثل هذه التغييرات المستمرة نظرياً في المجال البحثي والأكاديمي.
من جهة أخرى، فأن محورية الولايات المتحدة في السياسة الدولية المعاصرة وتأثيرها الفعّال في مجمل الأحداث العالمية، يحتّم على صناع القرار والمختصين من المفكرين والباحثين متابعة ورصد واستقراء الأهداف الاستراتيجية والمصالح القومية الأمريكية وآليات تنفيذها في الخارج، خاصة في ظل الرؤى الفكرية أو العقيدة السياسية للإدارات الأمريكية التي تتولى السلطة في واشنطن، وهذا بحد ذاته مجال خصب لكم كبير من الدراسات المتجددة في حقل العلاقات الدولية.
وأخيراً، جاءت تفجيرات 11 سبتمبر عام 2001 لتضيف بعداً جديداً ومهماً في عالم السياسة الدولية مع بداية الألفية الثالثة، حيث كشف الهجوم على قلب الولايات المتحدة التجاري في نيويورك ومعقل القوة العسكرية المتمثل بوزارة الدفاع في العاصمة واشنطن، بأن أكبر قوة عسكرية على وجه الأرض يمكن اختراقها وضربها في عقر دارها أيضاً، ليس فقط من قبل دولة معادية بل من مجموعات إرهابية فرضت نفسها على المسرح العالمي، وغيرّت الكثير من المفاهيم التقليدية في عالم السياسة الدولية، الأمر الذي أسهبت الأكاديميات والمراكز البحثية في تداولها من مختلف الأبعاد النظرية والعملية.
إذا أخذنا المحاور الثلاثة سالفة الذكر، نكون أمام كم هائل من الدراسات المتنوعة في تفاصيلها ورؤاها الفكرية، كما لم تخلو الأدبيات العلمية والدراسات السابقة من البحوث والكتب الأكاديمية التي ربطت بين بنية النظام الدولي ومحاولات الولايات المتحدة الأمريكية لتولي دور الزعامة فيها، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر التي تزامنت مع سيطرة المحافظين الجدد على إدارة شؤون الحكم في عهد الرئيس جورج بوش الابن خلال الفترة من عام 2000 حتى عام 2008.
ومن أجل البناء المنهجي لهذه الدراسة والأسئلة البحثية المطروحة آنفاً سوف يتم استعراض مجموعة من الدراسات المتعلقة بمفهوم النظام الدولي ومركزية القطب الأمريكي فيه والآراء المؤيدة لنموذج القطبية الأحادية للولايات المتحدة أو الدفع نحوها، وتلك المعارضة لها، كما يناقش هذا الجزء أهم الدراسات التي عرضها مفكرو اليمين الأمريكي المتطرف أو من يعرفوا بالمحافظين الجدد، كونها تحمل العقيدة السياسية لنموذج القطبية الأحادية والدفاع المستميت عن أحقية وجدارة الزعامة الأمريكية في العالم بدون منازع، لأنها تأتي في صميم أهداف هذه الدراسة وفرضياتها الأساسية ومحاورها البحثية.
فقد ربط مصطفى علوي (2015) في دراسته “القطب المنفرد: الولايات المتحدة الأمريكية والتغيير في هيكل النظام العالمي” بين هيكل النظام الدولي وقدرته على أداء وظيفته، فكلما استمرت قدرة النظام على أداء دوره بقي هيكله صامداً، مضيفاً بأن لكل نظام دولي ثلاثة مستويات: الأول، هو المستوى الأعلى ويضم الدول العظمى أو القائدة، تليها في المستوى الثاني دول لها وزنها داخل النظام لكنها غير قادرة على إدارته، في حين تقبع غالبية الدول الصغيرة في المستوى الثالث بلا حول ولا قوة.
وبيّن علوي بأن نظام القطبية الثنائية الذي انهار بسقوط الاتحاد السوفيتي خلق فراغاً كبيراً أفسح المجال أمام الامتداد الغربي لدور عالمي أكبر تمثل في قوة الولايات المتحدة الفائقة وتوسع حلف شمال الأطلسي والإعلان عن انتصار الفكر الليبرالي بجناحيه، الديمقراطية السياسية والاقتصاد الحر، إلا أن الفضاء العالمي أيضاً شهد تطورات جديدة منها ظهور الفكر الديني المتشدد على مستوى واسع، بالإضافة إلى بروز قوى متعاظمة جديدة كالصين واليابان والبرازيل وجنوب أفريقيا في ظل ولادة عصر العولمة وتوسّع قاعدة شبكة المجتمع المدني العالمي.
كما أوضح علوي أنه على الرغم من بروز الدور الأمريكي فور سقوط الشيوعية، ودور الولايات المتحدة في قيادة عملية تحرير الكويت من الاحتلال العراقي تحت مظلة الأمم المتحدة وبتحالف عالمي غير مسبوق، ثم التوجه نحو البوسنة والهرسك وبعدها الصومال للهدف نفسه، إلا أنه سرعان ما تبدلت الخارطة العالمية وموازينها لغير صالح الأولويات الأمريكية، وبمعنى آخر فقد سادت القطبية الأحادية مؤقتاً قبل أن تحتويها معالم العولمة من خلال ثورة التكنولوجيا والمعلومات وتنامي نظام الاقتصاد العالمي المعقد وتشابك المصالح وظهور قوى جديدة على الساحة العالمية، مما يمكن القول معه بأن النظام الدولي لم يستقر بعد على هيكلية محددة واضحة المعالم.
كما طرح علوى ثلاثة اتجاهات لمسار بنية النظام الدولي المرتقب هي: (1) عودة القطبية الأحادية بزعامة الولايات المتحدة ولكن في ظل تحالف القوى الأوربية التقليدية والجديدة القادمة من أوربا الشرقية مع ضمان عدم اعتراض الصين على ذلك (2) الاتجاه الدافع نحو التعددية القطبية التي دخلت روسيا والصين واليابان والاتحاد الأوربي طرفاً فيه (3) الرأي القائل بأن النظام الدولي لم يستقر بعد، وقد يحتاج إلى سنوات عديدة حتى تحدد ملامحه على ضوء جملة من التحديات الكبرى غير المسبوقة منها آثار العولمة على البيئة والعنف والإرهاب، واتساع الفوارق في مؤشرات الاقتصاد والتكنولوجيا والثقافة ليس فقط على مستوى الدول بل حتى الأفراد والجماعات، الأمر الذي يطرح اتجاهاً جديداً نحو العالمية، حيث سيادة القيم الانسانية والمصالح المشتركة المعقدة والاعتماد الاقتصادي المتبادل.
في أحد أحدث الدراسات العربية في هذا الصدد، وصف مهند حميد الراوي (2015) في كتابه “عالم ما بعد القطبية الأحادية الأمريكية: دراسة في مستقبل النظام السياسي الدولي” القطبية الأحادية بأنها قوة فائقة نتيجة التمركز الشديد للموارد والامكانيات على نحو يجعلها وحدة دولية متفوقة بمقاييس عصرها على بقية الوحدات، كما أنها قوة ذات طبيعة تسلطية وتحمل رسالة كونية وتمتلك القدرة على التدخل في مناطق العالم جميعاً، واعتبر أن الولايات المتحدة هي تلك القوة التي من شأنها أن تحدّد معالم النظام الدولي وهيكليته وطريقة أدائه، وكلما ضعف الدور الأمريكي في الهيمنة على النظام السياسي الدولي أدى ذلك إلى الاتساع الأفقي في قمة الهيكل العالمي، كما ربط الراوي قوة وضعف الدور الأمريكي عالمياً بتأثير المحافظين الجدد، مؤيداً بذلك الرأي بأن الولايات المتحدة تمتلك المقومات العسكرية والاقتصادية لممارسة للزعامة الدولية خاصة مع توفر الأرضية الفكرية والمرجعية التي تستمدها من وجود فكر اليمين المتطرف.
واستدرك الباحث أنه في مقابل التفرد الأمريكي بالسلطة ظهرت مؤشرات واضحة على ولادة صراع خفي ليس فقط من خصوم الولايات المتحدة بل من حلفائها الغربيين، الأمر الذي اتضح في مواقف دول مثل فرنسا والمانيا وإسبانيا، ومن خلفهم الاتحاد الأوربي ضد القرارات الأحادية الأمريكية، خاصة فيما يتعلق بالتدخل العسكري المباشر والمنفرد في أقاليم العالم المختلفة سيما منطقة الشرق الأوسط، وهذا ما قاد الأوربيين إلى الدفع باتجاه نظام القطبية التعددية وفق مبدأ الشراكة الحقيقية أو شبه الحقيقية حيث تتساوى فيها الالتزامات والمخاطر والمكاسب بين الحلفاء، إلا أن الراوي يرشّح استمرار حالة القطبية الأحادية نظراً لما تمتلكه الولايات المتحدة من مقومات القوة، كما يمكن للطرف الأمريكي في ظل استمرار التحديات أن تستبدل الأحادية المطلقة بآلية “القيادة بالشراكة”، ولذا سوف تبقى الولايات المتحدة قوة عالمية مهيمنة في الأمد القصير مع استمرار القوة الدافعة للمحافظين الجدد التي تعاود بين فترة وأخرى الإمساك بمراكز القرار في واشنطن، كما هو حاصل حالياً بعد تولي دونالد ترامب رئاسة البيت الأبيض.
من جهته، اعتبر دونالد أبلسون (Donald Abelson) (2005) مراكز البحوث والدراسات والعصف الذهني (Think Tanks) في الولايات المتحدة مميزة وذات قدرة فائقة على المشاركة بالقرار السياسي بصورة غير مباشرة وأحياناً بشكل مباشر، وذلك على عكس الكثير من بقية دول العالم، وأشار في دراسته بعنوان “مؤسسات الفكر والرأي وسياسة الولايات المتحدة الخارجية: نظرة تاريخية” أن عدد هذه المنظمات قد بلغ أكثر من 2000 منظمة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث تطورت من كونها منظمات أكاديمية وفكرية غير ربحية تقدم المشورة لصناع القرار إلى مؤسسات تتعاقد مع الحكومة الأمريكية لتقديم الاستراتيجيات ورسم السياسات خاصة الخارجية منها بشكل تفصيلي، فتحولت بذلك إلى لاعبين مهمين في السياسة الأمريكية، بل أصبحت هذه المنظمات منطلقاً لتهيئة النخب السياسية ودخولها معترك السياسة الفعلية بما تحمل من نظريات وأفكار وأطروحات، كما استغلها اليمين الأمريكي بشكل ملفت تحديداً مع انهيار المنظومة الشيوعية في بدايات تسعينيات القرن الماضي.
ويشارك سعد سلوم (2005)، في بحثه “المحافظون الجدد وترسيخ بنية العنف في العلاقات الدولية”، أبلسون هذا الرأي بالقول بأن مفكري اليمين من المحافظين الجدد، ممن ترجع بداياتهم الحقيقية في عالم السياسة إلى عهد الرئيس رونالد ريغان مع بداية الثمانينات من القرن الماضي، قد تسيدوا بالفعل مؤسسات الفكر السياسي الأمريكي وباتوا على درجة كبيرة من الهيمنة على القرارات المركزية، ونجحوا بذلك في السيطرة على زعامة البيت الأبيض لثلاثة دورات متتالية إبان حكم الرئيسين الجمهوريين ريغان وبوش الأب، ثم عادوا مجدداً مع جورج بوش الابن، كما يسعون إلى منع أية قوة فعلية لمنافستهم فكرياً وسياسياً، ويساعدهم في ذلك أجواء التوتر الدولي المتواصلة والمتجددة، حيث الحرب الباردة في زمن الشيوعية العالمية، ثم الغزو العراقي للكويت، ومن بعد ذلك مظاهر التعصب العرقي في أوربا المتمثل بالبطش الصربي في إقليم البلقان، وأخيراً تصاعد موجة التطرف والإرهاب الديني حول العالم.
كما أكّد هذا المعنى الباحث علاء بيومي (2008) في دراسته “جون ماكين والشرق الأوسط والولاية الثالثة للمحافظين الجدد” حيث السعي الحثيث للمحافظين الجدد على التمسك بمقاليد الأمور في البيت الأبيض من خلال الدفع بقوة في السيناتور الجمهوري جون ماكين (John McCain) لخلافة الرئيس جورج بوش الابن، والاستفادة من أخطاء الإدارة السابقة إذ يتفوق ماكين بخبرته وعقلانيته ونظرته الواقعية ذات الميول المحافظة على الرئيس السابق، بدليل استمرار الرجل، ورغم خسارته لسباق الرئاسة الأمريكية أمام باراك أوباما، في مناكفة القرارات الرسمية للرئيس الديمقراطي في طريقة الخروج من العراق وأفغانستان، ونقده الشديد والمنهجي في تعاطي البيت الأبيض مع الثورة السورية، الذي عبّر عنه بشكل عملي لإحراج إدارة أوباما من خلال زياراته الميدانية المتكررة للمنطقة، واحتضانه للفصائل المقاتلة ضد حكم الرئيس بشار الأسد والمشاركة في اجتماعات القيادة العسكرية للثوار في تركيا والأردن، استكمالاً لمبدأ تغيير الأنظمة القمعية بالقوة واستبدالها بنظم موالية للولايات المتحدة الذي سار عليه الرئيس جورج بوش في أفغانستان والعراق.
ومن الملفت أن الكثير من منظري الاستراتيجية الأمريكية البارزين يسيرون عكس توجه القطبية الأحادية، سواءً من الناحية المبدئية أو من بين المحافظين الجدد الذين تبدّلت مواقفهم نتيجة الاصطدام بالواقع السياسي الدولي وتعقيداته وتحدياته وإخفاق التجربة الأمريكية الأحادية في كل من أفغانستان والعراق على وجه التحديد.
نعوم تشومسكي (Noam Chomsky)، ذو التوجه اليساري البارز، على سبيل المثال يعارض من حيث المبدأ السياسة الخارجية الأمريكية، واصفاً الولايات المتحدة بالقوة الامبريالية الكبرى، وفي كتابه “الهيمنة والبقاء: سعي الأمريكي إلى السيطرة على العالم” (2004) (Hegemony or Survival: America’s Quest for Global Dominance)، عرض تشومسكي ثلاثة ثوابت في السياسة الأمريكية محاولاً تفنيد دواعي أحداث 11 سبتمبر كمبرر للاستخدام المفرط للقوة العسكرية في الخارج وبخاصة في مثالي أفغانستان والعراق، فحسب رأيه، لم يكن غزو أيٍ من البلدين بمثابة ردة فعل على تفجيرات نيويورك وواشنطن، ولكنها امتداد طبيعي لاستراتيجية الهيمنة الأمريكية على العالم دامت على مدى نصف قرن من الزمن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945.
بالنسبة لتشومسكي، فأن الثوابت الثلاثة للسياسة الإمبريالية الأمريكية تنطلق أولاً من الاستراتيجية المعلنة للأمن القومي التي تصرّح باستمرار بأن على الولايات المتحدة السعي من أجل الهيمنة الشاملة على العالم ودون منازع، مستخدمة قوتها التي تفوق العالم مجتمعاً، ثانياً جاء غزو العراق بمثابة الإعلان عن دق طبول الحرب، إذ لم يكن صدام حسين سوى عبرة لغيره، ولذلك تم تضخيم خطره ولو بالمبالغة الإعلامية واتهامه بدعم الجماعات الدينية المتطرفة بالإضافة إلى امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل، فالحرب على العراق حمل رسالة مفادها أن الولايات المتحدة لن تتردد بالقيام بأي هجوم في أي مكان في العالم دون ذرائع مقبولة أو معقولة، ودون ترخيص دولي أو حتى طلب المساعدة من أحد، وعلى الدول الأخرى إما اللحاق بركبها كحلفائها المقربين أو التزام الصمت كالقوى المنافسة، ثالثاً أن الحملات الانتخابية للحزب الجمهوري في مجالي السياسة الاقتصادية والاجتماعية غير مقبولة شعبياً وضد غالبية الشعب، لذا فأن تركيز الجمهوريون يكون غالباً على قضايا الأمن القومي وعبر الضغط على “زر الرعب” الذي ابتدعه الرئيس رونالد ريغان في مواجهته المتشددة مع الاتحاد السوفيتي طوال مدة حكمه (1980-1988).
كما وصف تشومسكي الحروب التي تشنها واشنطن في الخارج بـ “الاستباقية” كونها ترمي أيضاً إلى تعزيز وتأكيد فكرة الهيمنة والقضاء مبكراً على بؤر التهديد للزعامة الأمريكية، دون أن يكون للشعار النبيل الذي ترفعه واشنطن في إيجاد الديمقراطية حول العالم أية علاقة جادة، كما لا تتورع واشنطن في تهديد الدول التي لا تساندها في قرارات الحرب، وإن كانت من بين أصدقائها، مستنداً في ذلك إلى مطالبة مساعد وزير الدفاع بول فولفوفيتز الأتراك بالاعتذار عن موقفهم المعارض للحرب من أجل إسقاط نظام صدام حسين في العراق عام 2003 وإلا سوف يندمون على ذلك.
من جهته، حذر المستشار السابق للأمن القومي الأمريكي زبيغنيو بريجنسكي (Zbigniew Brzezinski) في كتابه “الاختيار: السيطرة علي العالم أم قيادة العالم” (2004) (The Choice: Global Domination or Global Leadership) من الخلط بين القوة والانفراد بالعالم، وعلى الرغم من أنه يعتبر القوة الأمريكية غير المسبوقة تاريخياً هي المصدر الحاسم للأمن العالمي لفت بريجنسكي أن هذه القوة ليست غير محدودة ويجب ألا تكون مندفعة بنشوه الانفراد بالعالم، إذ أن القوة الطاغية للولايات المتحدة تنقصها الجاذبية الاجتماعية للقبول الخارجي، وفي كتابه الآخر “الرؤية الاستراتيجية: أميركا وأزمة الحرب الكونية” (2012) (Strategic Vision: America and the Crisis of Global War)، شدّد بريجنسكي على ضرورة الجمع بين القوة والمبدأ في السياسة الخارجية الأمريكية، محذراً بأن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تبقى قوة عظمى للأبد، وأن مصدر قوتها يجب أن تنطلق من الأمن الأوربي، معتبراً أوربا العمق الاستراتيجي الأمريكي وبوابتها نحو العالم، واقترح ما أسماه الدور المزدوج المتمثل في كون أمريكا الداعمة والضامنة لأوربا موحدة وقوية من جهة، مقابل أن تكون أوربا الراعية للتوازن وجسر المصالحة بين واشنطن والقوى الكبرى وكذلك دول الشرق الأوسط من جهة أخرى، فأروبا وخاصة مع الثنائي الفرنسي الألماني هي بوابة التهدئة ومصدر إيجاد التفاهمات السياسية على القضايا العالمية الصعبة بين روسيا وأمريكا.
هنري كيسنجر، الذي يعد من أباطرة السياسة الخارجية الأمريكية، يشارك زبيغنيو بريجنسكي في رؤيته للنظام الدولي المعاصر، إذ يرفض بدوره نموذج القطب الواحد ويشكك في ملائمته للواقع السياسي العالمي القائم، وفي كتابه “النظام العالمي” (2014) (World Order)، اعتبر كيسنجر أن الولايات المتحدة قوة عظمى ذات دور محوري في العالم، إلا أن تركيبة النظام الدولي عصية على الأحادية القطبية وإن مثلتها الولايات المتحدة، فالعصر الحديث بنظر كيسنجر هو عصر تفكك الأمم حيث دعا إلى تفتيت دول الشرق الأوسط العربية وفق اعتبارات عرقية وطائفية، كما توقع تفكك دول أخرى في القارة الأوربية لأسباب مشابهة، في الوقت الذي تتنامى القوى الفاعلة من خارج الدول القومية على المسرح الدولي خاصة في منطقة الشرق الأوسط مثل جماعة القاعدة وحزب الله ومثيلاتهما، لذلك عارض كيسنجر بشدة تكرار تجربة التدخل العسكري في سوريا على غرار العراق وأفغانستان مشيداً بدور الرئيس أوباما في سياسته الخارجية الجديدة المختلفة تماماً عن سلفه جورج بوش.
وكما دعا بريجنسكي إلى الشراكة الأمريكية في تولي زعامة العالم، يؤكد كيسنجر نفس المنظور، إلا أنه حرص على الشراكة الأساسية مع الصين وليس أوربا نظراً لأهمية الصين ودورها الواعد عالمياً، كما دعا إلى إيجاد استراتيجية جديدة متماسكة وقادرة على ربط مختلف دول العالم الفاعلة حول مفاهيم جديدة لهذا النظام لتبقى أمريكا “حلالة المشاكل” وصاحبة الدور المحوري فيه، متجاهلاً تماماً الدور الروسي في أية ترتيبات عالمية مستقبلاً.
خليل حسين (2008)، في دراسته المعنونة “النظام العالمي الجديد والمتغيرات الدولية”، اعتبر هجمات 11 سبتمبر بمثابة البوابة المنتظرة لنقطة انطلاق الأحادية القطبية الأمريكية باعتبار أن بذور الإمبراطورية تكمن في داخلها، إلا أنه استدرك بأن السياسات المنفردة للولايات المتحدة أوقعتها في ورطة، حيث كان الحرب على الإرهاب أكبر مما توقعته الولايات المتحدة أو أن تواجهها منفردة، فبات من الواضح استحالة القضاء على الإرهاب وتغيير الأنظمة السياسية بالقوة، والأهم من ذلك يرجع خليل أسباب فشل الولايات المتحدة في المحافظة على القطبية الأحادية للأزمة المالية التي عصفت بالعقار والأسهم والبنوك الأمريكية عام 2008، وفشل سياسة الحرب الوقائية في أفغانستان والعراق التي استفادت منها باريس وبرلين وموسكو، الأمر الذي قاد الولايات المتحدة إلى إيجاد تحالف دولي واسع للاستمرار في حرب القضاء على الإرهاب، الذي تعدى حدود منطقة الشرق الأوسط ليستهدف قلب أوربا والولايات المتحدة نفسها.
لم يقف انتقاد القطبية الأحادية عند خصوم المحافظين الجدد بل شمل بعض كبار منظري اليمين المتشدد، فعلى سبيل المثال حاول دوغلاس فايث (2010) (Douglas Feith)، الذي شغل منصب وكيل وزارة الدفاع للشؤون السياسية في إرادة جورج بوش، تبرير الصورة المشوهة والخلاف بين صناع القرار في الحرب على أفغانستان والعراق في كتابه “الحرب والقرار: من داخل البنتاغون تحت عنوان الحرب ضد الإرهاب” (War and Decision: Inside the Pentagon at the War on Terrorism).
ودافع فايث عن قرار الإطاحة بنظام طالبان وصدام حسين على عكس توجه إدارة بيل كلينتون في البوسنة والهرسك، التي حملها مسؤولية عدم القدرة على بناء الدول المعتمدة على نفسها وتحويلها إلى تابع لأمريكا وتعوّل عليها في كل شيء، فمن أجل استكمال مشروع بناء الدول الجديدة حرصت الولايات المتحدة على التعاون مع روسيا وتقديم المساعدات المالية للرئيس فلاديمير بوتين، الذي تولى الحكم بالتزامن مع إدارة بوش، بغرض الاستفراد بقرارات دولية مهمة ومنها التدخل العسكري في أفغانستان والعراق.
إلا أن فايث اعترف بالصعوبات التي واجهتها الولايات المتحدة بعد الحسم العسكري السريع المتمثل في إسقاط نظام طالبان وحكومة صدام حسين، حيث بدأت المشاكل بين القادة الأمريكان في تفاصيل آليات إدارة شؤون هاتين الدولتين وكيفية إعمارهما بسبب عدم فهم التعقيدات السياسية والقبلية والطائفية والعرقية فيهما، ونقص الكوادر السياسية وأصحاب الخبرة السياسية ممن تطمئن لهم واشنطن في مسك زمام الأمور في مثل هذه الدول، التي هزت نتائجها مشروع القطبية الأحادية الأمريكية.
شارك فرانسيس فوكوياما (2007)، (Francis Fukuyama)، وهو من أبرز منظري اليمين الأمريكي، رأي دوغلاس فايث السابق ذكره، ولكنه انتقد بشدة سياسة الرئيس بوش في العراق والحرب على الإرهاب في كتابه “أمريكا على مفترق طرق: ما بعد المحافظين الجدد” منتقداً بشدة، لأنها فشلت في إدارتها من جهة وانشغلت الولايات المتحدة بذلك عن شرق آسيا والتطور الكبير في حين خسرت حلفائها في أوربا وتساقطت الحكومات التقليدية الحليفة لها في أمريكا الجنوبية في أحضان اليسار المعادي لأمريكا الواحدة تلو الأخرى.
وكشف فوكوياما عن الامتعاض الشديد لحلفاء الولايات المتحدة وخاصة في أوربا من الطموح الأمريكي نحو الاستفراد بالزعامة الكونية والقلق الكبير من فرض إرادتها المنفردة غير عابئة بمصالح الأوربيين وقضاياهم المهمة سواءً والتحديات التي تواجههم بسبب التمدد الروسي ومؤشرات التفكك داخل الاتحاد الأوربي أو الهجرة غير المحدودة الزاحفة عبر حدودهم نتيجة لسياسات الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، وختم فوكوياما بضرورة تجنب الحروب الاستباقية الأمريكية من جانب واحد.
من جهة أخرى، استندت هذه الدراسة في تحليل العقيدة السياسية للإدارة الأمريكية خلال العقد الأول من الألفية الجارية على أدبيات المحافظين الجدد والمفكرين الذين وصلوا إلى السلطة في عهد الرئيس بوش الابن، من أمثال ريتشارد بيرل (Richard Perle)، وكوندوليزا رايس (Condoleezza Rice)، وبول وولفوفيتز (Paul Wolfowitz)، وروبيرت كيغان (Robert Kagan)، ووليام كريستول (William Kristol)، وديك شيني (Dick Cheney) وغيرهم، وهي كتابات صدرت في مجموعة من الكتب والحوليات المتخصصة مثل السياسة الخارجية (Foreign Policy)، والشؤون الخارجية (Foreign Affairs)، وكومانتري (Commentary)، كما حرصت على متابعة إصدارات مراكز العصف الفكري وجماعات الضغط الأميركية النافذة خلال الفترة المشار إليها مثل مؤسسة بروكينغز (Brookings Institution)، ومجلس العلاقات الخارجية (CFR) (Council on Foreign Relations)، ولجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية “الأيباك” (AIPAC) (American Israel Public Affairs Committee)، وسوف يتم الاستشهاد بمثل هذه الآراء في الجانب التحليلي المفصل من البحث، .
فقد شرح كتاب لورانس كابلان ووليام كريستول (Lawrence Kaplan & William Kristol) (2003) بعنوان “الحرب على العراق: استبداد صدام حسين والمهمة الأميركية التاريخية والرجل الأخير” (The War over Iraq: Saddam’s Tyranny and American Mission of History and the Last Man) كيف انطلق القطار الأميركي من بغداد كمقدمة لإحداث تغييرات سياسية واسعة وتاريخية تشمل العديد من العواصم العربية والإسلامية، بينما جاءت دراسة ستانلي هوفمان (2003) (Stanley Hoffmann) “هل أميركا إمبراطورية بالفعل؟ مقابلات مع فريدريك بوزو” (L’ Amérique vraiment impériale? Entretiens sur le vif avec Frédéric Bozo) لتشرح الاستغلال الفوري المباشر لتفجيرات 11 سبتمبر التي سقطت كفرصة عظيمة على المحافظين الجدد فنجحوا في استثمارها من أجل تطبيق السياسات العملية المنفردة التي لم يكونوا قادرين على تبريرها من قبل.
أما الدراسة المشتركة لمجموعة من مفكري اليمين المتشدّد التي ضمت كل من رونالد آسموس، لاري دايموند، مارك ليونارد، ومايكل ماكفول (2005) (Ronald Asmus, Larry Diamond, Mark Leonard & Michael McFaul)، وحملت عنوان “استراتيجية عبر أطلسية لدعم تطور الديمقراطية في الشرق الأوسط” (A Transatlantic Strategy to Promote Democratic Development in the Broader Middle East)، فقد حللت دواعي المشروع الأميركي لدمقرطة الشرق الأوسط من المنظور الجديد الذي عرف بـ “الشرق الأوسط الكبير”، من أجل تكريس الريادة الأمريكية في المنطقة وبناء تحالفات جديدة بعد إزاحة الأنظمة القمعية والسلطوية، وإن تطلّب ذلك اللجوء إلى استخدام القوة والتدخل العسكري المباشر.
من جهته، قدم الباحث روبرت كابلان (Robert Kaplan) جملة من المعلومات المهمة عن تنظيم طالبان وجماعة القاعدة في كتابه “جنود الله: مع المحاربين الإسلاميين في أفغانستان وباكستان” (2001) (Soldiers of God: With Islamic Warriors in Afghanistan and Pakistan) إثر زيارة ميدانية للحدود الباكستانية الأفغانية، واصفاً المشاهد الخطيرة لانعدام القانون وسيطرة المقاتلين الجهادين وكيفية إدارتهم للأوضاع المعيشية والإشراف على مخيمات اللاجئين، داعياً إلى فهم هذا الواقع الصعب جيداً في حالة التعاطي معه عسكرياً وسياسياً، كما خلص كابلان (2003) في مقالة أخرى بعنوان “أميركا والحدود الدرامية للإمبريالية” (America and the Tragic Limits of Imperialism) أكّد إلى أن للقوة العسكرية حدوداً لا تستطيع تخطيها، وهو يتفق بذلك مع الباحث الفرنسي برتران بادي (2004) (Bertrand Badie) الذي أشار في كتابه “عجز القوة” (L’impuissance de la Puissance) كيف تبدي القوة العسكرية المفرطة عجزاً مفرطاً عن تحقيق أهدافها، ورأى الكاتبان أن الحرب على الإرهاب ينبغي أن تكون كما الحرب الباردة أو مثل مكافحة انتشار مرض معدي، الذي قد لا يمكن القضاء النهائي عليه أبداً، ولكن بالمقدور منعه من أن يغدو هماً يومياً في مساحة جغرافية معينة، فنجاح الحرب على الإرهاب يكمن في منع حدوث عمليات إرهابية كبرى أو جعلها نادرة ومتباعدة قدر المستطاع.
أما وزير الدفاع الأميركي في عهد بوش الابن دونالد رامسفيلد (Donald Rumsfeld) (2012) فقد خلص في كتاب مذكراته “المعروف وغير المعروف” (Known and Unknown: A Memoir) إلى فشل الولايات المتحدة في محاربة الإرهاب الذي أضحى أكثر خطورة انتشاراً في العالم على ضوء الاستراتيجية المنفردة التي تبنتها الإدارة الأمريكية، متفقاً بذلك مع العديد من الدراسات التي صدرت في أوروبا والولايات المتحدة بعد رحيل إدارة بوش الابن على فشل هذه الإدارة في تحقيق أهدافها.
في المقابل، برزت آراء جديدة في مرحلة ما بعد اليمين المحافظ تدعو إلى إعادة النظر في السياسة الخارجية الأمريكية وفقاً للتطورات العالمية المتلاحقة واحترام مواقع القوى الدولية كعوامل ممانعة للنفوذ والهيمنة الأحادية، حيث جاء كتاب الفرنسي جوليان فايس (2012) (Justin Vaisse) “كيف تنظر إدارة أوباما إلى العالم” (Barack Obama et sa politique étrangère) ليحلل تطبيقات السياسة الخارجية للرئيس أوباما ونظرتها إلى النظام الدولي وفق هذا المنظور الجديد.
على ضوء المفاهيم والتحليلات التي عرضتها مجموعة الدراسات السابقة، تسعى هذه الورقة إلى استقراء التأثير المتبادل بين سياسات القوى العظمى وهيكل النظام الدولي، وكيف ساهمت مقاومة النظام الدولي القائم، رغم غموض بنائه الهيكلي في المرحلة الحالية، في كبح جماح مساعي الولايات المتحدة لفرض نموذجها الخاص بالأحادية القطبية، بل دفعت أصحاب القرار السياسي في واشنطن إلى إعادة النظر في سياساتها المندفعة، بتوجيه من اليمين المحافظ، نحو زعامة العالم بشكل مطلق وإرادة منفردة.
الإطار النظري للدراسة
انقسم البحث إلى جزئين، حيث تناول الجزء الأول التعرف على رؤية إدارة الرئيس بوش الابن للنظام الدولي والفواعل الأساسية فيه، وخاصة القوى العظمى الأخرى المنافسة أو المرشحة مستقبلاً لمناكفة الولايات المتحدة الساعية إلى التربع على عرش النظام الكوني لفترة ممتدة عبر استغلال الظروف الدولية وموازين القوى المواتية لها، والتي قد لا تبقى كذلك إلى أمد غير معلوم.
أما الجزء الثاني فقد ركّز على الطريقة التي سعت من خلالها الإدارة الجمهورية الأميركية للقبض على النظام الدولي من خلال السيطرة العسكرية على إحدى أغنى وأهم المناطق الاستراتيجية فيه، متمثلة بمنطقة الشرق الأوسط، عبر احتلالها للعراق، وانتهى هذا القسم بجردة نهائية لنجاحات واخفاقات المسعى الأميركي الهادف إلى خلق نظام دولي جديد أحادي القطبية تتربع على قمته واشنطن لأجل غير منظور ومن دون منازع ذي شأن.
الجزء الأول: النظام الدولي من منظور المحافظون الجدد (القطبية الأحادية)
ضمت إدارة جورج دبليو بوش الابن الجمهورية، التي وصلت إلى السلطة في بداية العام 2001، مجموعة من كبار المسؤولين سبق لمعظمهم أن لعبوا أدواراً لدى الرؤساء الجمهوريين السابقين (مثل جيرالد فورد ورونالد ريغن وجورج بوش الأب)، وخاض معظمهم غمار الحرب الباردة، ومنهم من شارك في تصفيتها مع سقوط جدار برلين في نوفمبر 1989 ثم تفكك الاتحاد السوفييتي في صيف عام 1991.
هؤلاء “المحاربون القدامى” اعتبروا أن الولايات المتحدة قد انتصرت في الحرب الباردة واقتلعت جذور إمبراطورية الشر المتمثلة بالشيوعية العالمية، وبالتالي فعليها أن تقطف ثمار هذا الانتصار وتستغل ميزان القوى الدولي المائل لمصلحتها من أجل بناء نظام عالمي جديد يخضع لهيمنتها الناجزة والواضحة (أبو صليب، 2012)، وقد سعى هذا الفريق السياسي المؤدلج، وانطلاقاً من المواقع الحساسة التي احتلوها في إدارة الرئيس بيل كلينتون ومن مراكز العصف الفكري والدراسات الاستراتيجية التي أداروها أو أثروا فيها، إلى إقناع تلك الإدارة الديمقراطية بتطبيق برامجهم ولكن دون جدوى، أما بعد وصولهم إلى السلطة مجدداً مع بوش الابن جاءت تفجيرات 11 سبتمبر 2001 لتحل عليهم كـ “النعمة الربانية” وفتحت لهم أبواب ترجمة هذه البرامج والسياسات على نطاق واسع وغير مسبوق (Hoffmann، 2003).
فما هي رؤية فريق المحافظين الجدد التي احتضنتها إدارة جورج بوش الابن للنظام الدولي القائم على هيكلية القطبية الأحادية، وما هي نظرتهم تجاه القوى العظمى المنافسة للولايات المتحدة؟ وكيف خدمت تفجيرات سبتمبر 2001 في العمق الأمريكي تطبيق هذه الرؤى من خلال بناء نظام عالمي جديد بقيادة أمريكية منفردة؟ وما موقع ودور إقليم الشرق الأوسط في نجاح تنفيذ تلك السياسات الطموحة؟
(1) عقيدة إدارة جورج بوش الابن ورؤيتها للنظام الدولي الجديد:
أن عقيدة إدارة بوش الابن هي من صنع المحافظين الجدد، وهم شريحة من اليمين المتطرف داخل الحزب الجمهوري ممتدة منذ ستينيات القرن المنصرم، لكنها بقيت لوقت طويل هامشية جداً، إلا أن تفجيرات 11 سبتمبر 2001 رفعتها إلى السلطة الفعلية، وقد عبّر عن هذه العقيدة السياسية في خطوطها العريضة الرئيس بوش شخصياً أمام الكونغرس في 20/09/2001، وما لبث أن تم تطويرها في خطابي حال الاتحاد (State of the Union) بتاريخ 29/01/2002، ثم الأكاديمية العسكرية الأمريكية في وست بوينت (United States Military Academy)، التي تعبر أيقونة القوة الحربية للولايات المتحدة في 01/06/2002، وأخيراً تم إدراجها رسمياً في وثيقة “استراتيجية الأمن القومي” التي نشرها البيت الأبيض في 17/09/2002.
أشارت وثيقة استراتيجية الأمن القومي الجديدة، ذات الطابع المسياني الولسني، التي تستقي جذورها من سياسة الاحتواء بوضوح، إلى استثنائية الولايات المتحدة وخصوصيتها واختلافها عن كل دول العالم بحيث يمكن الوثوق باستخدامها لقوتها العسكرية بشكل عادل وحكيم، وتتضمن المبادئ الأساسية الثلاثة للسياسة الأميركية الجديدة وهي الحرب الوقائية (وليس فقط الاستباقية)، وتغيير الأنظمة، والقيادة الأميركية للعالم، حيث تمثل هيمنة الولايات المتحدة على العالم ونشر الديمقراطية فيه، بالنسبة للمحافظين الجدد، ضمانة للأمن العالمي لأن الديمقراطيات لا تهدد بعضها بعضاً ولأن هناك التقاءً طبيعياً بين مصالح الولايات المتحدة والعالم ككل (www.nssarchive.us/national-secutegy، 2002).
وكان بول وولفوفيتز (Paul Wolfowitz)، الذي أضحى نائباً لوزير الدفاع في إدارة جورج بوش الابن، قد نشر في مارس 1992 تقريراً (هو نتيجة نقاشاته طيلة عامين مع وزير الدفاع ديك تشيني) يشرح فيه وجهة نظره التي تمثل المحافظين الجدد حول الحرب الوقائية ضد أعداء الولايات المتحدة، وقد نشرت صحيفة النيويورك تايمز (The New York Times) مقتطفات منه على حلقات ابتداءً من 8 مارس 1992، وفي يناير 1993 نشر ديك تشيني (Dick Cheney) برنامج المحافظين الجدد في وثيقة عنوانها “الاستراتيجية الدفاعية لعقد التسعينيات: استراتيجية الدفاع الإقليمية” (Defense Strategy for the 1990s: The Regional Defense Strategy)، لتضفي تعديلاً على وثيقة عام 1992 بهدف إعادة قولبة باقي العالم وليس فقط الاكتفاء برد الفعل على الأزمات، وفي عام 1995 نشر زلماي خليل زاده (Zalmay Khalilzad)، الذي تم تعيينه سفيراً لواشنطن في بغداد بعد الغزو الأميركي للعراق، دراسة يقترح فيها منع بزوغ أي منافس للولايات المتحدة في العالم (Gueldry، 2005).
لم تهتم إدارة كلينتون بأطروحات المحافظين الجدد رغم أنهم توجهوا إليها بالكثير من التقارير والمطالب، فانتقدوا كثيراً سياساتها الخارجية واعتبروها ضعيفة ورخوة ومتهاونة وغير أخلاقية، وفي 03 يونيو 1997 أسس هؤلاء مركزاً للعصف الفكري باسم “مشروع القرن الأمريكي الجديد” (PNAC) (Project For a New American Century)، يهدف إلى النهوض بالزعامة الأميركية على العالم وتعزيزها، كما ورد في افتتاحية صحيفة الحياة الأمريكية (The Life Magazine) بتاريخ 17 فبراير 1941 بقلم هنري لوس (Henry Luce) مؤسس صحيفة تايم والقطب الإعلامي الشهير بمعاداته للشيوعية، وترأس إدارة مركز القرن الأمريكي الجديد ويليام كريستول (William Kristol)، رئيس تحرير مجلة (Weekly Standard) المحافظة الجديدة، كما جاء مؤسسوه من كبار المحافظين الجدد أمثال دونالد كاغان (Donald Kagan)، جيب بوش (Jeb Bush)، لويس سكوتر ليبي (Lewis Scooter Libby)، دان كويل (Dan Quayle)، بول وولفوفيتز (Paul Wolfowitz)، فرنسيس فوكوياما (Francis Fukuyama)، زلمان خليل زاده (Zalmay Khalilzad)، نورمان بودورتز (Norman Podhoretz)، اليوت برامز (Elliott Abrams)، ومن بين الحلفاء من غير المحافظين الجدد الذين وقعوا على وثيقة التأسيس غاري بوير (Gary Bauer)، يميني مسيحي، ويليام بينييت (William Bennett)، محافظ أخلاقي، دونالد رامسفيلد (Donald Rumsfeld)، الذي أصبح وزيراً للدفاع في إدارة بوش الابن.
أجمع المحافظون الجدد على كراهية “النسبية الأخلاقية” للرئيس بيل كلينتون وسياسته الخارجية المفرطة في الحذر والتي تكشف أميركا أمام أعدائها وتقترب من الخيانة، واعتبروا أن ما تمارسه هو مجرد “إدارة أزمات” ورد الفعل عليها، وبسبب فشل الأمم المتحدة في عدة أزمات دولية (مثل مقاديشو عام 1993، رواندا عام 1994، سربرنيتسا عام 1995، كوسوفو عام 1999)، فقد أعلنوا استغناءهم عن هذه المنظمة الدولية وتأكيدهم للاستقلال الوطني من خلال زيادة القدرات العسكرية الأميركية.
في العام 1996 نشر المحافظان الجديدان روبرت كاغان وويليام كريستول (Donald Kagan & William Kristol) مقالاً مهماً في مجلة الشؤون الخارجية (Foreign Affairs) ينعيان فيه فشل دبلوماسية الإدارة الديمقراطية في التسعينيات، كما أخفقت كل البدائل التي قدمها الجمهوريون المحافظون في مجال السياسة الخارجية، وعبّر الكاتبان عن مقتهما للتعددية الولسنية لبيل كلينتون والانعزالية الجديدة للجمهوري باتريك بوكانان والواقعية المحافظة لهنري كيسنجر والعالمية المحافظة لروبرت دول والبراغماتية الضيقة لفريق جورج بوش الأب – جيمس بيكر (Kagan & Kristol، 1996)، كما أبدى كريستول وكاغان تذمرهما من أن الولايات المتحدة، في العام 1996 وهي سنة الحملة الانتخابية الرئاسية، مهتمة بتوازن الخزانة الفدرالية أكثر من حرصها على مكانتها في العالم، واعتبرا أن هيمنة السياسة الداخلية هذه مؤشر على الانحطاط والأفول، وفي مقابل هذا “الاجماع الفاتر” للطبقة السياسية طالب كاغان وكريستول بإعادة الاستنفار الإيديولوجي كما في عهد الرئيس رونالد ريغان في ثمانينيات القرن الماضي، ذلك أن الهيمنة الشاملة للولايات المتحدة، وهذا دورها الطبيعي، أفضل من أي بديل آخر (Kaplan & Kristol، 2003).
مع انتخاب جورج بوش الابن في نوفمبر 2000 وتعيين ديك تشيني نائباً للرئيس وبول وولفوفيتز نائباً لوزير الدفاع دونالد رامسفيلد عادت هذه الأفكار، التي كانت تنمو ببطء طيلة عقد التسعينيات، للبزوغ قبل أن تأتي تفجيرات 11 سبتمبر لتكرس تحالفاً بين المحافظين التقليديين والجدد (Podhoretz، 1979؛ Kristol، 1995)، ولترتقي أفكار وولفوفيتز إلى عقيدة رسمية وتجد ترجمتها في “وثيقة الأمن القومي الاستراتيجي للولايات المتحدة الأميركية (www.whitehouse.gov/nsc/nsss.html).
المحافظون الجدد أحاديون من حيث المبدأ، ويؤيدون إقامة التحالفات المؤقتة والمناسبة بحسب الحاجات والظروف انطلاقاً من قاعدة أن المهمة تحدد التحالف، فحلف شمال الأطلسي بالنسبة إليهم على سبيل المثال، ليس سوى إحدى بقايا أو معالم عصر مضى، حيث أن أعضائه من شأنهم تحديد هامش من المناورة ضد سياسات الولايات المتحدة الخارجية، الأمر الذي تحقق بالفعل عشية الحرب على العراق في فبراير/مارس 2003، إذا بقيت واشنطن وحيدة في مجازفتها العسكرية الكبرى باستثناء تأييد بريطانيا، في مقابل اعتراضات شديدة من معظم حلفاء الناتو، لتعاني بعد ذلك من نتائجها الكارثية كإحدى أكبر القرارات الفاشلة في تاريخها الحديث.
وقد نجح اليمين المتطرف في التأثير على الرئيس بوش الابن، وكان من السهل جداً السيطرة على شخصية الرجل الذي يفتقر إلى التجربة في السياسة الخارجية، وكونه ذو مزاج محافظ متدين وقومي وريفي، ومدمن سابق على المخدرات، ومؤمن بأنه “مسيحي ولد من جديد”، وصاحب رؤية تبسيطية للعالم، ويتحدث بلغة شعبوية ويكره المثقفين، ويرجع كثيراً للخطاب الديني (Forum، 2002؛ Woodward، 2003؛ Brookhiser، 2004).
بعبارة أخرى، فأن “عقيدة بوش” لم يخترعها الرئيس الثالث والأربعين لكنها لم تكن بعيدة عن قناعاته المؤمنة بالأساطير المؤسسة للولايات المتحدة، وقد أضحى بفضل تفجيرات سبتمبر والعمل الدؤوب للمحافظين الجدد الرئيس المثالي لفريق اليمين الأمريكي المتشدّد على الرغم من أنه لم يكن خلال حملته الانتخابية على مزاجهم السياسي والأيديولوجي، إلا أن تلك التفجيرات الإرهابية شكّلت صدمة هائلة فجمعت ما بين كل الفئات المحافظة ودفعت الرئيس بوش إلى اعتناق فكر المحافظين الجدد، وقد نصحه بول وولفوفيتز فور حصول التفجيرات المذكورة بالهجوم على العراق لكن كان عليه الانتهاء من أفغانستان أولاً حيث كان يحظى أسامة بن لادن بحماية حكومة طالبان، فتهيأت بذلك الفرصة تماماً للمحافظين الجدد لتطبيق سياساتهم الموضوعة منذ عام 1991 بهدف فرض نظام دولي أحادي تسيطر عليه واشنطن من دون شريك انطلاقاً من الشرق الأوسط كما جاء في عنوان كتاب كريستول وكابلان “قطارنا ينطلق من بغداد” (Kaplan & Kristol، 2003).
(2) لماذا الشرق الأوسط:
الشرق الأوسط الكبير أو الأكبر، كما سمته إدارة الرئيس بوش، يمتد من المغرب إلى باكستان، ويضم أغنى الآبار النفطية والممرات الاستراتيجية في العالم، وفيه شعوب تواقة إلى التغيير والديمقراطية في ظل أنظمة ممقوتة واستبدادية آن الأوان لرحيلها بحسب قناعات هذه الإدارة.
كما تنبأت عقيدة بوش بالنسبة للشرق الأوسط “تأثير الدومينو الحميد”، أي عدوى الديمقراطية، ولو المفروضة بقوة الدبلوماسية أو الأسلحة الأميركية، وانتشارها بسرعة لأن شعوب المنطقة متعطشة إلى المزيد من الحرية والديمقراطية، حيث كان للمحافظين الجدد في هذه المنطقة طموحات أوسع من اتفاقيات سايكس – بيكو (مايو 1916) التي قسمت الإمبراطورية العثمانية إلى مناطق نفوذ غربية وأسست على أنقاضها الشرق الأوسط المعاصر، وبالتأكيد فأن إدخال الديمقراطية في هذا الإقليم يعني التخلص من النظام القديم وإعادة بناء البلد المحرر، مما يفترض برنامجاً طموحاً في مضمار بناء الدول (State-Building)، وفي النهاية كل هذا يعني التملص من كل الضغوط المؤسساتية والقانونية المفروضة من التحالفات والمعاهدات والمنظمات الدولية كالناتو والأمم المتحدة على سبيل المثال (Fukuyama، 2004).
ويعرف عن المحافظين الجدد أيضاً قربهم الشديد من الليكود الإسرائيلي ومشاريعه الاستيطانية، ويلاحظ العدد الكبير من اليهود في صفوف الجيلين الأول والثاني منهم، وتعبتر مجلة كومانتري (Commentary)، ومديرها نورمان بودورتز (Norman Podhoretz)، إحدى المنابر الإعلامية للجنة الأميركية – اليهودية (American Jewish Committee)، وهي من أهم المنظمات اليهودية الأميركية التي تعمل على تعميق الصداقة الأميركية – الإسرائيلية، فالمحافظون الجدد يعتبرون أن التحالف مع إسرائيل ضروري جداً لمصالح الطرفين، ومنهم ريشارد بيرل (Richard Perle)، مساعد وزير الدفاع (الملقب بأمير الظلام)، ودوغلاس فيث (Douglas Feith) وبول وولفوفيتز (Paul Wolfowitz)، ممن تربطهم علاقات وثيقة جداً بكتلة الليكود وبأقدم منظمة موالية لإسرائيل في أميركا، وهي المنظمة الصهيونية الأمريكية (ZOA) (Zionist Organization of America) التي تأسست عام 1897، ويعتبر أمينها العام جيروم كوفمان (Jerome Kaufman) بأنه من المستحيل مصالحة الإسلام مع الديمقراطية كما يرى بأن إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية أمر يتعارض مع أمن إسرائيل (http://www.zoa.org).
وفي العام 1996، وبعد مقتل اسحق رابين، نشر معهد الدراسات الاستراتيجية والسياسية المتقدمة (Institute for Advanced Strategic and Political Studies) سلسلة من البحوث الهادفة لطرح بدائل عن اتفاقية أوسلو للسلام الفلسطيني الإسرائيلي (http://www.informationclearinghouse.info/article1438.htm)، وتم تسليمها في 8 يوليو إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي كان قد هزم للتو شيمون بيريز في الانتخابات العامة، وقد أشرف على تلك الدراسات كل من ريتشارد بيرل (Richard Perle)، العضو المؤثر في معهد المشاريع الأمريكية (The American Enterprise Institute)، ودوغلاس فيث (Douglas Feith) وديفيد ورمسر (David Wurmser)، وجميعهم من المسؤولين البارزين في إدارة الرئيس جورج بوش الابن، عدا أن ريتشارد بيرل عضو في إدارة صحيفة جيروزالم بوست (The Jerusalem Post) الإسرائيلية أيضاً، وذهبت خلاصة تلك البحوث إلى نعي فشل “الصهيونية العمالية” في مجالات الأمن والاقتصاد، ونصحت في المقابل بتأسيس محور استراتيجي جديد في المنطقة يضم تركيا والأردن، إلى جانب العمل على نزع أسلحة الدمار الشامل فيها، في إشارة واضحة إلى كل من العراق وإيران، وتهميش رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات عبر تشجيع منافس له لقيادة الشعب الفلسطيني، وتصفية الرئيس العراقي صدام حسين، وإشراك إسرائيل في الدرع الأميركي الواقي من الصواريخ البالستية (www.israeleconomy.org، 1996)، وفي مقابلة حول أمن إسرائيل ومسار السلام في الشرق الأوسط كرر دوغلاس فيث نفس النصائح لنتنياهو مشجعاً إياه بالاحتفاظ بالضفة الغربية وغزة والجولان، باعتبار أن ذلك يشكّل حماية أفضل لإسرائيل من الهشاشة الاستراتيجية (Outpost، 1996).
كما يعد دانيال بايبس (Daniel Pipes)، مدير منتدى الشرق الأوسط (Middle East Forum) في واشنطن والمؤيد لإسرائيل، من كبار كتّاب هذه الشبكات، وقد دعا في العام 2000 إلى القيام بضربات وقائية ضد سوريا، كما قام بالتوقيع على وثيقة بهذا الصدد شاركه فيها اليوت برامز ودوغلاس فيث وريتشارد بيرل وجين كيركباتريك (Jane Kirkpatrick) وفرانك غافني جنيور (Frank Gaffney Jr.) ومايكل ليدن (Michael Ledeen)، الذي يعتبر من أبرز منظري نظرية الفوضى الخلاقة في أدبيات المحافظين الجدد، وهؤلاء جميعاً نجدهم في أهم مراكز العصف الفكري الأميركي (www.meforum.org؛ www.danielpipes.org؛ www.campus-watch.org).
أما بالنسبة للعراق، فأن بول وولفوفيتز كان يطالب بغزوه منذ عام 1992، منسجماً بذلك مع الرأي الغالب بين المحافظين الجدد طيلة التسعينيات، وفي العام 2000 أشرف الثنائي ويليام كريستول وروبرت كاغان على إصدار كتاب ضخم أعده مجموعة كبيرة من منظري اليمين المتطرف حول “تهديدات الوقت الحاضر” كتب فيه ريتشارد بيرل متهماً إدارة كلينتون بالتخاذل حيال العراق الذي لم يحترم تعهداته حول أسلحة الدمار الشامل، ودعا لعدم التفاوض معه وسحب الاعتراف بمقعد بغداد في الأمم المتحدة، بل العمل على خلع صدام حسين من السلطة والاعتراف بحكومة عراقية مؤقتة (Perle، 2000).
(3) الموقف من القوى العظمى المنافسة في النظام الدولي:
يعتبر المحافظون الجدد، وكما ورد في تقرير وولفوفيتز المذكور، أن روسيا، رغم ما تعانيه من ضعف وتفكك، ما تزال تشكل تهديداً محتملاً للولايات المتحدة، لذلك ينبغي العمل على محاصرتها بدول تنتمي إلى حلف الأطلسي وصولاً إلى فرط عقد “مجموعة الدول المستقلة” والفدرالية الروسية كي تصبح روسيا مجرد دولة صغيرة عادية، كما دعا التقرير إلى الاستمرار في محاصرة العراق وصولاً إلى قلب نظام حكمه واستبداله بنظام حليف.
من جهتها، أيدّت مستشارة الأمن القومي، ولاحقاً وزيرة الخارجية في عهد الرئيس بوش الأب، كوندوليزا رايس (Condoleezza Rice)، والأستاذة والمتخصصة في شؤون أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي بجامعة ستانفورد، انتهاج “سياسات أكثر واقعية” حيال الصين وروسيا عبر اعطاء الأولوية للمصالح الحيوية الأميركية وهيمنة واشنطن على النظام الدولي.
في نظر “فرسان الحرب الباردة الجديدة” لم يعد الاستقرار الدولي والأمن العالمي قائمان بالضرورة على التوازنات الموروثة من حقبة الحرب الباردة السابقة، بل وفقاً لتفوق الولايات المتحدة المطلق والدائم، ومن هنا جاء مشروع الدروع المضادة للصواريخ البالستية التي سارعت إدارة بوش إلى تسويقه تمهيداً لوضعه موضع التنفيذ بأسرع وقت ممكن بغية قلب كل التوازن الاستراتيجي الدولي منذ عقود طويلة، وبرّر وزير الدفاع هذا المشروع بالقول أن: “الهشاشة ليست استراتيجية جيدة، لقد عمل الردع جيداً خلال الحرب الباردة ولكن في الوضع الجدي حيث يأتي التهديد من أسلحة دمار شامل قد تملكها دول مارقة ومشاغبة فأن هذا الردع يصبح عديم الفائدة، الضعف نفسه يشكل دافعاً لانتشار أسلحة الدمار الشامل” (Le Monde، 1/3/2001).
المحاولات الأميركية لمحاصرة روسيا عبر توسيع حلف الأطلسي بدأت مع الرئيس بيل كلينتون، لكن هذا الأخير استخدم في الوقت نفسه المساعدات المالية لروسيا بغية احتوائها وصولاً إلى التقارب معها بهدف التوصل إلى شراكة استراتيجية، فعلى سبيل المثال لا الحصر، سعى الرئيس الأمريكي إلى إدخال روسيا الاتحادية في جماعة السبعة لتصبح فيما بعد جماعة الثمانية وذلك في عام 1996، لكن إدارة بوش، بدلاً من ذلك، بدأت في الترويج لمصطلح “التهديد الروسي” حرفياً كما ورد في تقرير وولفوفيتز الشهير، وقد أكدّت المستشارة رايس هذا المعنى بالقول: “صدقاً اعتقد بأن روسيا تشكل تهديداً للغرب عامة ولحلفائنا الأوروبيين خصوصاً”، بل وزاد وزير الدفاع رامسفيلد بأن: “روسيا ناشرة ناشطة (لأسلحة الدمار الشامل) في العالم وهي جزء من المشكلة”، أما وزير الخارجية كولن باول (Colin Powell)، وعلى الرغم أنه لم يكن ينتمي للمحافظين الجدد بل يختلف معهم أيديولوجياً، فقد أضاف أنه: “لا ينبغي أن تكون المقاربة حيال روسيا مغايرة كثيراً للمقاربة الواقعية جداً التي كنا نعتمدها حيال الاتحاد السوفييتي” (الكفاح العربي، 29/03/2001)، وعلى خلفية هذه التصريحات وغيرها والتي تكشف عن أساس جديد تقوم عليه الاستراتيجية الأميركية بشأن العلاقة مع القوة العظمى الروسية التي كانت في حالة ضعف شديد، نشبت أزمة تبادل الاتهامات بالتجسس وطرد الدبلوماسيين بين البلدين تشبه الأزمات التي ذاع صيتها إبان الحرب الباردة (الشرق البيروتية، 03/04/2001).
أما حيال الصين، فالمعروف أن الطبقة السياسية الحاكمة في واشنطن تنقسم بين موقفين متناقضين تماماً، حيث يرى أنصار الموقف الإيجابي الصين كأمة عظيمة وذات جذور حضارية راسخة وتعتبرها صديقة تفيد الولايات المتحدة إذا أحسنت التعامل معها، فدولة المليار والربع مليون مستهلك تعتبر سوقاً واعداً في كل القطاعات، والكونفوشيوسية فلسفة ترى أن كل شيء يجري هنا في هذه الأرض وليس في عوالم الغيب، مما يقربها كثيراً من الماركنتيلية الأميركية الرأسمالية، ثم أن أكبر حي سكني صيني (شاينا تاون) في العالم يقع في سان فرانسيسكو، ويبلغ عدد الأميركيين من أصل صيني عشرات الملايين، ولهذه الأسباب وغيرها ينبغي عدم مناصبة العداء للصين، وكما قال هنري كيسنجر ذات مرة: “أننا يمكن أن نعزل أنفسنا عن الصين ولكننا لا نقدر على عزل الصين عن العالم” (صحيفة السفير، 01/07/1998).
أما التيار الثاني فيرى في الصين تهديداً للولايات المتحدة على المدى المتوسط من كل النواحي الاستراتيجية والعسكرية وحتى الاقتصادية، فالفائض التجاري الصيني مع الولايات المتحدة يربو على عشرات المليارات الدولار سنوياً (60 مليار دولار عام 2000 مقابل 250 مليار دولار عام 2017)، والصين هي البلد الوحيد في العالم، بعد روسيا، الذي يملك صواريخ بالستية قادرة على إصابة الأراضي الأميركية، ويحكمها سياسياً حزب شيوعي يناصب القيم الأميركية العداء، وأخيراً وكما توقّع صموئيل هانتنغتون (Huntington، 1993)، فمن المرجح أن يقوم تحالف بين الحضارتين الكونفوشيوسية والإسلامية ضد الحضارة الغربية في المستقبل.
هذا الانقسام لا علاقة له بالاختلاف الحزبي القائم بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، فالرئيس جورج بوش الابن على سبيل المثال ينتمي إلى التيار الثاني في وقت يتبنى فيه الكثير من الجمهوريين آراء التيار الأول، ومن أبرزهم هنري كيسنجر الذي يعود إليه الفضل في كسر جليد القطيعة التي قامت بين الصين الشعبية غداة ولادتها في العام 1949 والغرب عموماً، والولايات المتحدة على وجه التحديد.
في الأسابيع الأولى لوصول جورج بوش الابن إلى البيت الأبيض بدأت التصريحات المنددة بخرق الصين لحقوق الانسان ولاتفاقات الملكية الفكرية وتهديدها لتايوان وتشجيعها للتجسس العلمي والصناعي، وتم استعادة التقرير المتشدّد حول هذا الأمر والذي قدمه السناتور الجمهوري كريستوفر كوكس (Christopher Cox) في عهد الرئيس كلينتون)، أما الأخطر من هذا كله فهو حادث اصطدام طائرة تجسس أميركية بطائرة صينية تحطمت وقتل ركابها، في أبريل 2001 فوق المياه الاقليمية الصينية، حيث أسرت الصين طاقم الطائرة الأميركية وطالبت باعتذار رسمي أميركي مع الوعد بالتوقف عن الطلعات الجوية فوق المياه الإقليمية الصينية، الأمر الذي بدا وكأنه إعادة نظر كاملة وجذرية لكل الإنجازات التي حققتها إدارة كلينتون في علاقاتها بالصين، والأكثر من ذلك فقد اتخذت الإدارة الجديدة قراراً ببيع تايوان أسلحة متطورة، وتم باستقبال الرئيس التايواني في البيت الأبيض في مايو 2001.
يقول الباحث الفرنسي برونو ترتريه (Bruno Tertrais) (2004)، أن الولايات المتحدة تراقب الصعود الصيني عن كثب وتعد العدة الاستراتيجية لمواجهته ودرء مخاطره قبل أن يتفاقم إلى درجة أن “ما يدور حالياً في الشرق الأوسط يهدف في ما يهدف إلى صد استباقي للصين”، وهذا ما أكده المحافظ الجديد روبرت كاغان بالقول أن العراق ليس إلا تحمية استعداداً للصين، بل أن أحد أهداف السياسية الخارجية الأميركية على المدى الطويل هو تغيير النظام في بكين، فالحرب على الإرهاب سوف تتقمص حرباً على الدكتاتوريات، و”نهاية التاريخ” لن تكتمل إلا بانتهاء جمهورية الصين الديمقراطية الشعبية (Kagan، 2002).
(4) تفجيرات 11 سبتمبر والطريق نحو الأحادية:
رداً على تفجيرات 11 سبتمبر 2011 وقف العالم كله تقريباً إلى جانب الولايات المتحدة، التي سارعت بدورها إلى إعلان عزمها على شن “حرب من نمط جديد “على الإرهاب العالمي انطلاقاً من أفغانستان التي تأوي تنظيم القاعدة وزعيمه بن لادن، وبعد مشاورات مكثفة أعلن حلف الأطلسي التزامه تطبيق المادة الخامسة من ميثاقه، كما عبّر الاتحاد الأوروبي عن تأييده الكامل للحليف الأميركي (International Herald Tribune، 04/10/2001)، وكان الرئيس بوش حاسماً في إعلانه عن تقسيم العالم إلى “من معنا ومن مع الإرهاب”، وكأنه يعلن أن بلاده باتت تقف على رأس نظام عالمي جديد ينبغي على الآخرين إما الانخراط فيه أو البقاء في هامشه مع ما يتطلبه هذا الموقف من مجازفة بمصالحهم المستقبلية.
وكان على القوتين العظيمتين، الصين وروسيا، تحديد موقفهما ففعلتا من دون تردد، إذ أعلن الرئيس فلاديمير بوتين أن موسكو “تنضم في تعازيها للولايات المتحدة إلى هذا العالم المتحضر”، كذلك فعل وزير الخارجية الصيني تانغ جيانكسوان (Tang Jianxuan)، في لقائه مع نظيره الأميركي باول، إذ قال أنه “في الحرب ضد الإرهاب يقف الشعب الصيني إلى جانب الشعب الأميركي” (New York Times، 30/09/2001).
لقد وضعت تفجيرات سبتمبر أصحاب القرار في الكرملين أمام مستجدات خطيرة ينبغي التعامل معها بدقة متناهية، فعلى مقربة من الحدود الروسية، وفي البلقان تحديداً، توجد أضخم قاعدة أميركية أطلسية عرفها التاريخ، وفي منطقة الخليج العربي ترابط قوات أميركية ضخمة بالإضافة إلى القاعدة الجوية التي من المحتمل أن تنتهي بها حرب أفغانستان على حدود آسيا الوسطى، المنطقة التي اعتبرتها روسيا عبر التاريخ حدوداً متقدمة لها وترتبط مع جمهورياتها بمعاهدة للأمن الجماعي، ولديها فيها قواعد عسكرية ومواقع استراتيجية، كما في طاجكستان وكازاخستان وأوزبكستان.
كانت هناك قناعة في المؤسسة العسكرية الروسية، كشف عنها الجنرال نيكولاي ليونوف، بأن بن لادن ليس بمقدوره القيام بتفجيرات واشنطن ونيويورك، ولكن إدارة بوش عازمة علي القيام بانقلاب حقيقي في النظام العالمي، فهي تستعد لتغيير دستورها وتعديل قوانينها وإعادة النظر بقضايا الحريات والديمقراطية داخل ولاياتها، وكان الرئيس بوش واضحاً عندما قسم العالم إلى من معه ومن ضده، بل أنه يفهم من تصريحات أطلقها مسؤولون أميركيون بأن بن لادن قد اختفى في الشيشان، بأنها تهديد أميركي صريح لروسيا (الخميس، 2001)، وهكذا اقتنع قادة الكرملين أن الحياد أو الوقوف في وجه واشنطن قد يجرهم إلى ما لا تحمد عقباه فكان القرار بالإذعان، وأعلن الرئيس بوتين استعداد بلاده للتعاون مع واشنطن في مجال الاستخبارات حول الإرهاب ومنح المجال الجوي الروسي لتحليق طائرات المساعدة الانسانية، والجنود والمعدات الحربية على الأرجح، والتنسيق مع حلفاء روسيا في آسيا الوسطى لتسخير مطاراتهم لهذا الهدف وتعميق التعاون مع حليف روسيا الرئيس الأفغاني المخلوع برهان الدين رباني، وكانت موسكو، التي تدعم تحالف الشمال وتقيم علاقات ممتازة مع قوى إقليمية نافذة في الملف الافغاني مثل ايران والهند، تتوقع السقوط السريع لحركة طالبان رغم كل الأنباء التي تبالغ في تصوير قوتها وقدرتها على الصمود.
في السابع من أكتوبر 2001 بدأت واشنطن حربها على أفغانستان بقصف جوي مركز وواسع، وفي العاشر من نوفمبر سقطت مدينة مزار في أيدي تحالف الشمال الذي طلبت منه واشنطن عدم الدخول إلى كابول، لكن في اليوم التالي كانت المفاجأة في زحف قوات هذا التحالف إلى العاصمة الأفغانية واحتلالها ثم دخول الرئيس رباني إليها معلناً بأنه الرئيس الشرعي، وهكذا كسبت موسكو النقطة الأولى في الحرب الأفغانية وفرضت نفسها طرفاً لا يمكن الاستغناء عنه في عملية رسم الجيوبوليتيك الجديد للمنطقة بكاملها.
لقد وازن الرئيس بوتين حسابات الربح والخسارة قبل أن يقرر الانضمام إلى الحملة الأميركية، فهو يريد التخلص من حركة طالبان التي تدعم بعض الحركات الأصولية المناوئة للحكم في الجمهوريات السوفييتية السابقة، وفي الوقت نفسه يسعى للتخلص من الكابوس الشيشاني، وقد وفرت له الحملة الأميركية فرصة الدخول في بازار غير رسمي مع واشنطن يتمثل بـ “التضامن الروسي الكامل في مقابل اغماض العين الغربية على حربه ضد الشيشان”، وهكذا أعلن دخول بلاده في معسكر “الدول المتحضرة” التي تواجه “إرهاب البرابرة”، وكان له ما أراد، فقد أعلن الرئيس بوش في 24 سبتمبر 2001 رداً على مواقف بوتين: “بلدانا يتعرضان للإرهاب” (Washington Post، 25/09/2001)، ما يعني الموافقة على مقولة موسكو بأنها تحارب الإرهاب الدولي في الشيشان وليس حركة تحرر وطني، وتلقف بوتين الفرصة فوراً عندما وجه إنذاراً للمقاتلين الشيشان بأن يرموا سلاحهم في غضون ثلاثة أيام تبدأ في 25 سبتمبر رافضاً عرض الوساطة الذي تقدم به الرئيس الجورجي إدوارد شيفارنادزه بين موسكو والشيشانيين (Le Monde، 04/11/2001).
وفي آسيا الوسطى المنقسمة فيما بينها، والتي تتمنى دولها الخروج من الوصاية الروسية، حقق بوتين فوزاً دبلوماسياً عندما أرسل مبعوثين له إلى طاجكستان وأوزبكستان وتركمانستان المحاذية لأفغانستان لإقناع زعمائها بالتنسيق مع موسكو حيال الحملة الأميركية على أفغانستان، مما دفع وزير الدفاع الأميركي رامسفيلد إلى الاعتراف بأن “للروس تجربة مهمة في هذا الجزء من العالم ولهم التزامات حيال بعض دول محيط أفغانستان” (Liberation، 06/11/2011).
لقد تحققت حسابات الرئيس بوتين بالنسبة لطالبان والشيشان وآسيا الوسطى إلى حد كبير، لكنه سعى أيضاً الي مغانم أخرى تتعلق بإعادة جدولة ديون روسيا وربما إسقاط جزء منها للمؤسسات المالية الدولية المدعومة أمريكياً ومن الاتحاد الأوروبي، والانضمام إلى “المنظمة العالمية للتجارة” التي انضمت اليها الصين بعد مفاوضات مضنية مع واشنطن، وتأجيل البت بدخول أوكرانيا في حلف الأطلسي، وتفعيل دور المنظمات الدولية وفي مقدمها الأمم المتحدة في عمليات مكافحة الإرهاب، وهو مطلب قديم للكرملين يهدف لانتزاع مساحة للحركة الروسية الدولية بحماية الشرعية الدولية، دون نسيان الخلاف الروسي – الأميركي القديم حول مشروع واشنطن المتعلق بالدروع الواقية من الصواريخ البالستية (Anti-Ballistic Missile-ABM)، وفي هذا الملف وافق وزير الدفاع الروسي سيرغي ايفانوف، للمرة الأولى، على وجهة النظر الأميركية قائلاً بأن “معاهدة بالدروع الواقية من الصواريخ البالستية هي في جزء منها من مخلفات الحرب الباردة”، وفي مقابل الانفتاح النسبي الروسي أعلن الوزير رامسفيلد في 25/10/2001 بأن بلاده ستؤخر إجراء بعض التجارب علي مشروع الدروع الواقية من الصواريخ بغية عدم خرق معاهدة طالما أنها ما تزال سارية المفعول (Le Monde، 06/11/2011).
هذا الخطاب الذي يتقاطع مع ذلك الذي كان سائداً قبل 11 سبتمبر 2001 لا يخفي استمرار الخلاف في وجهات النظر الذي لم تنجح قمة الرئيسين بوتين وبوش في البيت الابيض وتكساس في 12 و14 نوفمبر 2001 في تبديده، لكن يمكن القول بأن البلدين بدل أن يكونا في ساحات المواجهة أضحيا في جانب واحد في الحرب الأميركية العالمية على الإرهاب.
وعلى غرار الروس كان موقف الصين مفاجئاً بل وصل إلى حد تقديم مساعدات استخباراتية لواشنطن، فقد قام الصينيون بعملية حسابية للأرباح والخسائر المحتملة قبل أن يقرروا الوقوف إلى جانب واشنطن في الحرب على الإرهاب، حيث أملوا في الحصول على شرعية دولية لسياساتهم القمعية ضد القوميين الأويغور في مقاطعة يكسنجيانغ الغربية، أذ سارعوا إلى شن حملة شعواء على هؤلاء عشية انعقاد قمة منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا – الباسيفيك (الأبيك) في شنغهاي (Le Monde، 20/10/2011)، كما أنهم حصلوا على موافقة واشنطن على استبعاد حليفتها تايوان من المنتدى فلم تدع إلى الاجتماع، وفي هذه القمة (20-21 أكتوبر 2001) حدث ما لم يكن ممكناً قبل 11 سبتمبر، إذ شكر الرئيس الأميركي الصين الشيوعية على تعاونها في مجال الاستخبارات، كما أيد الرئيس الصيني زيمين عملاً عسكرياً تقوم به “الإمبريالية الأميركية” على تخوم الصين، في حين اتفق زعماء الدول العظمى الثلاثة (الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية والصين الشعبية) على تخليص آسيا الوسطى من الإرهابيين، من خلال التعاون في مجال تبادل المعلومات السرية والحساسة جداً، والتنسيق مع كازاخستان وقرقیزستان وطاجكستان وأوزبكستان التي يجمعها قلق التخلص من الإسلاميين المتطرفين.
لقد غادر الرئيس بوش شنغهاي، الوجهة الأولى لسفره خارج بلاده بعد تفجيرات سبتمبر، وفي جعبته إعلان ضد الإرهاب الدولي وقعته عشرون دولة يضم بعضها غالبية إسلامية ومنها خصوم سابقون مثل روسيا والصين، وهو إنجاز مهم في طريق الزعامة الأميركية على النظام الدولي.
حول العلاقات الأمريكية الصينية، يقول هنري كيسنجر (2002) بأن القومية وليس الشيوعية هي التي ستؤدي إلى مواجهة بين الصين والولايات المتحدة، وإذا ما حصل ذلك فلن يكون حول مسألة الهيمنة العالمية ولكن حول تايوان، حيث استندت شرعية الحزب الشيوعي الصيني خلال العقدين الأولين من حكمه على توحيد البلاد وطرد المستعمرين (اليابانيين والغربيين) منه، وطوال عقدين آخرين بعد كارثة الثورة الثقافية اعتمدت تلك الشرعة على تحقيق تقدم اقتصادي مذهل، وبعد تأسيس ما يسمى باقتصاد السوق الاشتراكي قد تستند المجموعة الحاكمة نحو إسناد ادعائها باحتكار السلطة على القومية، وهذه الدعوة آخذة بالتطور، ويضيف كيسنجر بأن السياسة الصينية صبورة وذات نفس طويل، وفي نظرها يكمن التحدي الجيوسياسي ليس في اخضاع الدول المجاورة ولكن في منعها من التحالف ضدها، وآخر ما قد يخطر على بالها إثارة الولايات المتحدة، البلد الأبعد عنها، والذي لم يهدد على مر التاريخ وحدة وسلامة الصين رغم كل التصريحات الصينية المنددة بالسياسات الأميركية، فالصين تراهن بقوة على النظام الاقتصادي الدولي لإضعاف الولايات المتحدة وتقوية نفوذها في آسيا وربما العالم (كيسنجر، 2002).
موسكو أيضاً أرادت الدخول في المنظمة العالمية للتجارة والانخراط في المساحة الاوروبية والاطلسية من باب التصالح مع النظام الدولي طالما أنها عاجزة عن تغييره ريثما تنضج الظروف لمثل هذا التغيير، ومن هنا كان استغلالها لتفجيرات 11 سبتمبر سعياً وراء مغانم على المدى القصير وكحلقة في سلسلة تود في نهايتها العودة إلى ماضيها الإمبراطوري، كما وعد رئيسها بوتين عند تسلمه السلطة عام 2000.
وهكذا فأن صورة المشهد الجيواستراتيجي الدولي، من زاوية العلاقات بين الدول الكبرى المؤثرة في صياغة هذا المشهد، بدت وكأن تحالفاً غريباً يجمع بين خصومها الكبار الرئيسيين، فكل السياسات الروسية والصينية قامت على مقاومة “الهيمنة الأميركية” وكل سياسة بوش الخارجية في أشهرها الثماني الأولى، أي قبل 11 سبتمبر، قامت على منع صعود الصين وعودة روسيا القوية، والتحالف الجديد ليس سوى طبعة جديدة عن ممارسة قديمة بعمق التاريخ وهي الواقعية السياسية (Realpolitik) التي لا تخدم سوى الأهداف قصيرة المدى، فالولايات المتحدة أرادت تحييد كل من الصين وروسيا ولكنها كانت تعرف بأن ذلك لا يكون دون مقابل، فقد تقدم الرئيسان بوتين وزيمين بالفاتورة وقبضا سلفاً الدفعة الأولى منها (الاويغور والتيبت والشيشان) في انتظار الدفعات الأخرى المتعلقة بتايوان ومشروع الدروع الواقية من الصواريخ والاعتراف بنفوذ صيني واسع في آسيا وتسهيل دخول روسيا في المنظمة العالمية للتجارة.
في تلك اللحظة بالذات كان يمكن لهذه القوى العظمى أن تنتهز الفرصة لإحداث قطيعة نهائية مع الحرب الباردة وصولاً إلى تقارب قد يقود إلى توزيع متفق عليه للحصص ومربعات النفوذ يؤسس لمشهد استراتيجي جديد، لكن الاحتمال الذي رجحه المراقبون هو استغلال الولايات المتحدة لتفوقها الحاسم من أجل زيادة رصيدها من المناطق التي تسيطر عليها في العالم، ومنطقة آسيا الوسطى المتاخمة لبحر قزوين هي منطقة واعدة من الناحيتين الجيوبوليتيكية والاقتصادية (Kalichi، 2001)، فهي غنية بالنفط والغاز والمواد الاولية وتقع على نقطة تقاطع نفوذ دول كبرى ومهمة مثل الهند وروسيا والصين وإيران وباكستان، وكلها تقريباً تملك السلاح النووي وتستعد لصياغة أحلاف جديدة مثلثة أو مربعة الأطراف، وبالتالي قد تشكّل على المدى المتوسط تهديداً للنفوذ الأميركي الساعي للانتشار في العالم، كما أن وجود قوات أميركية في هذه المنطقة، وتحت غطاء أطلسي أو أممي، من شأنه إعاقة قيام مثل هذه التحالفات ويزيد من فرص قيام تحالفات في الاتجاه المعاكس، ويفتح السبل أمام دخول شركات أميركية عملاقة تحمل مشاعل العولمة وثقافة التجارة والاستهلاك.
كما توقع المحللون وقتها أنه إذا كرّر الأمريكان سيناريو ما بعد حرب الخليج الثانية وأبقوا قواتهم في هذه المنطقة، بذريعة أو أخرى، فأن الصين وروسيا، ومعهما الدول الدائرة في نفوذهما، سيكون أمامهما أحد خيارين، فإما الاعتماد على سياسة النفس الطويل والقبول مرحلياً بواقع الهيمنة الأميركية الذي لا يرد طالما أنه يترك لهما بعض المكاسب، وإما أن يعملا على زرع الألغام في طريق المساعي الأميركية فتعود أجواء الحرب الباردة، من الباب الأفغاني هذه المرة، وتستأنف “اللعبة الكبرى” التي انخرطت فيها روسيا وبريطانيا في أفغانستان طيلة القرن التاسع عشر مع لاعبين جدد هذه المرة، قد تضم بعض الدول الكبرى والمنظمات الدولية كالأمم المتحدة والأحلاف العسكرية مثل حلف الناتو، وبالنتيجة المزيد من أسلحة الدمار الشامل والرهانات الاقتصادية والاستراتيجية فائقة الحيوية.
الجزء الثاني: العراق منطلقاً للأحادية
عندما أعلنت واشنطن عن نيتها احتلال أفغانستان حيث يختبئ بن لادن بحماية حكومة طالبان أعلن العالم أجمع تقريباً تأييده لها ودعمه لحربها على الإرهاب، وقد تم احتلال أفغانستان بسهولة نسبية نظراً للخلل الكبير في موازين القوى وفي ظل دعم داخلي من قوات المعارضة الأفغانية التي تقدمت قواتها، وصولاً إلى العاصمة كابول، بإسناد من قصف جوي أميركي كثيف ومتواصل لتنظيم القاعدة وطالبان.
بعد الانتهاء من أفغانستان بدأ الأمريكان يعلنون عن عزمهم احتلال العراق بذريعة امتلاكه لأسلحة دمار شامل ودعمه لتنظيم القاعدة وللإرهاب الدولي، لكن هنا بدأت الأصوات المعارضة للولايات المتحدة ترتفع ضد هذا الغزو ليس في صفوف خصومها فحسب، ولكن من قبل بعض حلفائها التقليديين مثل فرنسا وألمانيا على وجه التحديد، فمنذ البداية بدا الطريق إلى العراق محفوف بالألغام الدبلوماسية والسياسية أكثر منها العسكرية، فقد رفضت الأمم المتحدة شرعنة هذا الغزو كما عارض حلف الأطلسي تطبيق المادة الخامسة من معاهدة واشنطن، في حين انقسمت أوروبا على نفسها بين مؤيد ومعترض ومشارك، وانضمت روسيا إلى “معسكر السلام” المعارض، كما قامت مظاهرات “مليونية” في العديد من المدن والعواصم غربية، إلا أن الإدارة الأمريكية أصرت على المضي قدماً تجاه العراق وأعطت الأوامر لجيشها المدعوم بوحدات عسكرية من بريطانيا وأستراليا بالإضافة إلى دعم رمزي من بعض الدول الأخرى التي وعدت بـ “مكافآت” سياسية واقتصادية في مقابل مواقفها.
لم تدم العمليات العسكرية وقتاً طويلاً إذ سرعان ما انهارت الدفاعات العراقية أمام جحافل القوات الغازية التي عبرت الحدود العراقية ووصلت بسرعة قياسية إلى العاصمة بغداد لتبدأ مرحلة جديدة كل الجدة في العلاقات الدولية المعاصرة انطلاقاً من منظور الشرق الوسط “الجديد” في أدبيات السياسة الأمريكية المعاصرة، الأمر الذي أثار جملة من الأسئلة المهمة ومنها على سبيل المثال: كيف كانت مواقف الدول المؤثرة في النظام الدولي والعلاقات الدولية حيال الغزو الأميركي للعراق؟ وكيف ستتعامل واشنطن مع هذه المواقف؟ وهل ستنجح، أم لا، في فرض رؤيتها لنظام دولي تهيمن عليه؟ ولماذا؟
(1) العلاقات الدولية في مواجهة الحرب الأميركية على العراق:
ليس بالإمكان ولا من المفيد استعراض مواقف كل دول العالم من الحرب الأميركية على العراق، بل يكفي استعراض مواقف الدول المؤثرة، لا سيما العظمى منها كالأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي، وتلك المتحالفة تقليدياً ومنذ عقود طويلة مع الولايات المتحدة، وأخيراً القوى المنافسة لها في قمة النظام الدولي.
اتسم الموقف الصيني عشية الحرب على العراق وغداتها وخلالها بوتيرة منخفضة (Low Profile)، ومن خلال دبلوماسية واقعية ورؤية قدرية للعلاقات الدوية يمكن تلخيصها كما يلي: “بما أن الولايات المتحدة سوف تهيمن على النظام الدولي لعقود عديدة مقبلة فمن الأفضل محاولة الاستفادة من هذا الوضع في سبيل الاستمرار في النمو الاقتصادي، وبعد ذلك سنرى ماذا نفعل” (Le Monde، 03/04/2003)، حيث رفضت بكين الحرب الأميركية المزمعة على العراق ونددت بها مطالبة بالعودة إلى الشرعية الدولية المتمثلة بمجلس الأمن الدولي، لكنها لم تنضم إلى “معسكر السلام”، ويمكن تبرير هذا الموقف الصيني بعدة أسباب منها على سبيل المثال أن الحرب الأميركية على العراق من دون موافقة الأمم المتحدة لا تمثل تغيراً للصورة النمطية في العلاقات الدولية، فقد سبق لواشنطن أن اتخذت مواقف مشابهة في غير مكان منها صربيا في عام 1999، عندما أصيبت السفارة الصينية في بلغراد بصاروخ أميركي عن طريق “الخطأ”، ثم أن الصين لم تكن معنية وقتها سوى بالنفط والتي قدمت لها واشنطن ضمانات بشأن احتياجاتها المستقبلية المتزايدة إليها.
وأبعد من ذلك فالصينيون يؤمنون بأنه على الرغم من معارضة فرنسا وألمانيا وبلجيكا، ثم اسبانيا لاحقاً، للولايات المتحدة فهؤلاء يبقون حلفاء لأميركا وجزء لا يتجزأ من العالم الغربي الذي لا تنتمي إليه الصين أصلاً، وإنما ينظر إليها كغريب من عالم آخر بعيد، بل لا تعد ضمن المنظومة الديمقراطية ولا حتى في طريق الدمقرطة، لذلك فالصينيون متفقون أن عليهم بذل الجهود ليكونوا مقبولين في الغرب دون اللجوء إلى كل ما يمكن اعتباره تحدياً أو استفزازاً للولايات المتحدة وأصدقائها (Meyer، 2002)، ويقول هنري كيسنجر عن الصين في هذا الخصوص بأنها قوة عظمى تتمتع بالصبر والأناة وطول النفس وتمارس سياسة “انتظر لترى” (كيسنجر، 2002).
بدورها، رفضت روسيا الحرب الأميركية على العراق واعتبرتها منافية للقانون الدولي والشرعية الدولية وانضمت إلى ما سمي بـ “معسكر السلام” إلى جانب بلجيكا وألمانيا وفرنسا، لكن موقفها اتسم بالكثير من البراغماتية في وقت كان يعمل فيه الرئيس بوتين على ترسيخ سلطته الداخلية وتسوية الكثير من الأزمات الاقتصادية والسياسية الموروثة من عهد يلتسين، والمعروف أنه ساعد الأميركيين في حربهم على أفغانستان عبر المعارضة الشمالية المتحالفة مع موسكو والتي تقدمت قواتها نحو كابول بمساعدة الطائرات الحربية الأميركية، كما ترشّح أن موسكو قد ساهمت في التوسط بين الأميركيين وقادة عسكريين عراقيين كبار عشية السقوط الغامض لبغداد، والذي حصل بعد زيارة مفاجئة لكوندوليزا راييس إلى موسكو وخروج السفير الروسي من بغداد ثم عودته إليها، ولم تكن واشنطن تريد القطيعة مع موسكو التي تحتاج إليها لإعادة الاستقرار إلى آسيا الوسطى ولمعالجة ملف كوريا الشمالية، وفي جميع الأحوال تبقى روسيا عدواً سابقاً يرقى إلى مرتبة الصديق وليس الحليف للولايات المتحدة والتي يسهل عليها تفهم موقفه.
لم تكن مشكلة واشنطن إذاً مع روسيا، بل مع الحليف الفرنسي الذي وقف في وجهها بقوة، ولذلك فأن المعادلة الجديدة التي سادت البيت الأبيض في تلك الأثناء تلخصت بمقولة “سامح روسيا وتجاهل ألمانيا وعاقب فرنسا”، فكان تجاهل ألمانيا كونها دولة أوروبية ذات توجهات أطلسية واضحة وموقفها ظرفي وآني اتخذه مستشارها غيرهارد شرودر الذي لن يخلد في السلطة، بل استقبلت المستشفيات الألمانية الجرحى الأميركيين والبريطانيين في الحرب على العراق وراح شرودر بعدها يرسل الإشارات الإيجابية في اتجاه واشنطن التي تجاوبت معها.
بالنسبة لبريطانيا فعلاقة التحالف بل التبعية التي تربطها بالولايات المتحدة منذ أوقات طويلة تجعل من مشاركتها “الأخ الأكبر” الأميركي في حربه العراقية أمراً لا يكلف المراقبين جهداً لتفسيره وتحليله، فإعلان توني بلير مشاركة واشنطن في هذه الحرب أتى في سياق تاريخ طويل من العلاقة بين البلدين كان قد عبر عنه تشرشل مودعاً الجنرال ديغول المغادر إلى باريس بعد تحريرها من النازية بأن بريطانيا ستكون على الدوام أكثر قرباً إلى الولايات المتحدة منها إلى القارة الأوروبية.
لقد تمكنت أوروبا من تحقيق إنجازات غير مسبوقة على المستوى التجاري والاقتصادي توجتها بعملة موحدة هي اليورو، لكنها بقيت عاجزة عن تحقيق حد معقول من الوحدة في السياستين الدفاعية والخارجية، بل أنها كشفت عن عجز فاضح في معالجة أزمات ضربت القارة الأوروبية نفسها، من إيرلندا الشمالية إلى كوسوفو وصولاً إلى البوسنة والهرسك، واضطرت في سبيل الوصول إلى إيجاد حلول لها، إلى الاعتماد على الولايات المتحدة.
وفي حلف الأطلسي، الذي أعطى لنفسه أدواراً جديدة متجددة بعد انهيار خصمه حلف وارسو عام 1990، لم تتكلم أوروبا بصوت واحد وقبعت مستكينة تحت هيمنة أميركية لم تزعج سوى الفرنسيين الذين انسحبوا من المنظمة العسكرية للحلف في عام 1966، وقادت باريس محاولات عديدة لأوربة الحلف أو أقله لتشكيل نواة أوروبية داخله لكنها ووجهت بمعارضة الدول الأوروبية الأخرى قبل الولايات المتحدة.
قبل الغزو الأميركي للعراق كانت عشر دول من المعسكر الشرقي السابق قد انضمت إلى حلف الأطلسي وتتأهب للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، لكن “أطلسيتها” غلبت على “أوربيتها” كما كشفت مرحلة الاستعداد الأميركي لغزو العراق، ففي حين استخدمت فرنسا وألمانيا وبلجيكا حق النقض – الفيتو ضد مشروع أميركي يطالب الحلف بدعم تركيا، العضو في الحلف، لحمايتها من هجوم عراقي محتمل إذا وقعت الحرب، فأن ثماني دول من المعسكر الشرقي السابق أرسلت عريضة إلى الرئيس بوش تعلن فيها دعمها المطلق له في حملته على العراق، ولهذا الموقف تفسيرات سيكولوجية وجيوبوليتيكية واستراتيجية وغيرها مثل اعتراف هذه الدول بالجميل للولايات المتحدة التي ساهمت في تحريرهم من نير الشيوعية ورغبتهم بالتقارب مع القوة الأعظم وخشيتهم الدائمة من عودة روسيا للهيمنة عليهم (Libération، 24/02/2003).
وعندما سئل الوزير الأمريكي رامسفيلد عن تأثير الممانعة الأوروبية للحرب على العراق أجاب بأن “أوروبا العجوز” (ويعني فرنسا وألمانيا وبلجيكا) لم تعد قوة مؤثرة في حين أن المستقبل لأوروبا “الفتية” أو “الجديدة”، وقد اندلعت بين هاتين “الأوروبيتين” أزمة عبّر عنها الرئيس جاك شيراك بالقول أن دول أوروبا الشرقية هذه “أضاعت فرصة أن تصمت فارتكبت خطأً سياسياً جسيماً وبرهنت عن عدم تهذيب” وذلك قبل أن يهددها بطريقة فيها الكثير من المواربة بعدم إبرام اتفاقية توسيع الاتحاد بهدف انضمامها إليه قبل أبريل 2004 مما يفقدها فرصة الانضمام إليه (Le Monde، 20/02/2003).
بالنسبة لحلف الأطلسي فأن استخدام فرنسا وألمانيا وبلجيكا لحق النقض فيه ضد الحرب الأميركية على العراق قد أصابه بالشلل، وللخروج من هذا المأزق ابتكر رامسفيلد مبدأ “التحالف المناسب للأزمة المناسبة”، بمعنى أنه لن تنظر واشنطن إلى الحلف كمؤسسة واحدة في الأزمات والحروب من الآن وصاعداً، وهي لا تحتاج للحلف إلا كغطاء سياسي وليس كأداة عسكرية بالضرورة، فإعلان الحلف بمناسبة حرب أفغانستان أن المادة الخامسة من معاهدة واشنطن تنطبق على هذه الحالة أرضى واشنطن لكنه لم يدفعها لطلب العون العسكري منه، وقبلها في عام 1999، عندما كانت واشنطن متأكدة من أن روسيا أو الصين قد تستخدمان حق النقض ضد حرب كوسوفو، فأنها لم تذهب إلى مجلس الأمن بل إلى حلف الأطلسي، وهكذا فأنها تلجأ إلى خدمات الأمم المتحدة عندما يكون الوضع مناسباً (مثل حرب الخليج الثانية عام 1990)، وتستغني عن هذه الخدمات فتلجأ إلى حلف الأطلسي (مثل حرب كوسوفو)، أو تستغني عن الاثنين معاً (كما هو الحال في حرب العراق 2003) عندما يصدان الأبواب في وجهها، ومن شبه المؤكد أنها لو حصلت على تأييد حلف الأطلسي لحربها على العراق فأنها لم تكن لتطلب مشاركته في الحرب لأنها تملك ما لا يملكه من أسلحة ومعدات وجنود وتخطيط وبحرية ولوجستسك وغيره، ولأنها لا تود مقاسمة أحد للغنائم بعد الحرب وتود الاحتفاظ بها لنفسها، وكان سلوكها يدل بوضوح على أنها تسعى للاستحواذ على تأييد سياسي ومظلة شرعية وليس إلى مشاركة سياسية (The New York Times، 22/10/2001).
بعد نهاية العمليات العسكرية تقدمت واشنطن بمشروع قرار أميركي – بريطاني – اسياني، يهدف للحصول على شرعية لاحقة لحربها، لرفع العقوبات نهائياً عن العراق، وهذا المشروع كونه مطروح من دولتين أوروبيتين أساسيتين قدم دليلاً جديداً على أن الاتحاد الأوروبي يؤيد واشنطن ما خلا قلة قليلة فيه، وإذا كان هذا الاتحاد غير موحد فإن الأمم المتحدة بدورها ليست “متحدة” وتبحث لنفسها عن دور في العراق المحتل تريده لها واشنطن حيوياً في “المجال الإنساني” وتريده فرنسا “محورياً” في كل المجالات.
هذه الحرب قسمت كل المنظمات الدولية والإقليمية، من الأمم المتحدة إلى حلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي مروراً بالجامعة العربية، وقد شعرت واشنطن بالانتصار لأنها تملك نفوذاً أكيداً في كل المطارح وتملك من هوامش الحركة ما يقدم لها الكثير من البدائل في حراكها السياسي وربما العسكري المستقبلي، وهذا لا يعني أن حلف الأطلسي لن يستعيد وحدته وتماسكه، كذلك الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، ولكنه يعني على وجه الخصوص أن الولايات المتحدة لن تدفع ثمن مخالفتها للقانون الدولي والشرعية الدولية والاجماع الغربي فحسب، بل خرجت رابحة من هذه التجربة التي بينت عن هشاشة العدالة الدولية أمام القوة الدولية.
(2) إعادة تشكيل الشرق الأوسط:
احتلت مدرسة بول وولفوفيتز وريتشارد بيرل، الذي استقال لاحقاً من رئاسة المجلس الاستشاري للدفاع بسبب فضيحة مالية سياسية، مركزاً نافذاً بين مستشاري الرئيس بوش رغم أقليتها العددية، وقد نجحت في بسط أفكارها على خطاب بوش المتعلق بالشرق الأوسط، سيما ذلك الذي ألقاه أمام معهد المشاريع الأمريكية (The American Enterprise Institute)، في فبراير 2003 (Lobe، 2003)، وكان الرجلان قد دعيا إدارة كلينتون لاحتلال العراق تحقيقاً لأهداف عديدة منها حل الصراع العربي – الإسرائيلي لمصلحة إسرائيل، وتحويل العراق إلى مركز لنشر الديمقراطية الأميركية في الشرق الأوسط، كما كانت ألمانيا واليابان بعد عام 1945 القاعدة الرئيسية للجيوش الأميركية في أوروبا وآسيا، وفي الوقت نفسه يسمح هذا الغزو بالقضاء على معنويات الحركات الإسلامية المناهضة لأميركا وإسرائيل في كل المحيطين الأفريقي والآسيوي (Stratfor، 03/03/2003).
وهكذا يشكّل احتلال العراق الحلقة الأولى من سلسلة تهدف إلى “إعادة تشكيل الشرق الأوسط” كما أعلن وزير الخارجية كولن باول، وإعادة التشكيل هذه تتطلب تغيير بعض الأنظمة والقيادات بدءً من العراق مروراً بفلسطين، عبر إزاحة ياسر عرفات، وإيران وسوريا، وحتى مصر والسعودية، وصولاً إلى كل من يعارض المصالح الأميركية.
لقد كان احتلال العراق يسيراً نسبياً من الناحية العسكرية، لكن قطاف الثمار السياسية انقلبت إلى عملية متعثرة ومكلفة من كل النواحي، فإقامة القوات الأميركية في العراق لم تكن بالسهولة المرجوة في كل المستويات العسكرية والدبلوماسية وحتى الاقتصادية، ومن أجل الاستحواذ على شرعية هذه الإقامة قررت واشنطن طرح مشروع لدمقرطة “الشرق الأوسط الكبير” بحسب التعبيرات الأميركية.
فقد بررت واشنطن حربها على العراق بناءً على ذرائع ثلاث: الأولى هي الحرب على الإرهاب غداة 11 سبتمبر 2001 واتهام صدام حسين بالتواطؤ مع تنظيم القاعدة، والثانية هي التهديد الذي يمثله حصول صدام حسين على أسلحة دمار شامل، أو حتى نيته الاستحواذ عليها، تبعاً لاستراتيجية الحرب الاستباقية التي أعلنها بوش في سبتمبر 2002، والثالثة هي الوعد بجعل العراق، المتخلص من الدكتاتورية، نموذجاً ديمقراطياً يمكن تصديره إلى المنطقتين العربية والإسلامية التي تعاني من القهر والاستبداد (Achcar، 2004)، لكن لم يمض وقت طويل على احتلال العراق حتى تبين عدم صحة الذريعتين الأوليتين ما دفع الإدارة الأميركية إلى التركيز على الثالثة.
في 13 فبراير 2004 تسربت إلى صحيفة الحياة نصوص وأفكار “مشروع الشرق الأوسط الكبير” (الحياة 13/2/2004)، الذي اعتمد على تقريري الأمم المتحدة حول التنمية البشرية العربية للعامين 2002، 2003 واللذان يكشفان بالأرقام مدى تدهور الأوضاع الاقتصادية والسياسية والمعرفية في المنطقة العربية وهي تقف على مفترق طرق ما بين الانهيار التام أو البحث عن بديل، والبديل الذي سعى الأمريكان من أجل تقديمه كطريق إلى الاصلاح يمر عبر تشجيع الديمقراطية والحكم الرشيد وبناء مجتمع معرفي وتوسيع الفرص الاقتصادية.
فور صدور الوثيقة علق عليها مراقبون عرب وأوروبيون بالقول أنها “شراكة من دون شركاء” لأنها صيغت من دون التشاور مع أصحاب الشأن من العرب أو الحلفاء الأوروبيين، وبأنها تهدف إلى إعادة تشكيل الشرق الأوسط وفقاً للمصلحة الأميركية وفرض الأنموذج والقيم الأميركية على منطقة مترامية الأطراف متنوعة الثقافات من دون أخذ خصوصيات بلدانها بالحسبان، وبأنها تتجاهل تماماً الصراع العربي-الإسرائيلي والاحتلال الأميركي للعراق (International Herald Tribune، 09/03/2004؛ L’Orient-Le Jour، 20/02/2004).
هناك شك تقليدي في المنطقة العربية، من قبل الناشطين الديمقراطيين والحكومات الأوتوقراطية على حد سواء، في جدية الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً بشأن تنمية الديمقراطية في بلدانهم، فالغرب يتعامل مع الأنظمة الدكتاتورية ويحترمها عندما تؤمن مصالحه، الأمر الذي من يزيد من شكوك ومخاوف شعوب المنطقة (Asmus, Diamond, Leonard & McFaul، 2005)، وبالإضافة إلى ذلك فما يطعن في مصداقية الوثيقة حماسة حكومة ارييل شارون المتطرفة في إسرائيل لها كما غلاة المحافظين الجدد، واعتبارها أن جذور الإرهاب العميقة تتغذى ليس من الصراع العربي – الإسرائيلي ولكن من كراهية العرب والمسلمين للغرب وثقافتهم العنفية التحريضية وتخلفهم الفكري والاجتماعي والحضاري، ولذا فأن “مشروع الشرق الأوسط الكبير” هو طريق الحل، وهذا ما نجده واضحاً في كتاب ويليام كريستول ولورانس كابلان، وهما من كبار المحافظين الجدد، الذي حمل في عنوانه الرئيسي “طريقنا يبدأ من بغداد”، وأفرد حيزاً واسعاً لفكرة إعادة تشكيل الشرق الأوسط يسيطر فيه هاجس الأمن الإسرائيلي على منهجية التحليل (Kaplan & Kristol، 2003).
من المنظور الاستراتيجي بعيد المدى، تضع إدارة بوش موضع التنفيذ خلاصات تقارير أعدها مختصون بناءً على طلبها ومفادها أن محاربة الإرهاب لا يمكن أن تقبع في إطار عسكري أمني فحسب، بل يجب أن تندرج ضمن مقاربات اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية (دجيرجيان، 2004)، وبذريعة مكافحة الإرهاب يمكن لواشنطن الشروع في بناء نظامها العالمي الجديد، إذ يوفر لها احتلال العراق هيمنة نهائية على منابع النفط والحصول على أمضى سلاح في التنافس العالمي وفقاً لعقيدة كيسنجر القديمة، والسيطرة على المنطقة تضمن لها منع قيام أية تحديات جية من التكتلات الاقتصادية الإقليمية، الأمر الذي يكرس موقعها كقوة أعظم كما في عقيدة بول وولفوفيتز.
جوبه المشروع الأميركي بمعارضات شعبية ورسمية عربية، فقد وقع ثمانمائة مثقف سعودي على عريضة تنادي بالإصلاح، وبالمثل تنادى مائة وخمسون مثقفاً عربياً إلى الاجتماع في مكتبة الاسكندرية حيث صدر عنهم، في 14 مارس 2004 وثيقة تتقدم بمشروع للإصلاح (النهار، 16/03/2004)، كما صدر عن القمة العربية في تونس في مايو 2004 ما سمي بـ “وثيقة التطوير والتحديث والإصلاح” كبديل عن المشروع الأميركي، وعلى المستوى الرسمي انقسمت الدول العربية حيال المبادرة الأميركية، فينما دعت دولة قطر إلى التعامل الإيجابي معها، رفضتها كل من مصر وسوريا بوضوح وانضمت إليهما المملكة العربية السعودية فتقدمت هذه الدول الثلاثة بورقة تضمنت اقتراحاً بإنشاء برلمان عربي موحد على غرار البرلمان الأوروبي ومجلس أمن عربي ذي صلاحيات وقرارات ملزمة، لكن الورقة بقيت في أدراج الجامعة العربية بسبب الخلافات البينية العربية.
(3) أوروبا والأطلسي و”الشرق الأوسط الكبير”:
انعقدت قمة حلف الأطلسي في براغ، في أكتوبر 2003 تحت عنوان “الأطلسي والشرق الأوسط الكبير” حيث قال فيها الأميركيون كلاماً كثيراً عن مركزية هذه المنطقة في مستقبل الناتو في القرن الحادي والعشرين، وقد سعت واشنطن إلى إشراك حلفائها في أعباء احتلالها للعراق، سيما وأن أعضاء في هذا الحلف نشروا قوات عسكرية لهم في العراق من خارج مظلة الحلف، لكنها جوبهت باعتراض فرنسا وألمانيا وبلجيكا ثم اسبانيا لاحقاً بعد استلام خوسي زاباتيرو رئاسة الوزراء فيها في أبريل 2004.
وتنظر واشنطن إلى الشرق الأوسط الكبير (أو الأكبر) كبديل عن جامعة عربية باتت من مخلفات الماضي وتقف عقبة أمام بناء مفهوم شرق أوسطي أميركي يؤسس لشراكة ما بين حلف الأطلسي ودول المنطقة، مثلما حصل مع دول أوروبا الشرقية قبل أن تنضم رسمياً إلى الحلف، فالشرق الأوسط هو المؤسسة المرتقبة التي تريد واشنطن إرساء دعائم النظام الإقليمي عليها بدلاً من جامعة الدول العربية التي قد تقبل بانضمام تركيا وربما إيران إليها ولكنها لن تقبل بضم إسرائيل مهما تبدلت الظروف، والإطار الجديد الذي حاولت واشنطن فرضه هو إطار الشراكة الأطلسية – الأوسطية، ذلك أنه ما دام هذا الأنموذج قد أثبت نجاحه في أوروبا الشرقية فماذا يمنع نجاحه في الشرق الأوسط، خاصة وأن القوات العسكرية الأطلسية باتت في مياهه وعلى يابسته من خلال العراق والقواعد العسكرية المنتشرة حوله.
في هذا الوقت كانت تتبلور رؤية أوروبية مختلفة عبّر عنها وزير الخارجية الألماني جوشيكا فيشر أمام مؤتمر ميونيخ الأربعين حول السياسة الأمنية الذي عقد في 07 فبراير 2004 (مجلة السياسة الدولية، يوليو 2004)، حيث اقترح قيام مبادرة أميركية – أوروبية مشتركة لإرساء الاستقرار في الشرق الوسط لأن الفشل في ذلك سيؤدي إلى نتائج سلبية تضر بمصالح الولايات المتحدة وأوروبا على حدٍ سواء، وفي قمة بروكسل في 23 من الشهر نفسه أعلن وزراء الخارجية الأوروبيون عن رغبتهم في العمل مع واشنطن لإطلاق مبادرة جديدة حول الشرق الوسط بالتنسيق والتشاور مع دول المنطقة نفسها، وفي السابع من مارس نشرت باريس وبرلين مشروعاً للإصلاح تحت عنوان “شراكة استراتيجية لمستقبل مشرق مع الشرق الوسط” يحدد أهدافاً وأجندة واضحة (الحياة، 08/03/2004)، قبل أن تصدر المفوضية الأوروبية في الثالث والعشريين من الشهر نفسه ورقة موسومة بـ “تقرير أولي حول شراكة استراتيجية للاتحاد الأوروبي مع حوض المتوسط والشرق الاوسط” ناقشها وأقرها البرلمان الأوروبي (حمزاوي، 2004)، ويتلخص مضمون هذه الأوراق بأن الاتحاد الأوروبي لا يؤمن بأنه يمكن القيام “بتدخل ديمقراطي” عسكري في اتجاه واحد حتى لا تتحول الساحة الدولية إلى غابة حقيقية يملي فيها الأقوى شروطه على الأضعف، كما يتعارض التدخل العسكري مع مبدأ السيادة المعمول به منذ معاهدة وستفاليا عام 1648 ومع القانون الدولي والشرعية الدولية، ثم أن الديمقراطية لا يمكن فرضها فرضاً من الخارج، والمثالان الألماني والياباني لعام 1945 غير ملائمين لهذه المنطقة، وكذلك مبادرة هلسنكي عام 1975، كما أن النموذج العراقي قد فشل ولا يمكن البناء عليه لإعادة تشكيل الشرق الوسط على الطريقة الأميركية (Brzezinski، 2004).
وإذا كان الإصلاح ضرورياً في العالم العربي فليس بالقوة والاحتلال ولكن بالحوار والتشاور مع دول المنطقة ومجتمعاتها، وينبغي لنجاح ذلك تقديم مساعدة جدية لتسوية الصراع العربي – الإسرائيلي قبل كل شيء، ويلوم الأوروبيون الأميركيين على أنهم يضعون مشروعاً طموحاً مكلفاً من دون تقديم مساهمة مالية حقيقية له بل يحملون أوروبا مسؤولية تمويله، كما تفعل في الضفة الغربية وغزة حيث تتكفل بإعمار ما تهدمه الدبابات الإسرائيلية المدعومة من “الراعي الأميركي لعملية السلام” (Le Monde، 27/02/2004).
لقد قادت المعارضة الفرنسية، والأوروبية عموماَ، المشروع الأميركي إلى “التأورب” بعد أن فشلت واشنطن في “أطلسته”، وانتهت قمة سي – آيلند (Sea Island) بولاية جورجيا الأمريكية في يونيو 2004 إلى معادلة جديدة عنوانها “شراكة حقيقية من أجل السلام والتقدم” لا تقوم على الفرض والاكراه بل على الحوار مع الدول المعنية، وقد أخذت فرنسا، بحسب المؤتمر الصحافي الذي عقده الرئيس جاك شيراك في التاسع من الشهر نفسه، بالمطالب العربية الصادرة عن قمة تونس (Le Monde، 10/06/2004)، وفي قمة الأطلسي في إسطنبول في 28 من الشهر نفسه عاد شيراك وأكد “أعود وأكرر بأن الصراع العربي – الإسرائيلي هو في قلب المشكلات والصعوبات التي تعيشها المنطقة، وأنه لا حل هادئاً ومستقراً إلا عبر حل المشكلة الفلسطينية – الإسرائيلية” (www.diplomatie.fr، 29/04/2004).
يلخص زبيغنيو بريجنسكي الخلاف بين وجهتي النظر الفرنسية والأميركية بالقول أن “فرنسا تطمح إلى عالم يكون فيه صوتها مسموعاً من خلال مكبر صوت أوروبي، والولايات المتحدة تعتقد أن على أوروبا أن تتقاسم معها أعباء فرض الاستقرار في العالم، لكن الأوروبيون يعتقدون من جهتهم، أن على الأميركيين مشاركتهم في اتخاذ القرار، وبذلك يمكن تقاسم القرارات والأعباء الناتجة عن تطبيقها” (Le Monde، 17/07/2004).
وبالإضافة إلى أن للأوروبيين مشكلات مع الشرق الأوسط، كالأمن والهجرة غير الشرعية واتفاقات برشلونة وتطبيقاتها، التي لا يهتم بها الأميركيين كثيراً، فأنهم يملكون رؤية للمنطقة من الزاوية الجيو – اقتصادية التي تشدد على الحوار والدبلوماسية والتعددية – القطبية، في مقابل مقاربة بوش الأمنية والأحادية الساعية من أجل الهيمنة والاستئثار بالمحاور الاستراتيجية الكبرى في العالم.
شهد ربيع العام 2004 إذاً ثلاث قمم جمعت ما بين الأوروبيين والأميركيين (القمة الأوروبية – الأميركية في إيرلندا، وجماعة السبعة في سي – آيلند، والأطلسي في استانبول) قطع خلالها الأميركيون مسافات نحو الأوروبيين المعارضين لهم وراحوا يتخلون تدريجياً عن شعار “من ليس معنا فهو ضدنا” ويعترفون بأن الوضع في العراق ليس مريحاً لهم من النواحي الأمنية والعسكرية ولا السياسية وبأنهم يحتاجون إلى مساعدة دول أخرى أوروبية تحديداً.
وكان لا بد لهم عندئذ من قلب المبدأ الذي كان سائداً في عهد كلينتون “تعدديون إذا استطعنا وأحاديون إذا اضطررنا” ليصبح “أحاديون إذا استطعنا وتعدديون إذا اضطررنا”، وقد اضطروا إلى العودة إلى “تعددية” تسعى إلى إشراك الآخرين في الأعباء التي فرضتها واشنطن بنفسها، مما يعني بأنها قررت قيادة سياسة جديدة فيها منسوب أكبر من الواقعية وأقل من الهيمنة والانفراد.
(4) العودة إلى الواقعية السياسية بديلاً عن الأحادية القطبية:
في هذه الظروف جاء خطابا بوش في حفل تنصيبه لولاية ثانية في 20 يناير 2005 ثم عن حال الاتحاد في 02 فبراير 2005، حيث لم يتكلم فيهما هذه المرة عن الإرهاب والعراق بل ركز على الحرية ومقاومة الطغيان في العالم، إيذاناً بما يمكن اعتباره “عقيدة جديدة” تقوم على دعم المؤسسات والحركات الديمقراطية بهدف وضع حد للطغيان في العالم وذلك عن طريق الدبلوماسية (Le Monde، 21-22/01/2005، 04/02/2005)، ووعد الرئيس بأن لا تفرض أميركا قيمها على الآخرين بل مساعدتهم على الوصول إلى الديمقراطية عبر السبل التي يختارونها والنابعة من ثقافتهم وتقاليدهم الخاصة، ثم أرسل وزيرة خارجيته الجديدة كوندوليزا رايس إلى أوروبا لتفتح أمامه الطريق للقيام بزيارة تاريخية تهدف إلى وصل ما انقطع في العلاقة مع الحلفاء الأوروبيين، ومن معهد العلوم السياسية في باريس توجهت رايس إلى الفرنسيين بخطاب يرسم ملامح المرحلة الجديدة من العلاقات الأطلسية كما تراها إدارة بوش الجديدة (Le Monde، 08/02/2005).
في 20 فبراير 2005 وصل جورج بوش إلى بروكسل حيث كان أول رئيس أميركي يزور المؤسسات الأوروبية، وعلى غير عادته، بدأ بالكلام عن “الاتحاد الأوروبي” وليس عن أوروبا، مركزاً على المصلحة الأميركية في أن يكون هذا الاتحاد قوياً متماسكاً، الأمر الذي يتقاطع مع سياسته في ولايته الأولى التي عملت على شق أوروبا بغية السيطرة عليها، وكشف خطابه أمام البرلمان الأوروبي عن إرادته محو كل الخلافات الماضية والتأكيد على ما سبق وأعلنته رايس في باريس بأن “عهد الدبلوماسية قد أزف”، وبالمثل كان صقور الإدارة الأميركية، مثل ديك شيني ودونالد رامسفيلد وغيرهما، قد عبروا عن إرادة التهدئة هذه من خلال المؤتمر السنوي للأمن في ميونيخ حيث قال رامسفيلد في 07/02/2005 بأن عهد الانقسامات قد مضى وأن “الأمن الجماعي يرتبط بتعاوننا وتفاهمنا واحترامنا المتبادل”، وعلى قاعدة هذه الإعلانات بدأت مرحلة جديدة من السياسة الخارجية الأمريكية (Washington Le Figaro، 19/03/2005).
هذه المرحلة كانت ارهاصاتها الأولى قد بدأت مع الصياغة الأميركية – الفرنسية للقرار 1559 الذي صدر عن مجلس الأمن الدولي في الرابع من سبتمبر 2004 والمتعلق بانسحاب القوات الأجنبية من لبنان (المقصود بها القوات السورية) ونزع سلاح الميليشيات (المقصود بها حزب الله)، والذي يحقق غرضين، أحدهما أميركي هو المتعلق بحزب الله والآخر فرنسي حول الانسحاب السوري من لبنان مثلما أشار غسان العزي (جريدة الخليج الإماراتية 31/03/2005)، كما أن هذه المرحلة كان يفترض أن تشهد محاولات جدية أميركية لحل الصراع العربي – الإسرائيلي، الأمر الذي عبّر عنه رئيس الوزراء البريطاني توني بلير حين توقع بأن “تطوراً سيطرأ على السياسة الأميركية، سوف تجدون في الأسابيع المقبلة أن أميركا سوف تسلك اتجاهاً جديداً في الشرق الأوسط” (Financial Times، 26/01/2005)، وهكذا في خطابه عن حال الاتحاد في 02/02/2005 ذكّر بوش بهدفه المتمثل بقيام دولتين فلسطينية وإسرائيلية تعيشان جنباً إلى جنب بسلام، وفي بروكسل في العشرين من الشهر نفسه كرّر الرئيس بأن الفرصة باتت سانحة للسلام في الشرق الأوسط على أساس حل الدولتين، بل وفاجأ المراقبين عندما أوضح بأن الدولة الفلسطينية يجب أن تكون قابلة للحياة وعلى أرض غير مقطعة الأوصال، وطالب إسرائيل بتجميد النشاط الاستيطاني (The New York Times، 21/02/2005).
باتت الخلافات حول العراق إذاً، من الماضي كما أعلن المستشار الألماني شرودر في قمة برلين في فبراير 2005، وبالنسبة لـ “معسكر السلام الأوروبي” فأن معارضة غزو العراق كان شيء والمساهمة في مساعدة حكومة عراقية منتخبة أمر آخر، ومن هذا المنطلق تم الاتفاق على تقديم الدعم والخدمات للحكومة العراقية الجديدة المنبثقة عن الانتخابات، كذلك تمت الموافقة على دعم انتخابات ديمقراطية في لبنان وفي مناطق السلطة الفلسطينية وعلى إطلاق المسار التفاوضي مع إيران حول ملفها النووي، كل هذا وغيره أعطى الانطباع للأوروبيين بأنهم أضحوا شركاء حقيقيين للولايات المتحدة وليسوا تابعين كما أرادت لهم إدارة جورج بوش أن يكونوا إبان فترة رئاسته الأولى.
ولكن في 14 فبراير 2005 تم اغتيال الرئيس رفيق الحريري في بيروت، الأمر الذي أعاد خلط الأوراق ليس في لبنان فحسب بل في المنطقة كلها، فانقسمت بين محورين غربي من جهة وسوري – إيراني في الجهة المقابلة، واضطر الجيش السوري للانسحاب من لبنان تحت الضغوط الشعبية اللبنانية والإلحاح الدولي، وفي يوليو 2006 اجتاحت القوات الإسرائيلية لبنان بدعم أميركي واضح عبّرت عنه كوندوليزا رايس بالقول أن “شرق أوسط جديداً يولد أمامنا”، لكن فشل إسرائيل في هذه الحرب انعكس إخفاقاً أميركياً جديداً في المنطقة، كذلك فأن الانتخابات الفلسطينية أسفرت عن فوز حماس الإسلامية مما دفع الأميركيين لعدم الاعتراف بها رغم أن مؤسسة الرئيس الأسبق جيمي كارتر ومؤسسات أوروبية أشرفت عليها، وفي العراق ساد التخبط في مسار العملية السياسية بعد أن فرض الأميركيون عليه نظاماً طائفياً شبيهاً بالنموذج اللبناني الفاشل.
لم تتحقق الديمقراطية التي أراد الأميركيون فرضها بالقوة والأوروبيون بالحوار والاقناع، ولم يتحقق هدف واشنطن المتعلق بالهيمنة على نظام دولي أحادي القطبية، أما بالنسبة للإرهاب الذي وعدت “الحرب العالمية” الأميركية باجتثاثه من جذوره فقد ازداد عنفاً وانتشاراً ليصبح أخطر بكثير مما كان عليه قبل الحرب الأميركية على أفغانستان والعراق، حيث اختلطت مقاومة الاحتلال الأميركي في هذين البلدين بالإرهاب لتجبر الأميركيين على الانسحاب ويغدو الإرهاب أكثر عنفاً وشراسة، ويتمدد ليضرب عدداً كبيراً من الدول الأوروبية والعربية والإسلامية وليحمل أسماء وتنظيمات جديدة، ويتطور على وقع تطور الأوضاع الإقليمية والدولية.
أن فشل إدارة الرئيس بوش في العراق عبّد الطريق أمام فوز السناتور الديمقراطي باراك أوباما في الانتخابات الرئاسية العام 2008، وهو الذي كان من السياسيين القلائل الذين ناهضوا علانية الحرب الأميركية على العراق، وقد مارست إدارة أوباما وكما وعد في حملته الانتخابية سياسة خارجية كانت على النقيض من سياسة بوش ورؤية المحافظين الجدد، وخلال ولايتي أوباما مال النظام الدولي إلى التعددية، في ظل صعود روسي عسكري ودبلوماسي وصيني اقتصادي، ونزعت واشنطن إلى التقليل من تدخلاتها في أزمات العالم، وقد أفردت مجلة الشؤون الخارجية (Foreign Affairs، 2017) عدداً خاصاً لشرح هذا النظام الدولي كتب فيه ريتشارد هاس (Richard Haass) وجوزيف ناي (Joseph Nye) وروبن نيبلت (Robin Niblet) وغيرهم حيث ركّزوا على التحديات المشتركة التي تواجهها كافة الدول في النظام الدولي من إرهاب وأزمات مالية واقتصادية وعولمة وما إلى ذلك.
أما الرئيس الجمهوري دونالد ترامب (Donald Trump) الذي دخل البيت الأبيض في يناير 2017 فجاء ليعلن مجدداً القطيعة مع سياسات أوباما الداخلية منها والخارجية لجهة انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقات دولية متعددة الأطراف، كالاتفاق النووي مع إيران، واتفاقية باريس للمناخ، وإعادة النظر في حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوربي، وتراجعها عن الاهتمام بالشؤون الدولية وذلك لمصلحة الانكباب على الشؤون الداخلية تحت شعار “أميركا أولاً”، مع توثيق العلاقات مع روسيا والتعاون معها بديلاً عن مقارعتها، أي باختصار لم تعد أحادية النظام الدولي وهيمنة واشنطن عليه هدفاً أميركياً منذ أن تبين تعذر تحقيق هذا الهدف خصوصاً خلال ولاية بوش الابن الأولى.
الخلاصة
مع نهاية فترة حكم إدارة بوش الابن خلص روبرت كاغان في كتابه “عودة التاريخ ونهاية الأحلام” (The Return of History and the End of Dreams) إلى أن الآمال التي بزغت بعد الحرب الباردة حول عالم من دون صراعات إيديولوجية واستراتيجية لم تكن سوى أوهام، فالعالم بقي كما هو (Kagan، 2008)، فقد تبقى الولايات المتحدة القوة الأولى في العالم، لكن كاغان لاحظ في المقابل تنامي النفوذ الروسي والصيني على الساحة الدولية، كذلك صعود الإسلام الراديكالي وصراعه مع الثقافات العلمانية والمدنية، وفي مواجهة ذلك كشف كاغان أن الديمقراطيات الغربية تعاني من ضعف وانقسام وشكوك بقدراتها وأن التاريخ يعود إلى ما كان عليه على الدوام، وتساءل عما إذا كانت هذه الديمقراطيات الغربية، وفي طليعتها الولايات المتحدة، ما تزال راغبة بكتابة التاريخ أم أنها ستترك لغيرها كتابته.
من جهته خلص الباحث الاستراتيجي الفرنسي برونو ترتريه (Bruno Tertrais) (2004)، إلى أن قوة أميركا العسكرية تتناقض تماماً مع ضعفها في مجال الهندسة السياسية وإعادة البناء، فمنذ العام 1900 لم ينجح سوى ربع تجارب الولايات المتحدة في مجال تغيير الأنظمة، في البلدان التي قامت بغزوها، في ولادة ديمقراطيات خلال السنوات العشر التي تلت تدخلها العسكري، مضيفاً بأن نموذج الإمبراطورية ليست في طبيعة تكوين الأميركيين المتأرجحين في تاريخهم ما بين العزلة والتدخلية، فـ “البلد الذي يقال عنه “شرطي العالم” ليس إلا شريفاً متردداً”، بحسب ريتشارد هاس الذي يستشهد به ترترييه، لذلك نادراً ما تحمل الولايات المتحدة وسائل توكيد هيمنتها، الأمر الذي تكرّر في التجربة العراقية أيضاً، وذلك في اختلاف أساسي مع إمبراطوريات الماضي التي كانت تبرع في إعادة البناء السياسي للبلدان التي تقوم بغزوها.
واليوم نلاحظ تراجع التزامات الولايات المتحدة الأمنية وتدخلاتها العسكرية في غير منطقة من العالم في مقابل صعود قوى اقتصادية وعسكرية تحاول أن تستعيد مناطق نفوذ قديمة، كما في حالة روسيا تجاه القرم وأوكرانيا وسوريا على سبيل المثال لا الحصر، أو البحث عن مواطئ قدم لها في مواقع استراتيجية واقتصادية جديدة والمتجسّد في زحف الصين نحو آسيا الوسطى والشرق الأوسط والقارة الأفريقية، في عالم يتحول بوتيرة جد متسارعة، ساعد على ظهور قوى إقليمية ودولية جديدة “غير قانعة” بدورها ومكانتها في النظام الدولي، مثل إيران وتركيا وكوريا الشمالية ومحور البريكس (BRICS)، وباتت تعمد إلى مواجهة محاولات اخضاعها وتحجيمها ومقاومة الضغوط النظامية التي تمارسها المؤسسات الدولية الأساسية والقوى العظمى، ولا ننسى بالطبع الاضطراب والتعقيد اللذان يعصفان بالمشهد الدولي جراء تعاظم أدوار المنظمات الإرهابية وانتشارها الجغرافي العابر للحدود والقارات.
كما نلاحظ أيضاً أن النظام الدولي ما يزال قائماً على مبدأ القوة بأنواعها المستمرة بدور الحكم الطبيعي في التنافس بين الدول، أي أننا ما نزال في العصر الطبيعي “الهوبسي” (نسبة إلى توماس هوبز) على صعيد العلاقات بين الدول، وقد أثبتت هذه الدراسة راهنية رؤى مدرسة كينيز والتز (1993) (Kenneth Waltz) المنظومية.
قائمة المراجع
المراجع العربية:
آبلسون، دونالد. (2005، مارس). مؤسسات الفكر والرأي وسياسة الولايات المتحدة الخارجية: نظرة تاريخية، المتابع الاستراتيجي ]9-1[، مركز الكاشف للدراسات الاستراتيجية (مراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية ]القسم الأول[: “تأثير مراكز الأبحاث الاستراتيجية على صناعة القرار في الولايات المتحدة الأمريكية”، 4-9.
أبو صليب، فيصل. (2012). المحافظون الجدد. الكويت: مكتبة الفلاح للنشر والتوزيع.
بيومي، علاء. (2008). جون ماكين والشرق الأوسط والولاية الثالثة للمحافظين الجدد. الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات (سلسلة أوراق الجزيرة رقم 5).
تشومسكي، نعوم. (2007). النظام العالمي.. القديم والجديد (عاطف معتمد عبدالحميد، مترجم). القاهرة: نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع.
تشومسكي، نعومي. (2004). الهيمنة أم البقاء: السعي الأمريكي للسيطرة على العالم. (سامي الكعكي، مترجم). بيروت: دار الكتاب العربي.
حسين، خليل. (2008). النظام العالمي الجديد والمتغيرات الدولية. بيروت: دار المنهل.
حمزاوي، عمر. (2004، يوليو). توسع الاتحاد الأوروبي: التحديات والفرص. السياسة الدولية، 157، 88-00.
الخميس، منى (2001، 07 أكتوبر). مغانم روسيا من الأزمة الأميركية-الأفغانية. اُسترجعت في تاريخ 16 أكتوبر، 2016 من (موقع قناة الجزيرة www.aljazeera.net).
الراوي، مهند حميد. (2015). عالم ما بعد القطبية الأحادية الأمريكية: دراسة في مستقبل النظام السياسي الدولي. القاهرة: المكتب العربي للمعارف.
سلوم، سعد. (2005، أغسطس). المحافظون الجدد وترسيخ بنية العنف في العلاقات الدولية. مجلة النبأ، 78. اُسترجعت في تاريخ 20 نوفمبر 2017 من (شبكة النبأ المعلوماتية http://www.annabaa.org/nbahome/nba78/020.htm).
العزي، غسان. (2002، يناير). المشهد الاستراتيجي الدولي بعد 11 أيلول 2001 (أميركا وروسيا والصين). مجلة الدفاع الوطني (وزارة الدفاع، الجمهورية اللبنانية)، 39، 00-00.
العزي، غسان. (2005، 31 مارس). لماذا انقلب الفرنسيون على سوريا. صحيفة الخليج الإماراتية، 0000 ص. 00.
علوي، مصطفى. (2015، 10 يناير). القطب المنفرد: الولايات المتحدة الأمريكية والتغيير في هيكل النظام العالمي. اُسترجعت في تاريخ 10 يناير 2017 من (المركز العربي للبحوث والدراسات http://www.acrseg.org/36519).
فايث، دوغلاس. (2010). الحرب والقرار: من داخل البنتاغون تحت عنوان الحرب ضد الإرهاب (سامي بعقليني، مترجم). بيروت: مؤسسة الانتشار العربي.
فوكوياما، فرانسيس. (2007). أمريكا على مفترق طرق: ما بعد المحافظين الجدد (محمد محمود التوبة، مترجم). الرياض: مكتبة العبيكان.
كيسنجر، هنري. (2002). هل تحتاج الولايات المتحدة الى سياسة خارجية؟ نحو دبلوماسية للقرن الحادي والعشرين. (عمر الأيوبي، مترجم). بيروت: دار الكتاب العربي.
نافع، إبراهيم. (2002). انفجار سبتمبر بين العولمة والأمركة. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
المراجع الأجنبية:
Achcar, G. (2004, Avril). le nouveau masque de la politique américaine au Proche-Orient. le Monde Diplomatique, 14-15.
Asmus, R., Diamond, L., Leonard, M. & McFaul, M. (2005, Spring). A
Transatlantic Strategy to Promote Democratic Development in the Broader
Middle East. The Washington Quarterly, 28 (2), 7-21.
Bertrand, B. (2004). L’impuissance De La Puissance. Paris: Fayard.
Bertrand, B. (2017). Nous Ne Sommes Plus Seuls Au Monde : Un Autre Regard Sur L’ordre International. Paris: Fayard.
Brookhiser, R. (2003, 11th March). What Makes W. Tick? Retrieved November 20th, 2017 from The Atlantic Monthly (https://www.theatlantic.com/magazine/toc/2003/03/).
Brookhiser, R. (2003, 13th April). The Mind of George Bush. Retrieved November 20th, 2017 from The Atlantic Monthly (https://www.theatlantic.com/magazine/toc/2003/04/).
Brzezinski, Z. (2004). The Choice: Global Domination or Global Leadership. New York: Basic Books.
Brzezinski, Z. (2012). Strategic Vision: America and the Crisis of Global War. New York: Basic Books.
Forum, D. (2002). The Right Man: The Surprise Presidency of George W. Bush. New York: Random House.
Forum, D. (2003, 12th February). The Real George Bush. Retrieved November 20th, 2017 from The Atlantic Monthly (https://www.theatlantic.com/magazine/toc/2003/02/).
Fukuyama, F. (2004). State-building, Governance and World Order in the 21st Century. London: Profile Books.
Gueldry, M. (2005). Qu’est ce que le neoconservatisme? Outre-Terre, 4 (13), 57-76.
Heisbourg, F. (2005). La fin de l’Occident? L’Amérique L’Europe et le Moyen-Orient. Paris: Odile Jacob.
Hoffmann, S. (2003). L’ Amérique vraiment impériale? Entretiens sur le vif avec Frédéric Bozo. Paris: Louis Audibert.
Huntington, S. (1993, Summer). The Clash of Civilizations? Foreign Affairs, 72 (3), 22-49.
Kagan, R. & Kristol, W. (1996, July-August). Towards neo-Reaganist Foreign Policy. Foreign Affairs, 75 (4), 18-32.
Kagan, R. (2004). Of Paradise and Power: America and Europe in the New World Order. New York: Alfred A. Knopf.
Kalichi, J. (2001, September-October). Caspian Energy at the Crossroads. Foreign Affairs, 80 (5), 00-00.
Kaplan, L. & Kristol, W. (2003). The War over Iraq: Saddam’s Tyranny and American Mission of History and the Last Man. New York: Encounter Books.
Kaplan, R. (2001). Soldiers of God: With Islamic Warriors in Afghanistan and Pakistan. New York: Vintage Books.
Kaplan, R. (2003, Spring). America and the Tragic Limits of Imperialism. The Hedgehog Review, 3, 56-67.
Kaplan, R. (2008). The Return of History and the End of Dreams. New York: Alfred A. Knopf.
Kissinger, H. (2014). World Order. New York: Penguin Group.
Kristol, I. (1995). Neo-conservatism: The Autobiography of an Idea. New York: Free Press.
Lobe, J. (2003, 28th February). When They Were Convoys More Than The Words. Foreign Policy, 00.
Mearsheimer, J. & Walt, S. (2010). Le lobby pro Israelien et la Politique Etrangere Americaine. Paris: La decouverte.
Meyer, E. (2002). Sois Riche Et Tais Toi! Portrait De La Chine D’aujourd’hui. Paris: Robert Laffont.
Nasr, V. (2013). The Dispensable Nation: American Foreign Policy in Retreat. New York: Random House.
Nye, J. & Schake, K. (2017, January-February). Out of Order? The Future of the International System. Foreign Affairs, 96 (1), 00-00.
Perle, R. (2000). Saddam Unbound. In Robert Kagan & William Kristol (Eds.), Present Dangers, Crisis and Opportunities in American Foreign and Defense Policy (pp. 101-110). San Francisco: Encounter Books.
Rumsfeld, D. (2012). Known and Unknown: A Memoir. New York: Sentinel.
Podhoretz, N. (1979). Breaking Ranks: A Political Memoir. New York: Harper and Row.
Richardson, J. (1994). Crisis Diplomacy: The Great Power Since the Mid Nineteenth Century. Cambridge: Cambridge University Press.
Tertrais, B. (2004). La Guerre Sans Fin: L’Amerique Dans L’engrenage. Paris: Seuil.
The Institute for Advanced Strategic and Political Studies. (2004, 27 December). A Clean Break: A new Strategy for Securing the Realm. Retrieved November 20th, 2017 from Information Clearing House (http://www.informationclearinghouse.info/article1438.htm).
Vaisse, J. & Hassner, P. (2003). Washington et le monde: Dilemmes d’une superpuissance. Paris: Autrement.
Vaisse, J. (2012). Barack Obama Et Sa Politique Etrangère? Paris: Odile Jacob.
Waltz, K. (1979). Theory of International Politics. New York: McGraw-Hill.
Waltz, K. (1993, Autumn). The Emerging
Structure of International Politics. International Security, 18 (2), 44-79.
Waltz, K. (2001). Man, The State, and War: A Theoretical Analysis. New York: Colombia University Press.
Woodward, B. (2002). Bush At War. New York: Simon and Schuster.