مقبول للنشر مجلة العلوم الاجتماعية، السنة 00، العدد 000، شهر 0000 (ص. 00-00)
الباحثون:
د. حسن عبدالله جوهر – قسم العلوم السياسية – جامعة الكويت
د. حامد حافظ العبدالله – قسم العلوم السياسية – جامعة الكويت
ملخص: تهدف هذه الدراسة إلى استعراض وتحليل الخلفيات الفكرية والاجتماعية والسياسية في الحالة الشيعية الكويتية، وانعكاسات ذلك على تفسير التوجهات والمواقف العملية لهذا المكون الاجتماعي خلال مراحل تاريخية متعددة منذ نشأة إمارة الكويت عام 1756، مروراً بفترة الحماية البريطانية عام 1899، وانتهاءً بالعهد الدستوري بعد الاستقلال سنة 1961.
بنيت الدراسة على تقييم الأبعاد الداخلية والتأثيرات الخارجية على مواقف الشيعة السياسية، سيّما ما يتعلق بالأجواء الطائفية المحيطة بالكويت وإسقاطاتها المحلية من جهة، وفي ظل مفهوم المواطنة الكويتية في سياقها القانوني وتطبيقاتها السياسية من جهة أخرى، حيث شمل هذا التقييم منطلقات التيارات والتجمعات الشيعية في مطالبها وأولوياتها السياسية وآليات تحقيقها من خلال السلطات الدستورية وفي مقدمتها مجلس الأمة المنتخب شعبياً، إضافة إلى مختلف مؤسسات المجتمع المدني في إطار طبيعة علاقة الشيعة مع القوى السياسية والمكونات المجتمعية الأخرى، والأهم من ذلك مستوى التقارب أو التصادم مع سلطة الحكم ذات الصلاحيات الدستورية والسياسية الواسعة.
ختمت الدراسة بالتركيز على المشهد السياسي الراهن، خاصة في أعقاب ما يعرف بموجات الربيع العربي، وما حملتها من مضامين شملت من ناحية المطالبة بمزيد من الحريات والإصلاحات السياسية وتعزيز المشاركة الشعبية في صنع القرار، كما برزت في ظلها مظاهر الاحتقان الطائفي عبر الخطاب الديني المتشدد والممارسات الطائفية ومنها العمليات الإرهابية، حيث سعت الدراسة إلى رصد التأثيرات المباشرة وغير المباشرة لهذه التحولات الجديدة على الساحة الكويتية وموقف التيارات الشيعية منها، وأخيراً انعكاسات ذلك على متطلبات التعايش السلمي كأرضية للاستقرار السياسي والأمني في بلد صغير يقع في إقليم جغرافي مضطرب بل قابل للانفجار.
——————————————-
المصطلحات الأساسية: الكويت، الشيعة، المشاركة السياسية، الطائفية.
The Shia Status in Kuwait: An Analytical Study of Political Attitudes from the Establishment of the Emirate to the Constitutional Era
Hasan A. Johar
Hamed H. Al-Abdullah
Abstract: This study aims to review and analyze the intellectual, social and political backgrounds in the Kuwaiti Shia status during various historical stages, from the establishment of the Emirate of Kuwait in 1756 to the period of British protection in 1899, ending with the constitutional era in 1961. The implications of those factors are used for interpreting these attitudes and practical stands of this social component. The study is based on assessing the internal dimensions and external influences on the Shia political perspectives, especially with regard to the sectarian atmosphere surrounding Kuwait and its local projections on one hand, and the concept of Kuwaiti citizenship in its legal context and its political applications on the other. This evaluation includes the driving forces of Shia currents and groups in their political demands and priorities. The mechanisms to achieve such goals will be discussed through the constitutional authorities such as the elected National Assembly and various civil social institutions. Shia relationship with political forces and other community components in addition to the powerful ruling authority is evaluated throughout different historical eras.
The study concludes with a focus on the current political scene, especially in the wake of the so-called Arab Spring and its demands for freedom, political reform and promoting popular participation in decision-making. However, several sectarian practices emerged along with these revolutions, such as rigid religious discourse including terrorist operations. This study attempts to observe the direct and indirect effects of these new transformations on the Kuwaiti arena and Shia’s positions in this regard. The paper concludes with the requirements of peaceful coexistence as a ground for political culminating in and security stability in a small country located in a turbulent geographical territory liable to explosion.
——————————————-
Key Words: Kuwait, Shia, Political Participation, Sectarianism.
مقدمة عامة
بلغت حالة الاستقطاب الطائفي في المنطقة العربية مستويات غير مسبوقة خلال العقد الحالي، حيث تعددت صورها واختلفت تطبيقاتها وتفاوتت نتائجها وتدرجت أشكال المواجهة بين السنة والشيعة من التراشق اللفظي والاتهامات المتبادلة بالتخوين السياسي والانحراف العقائدي عبر وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية، مروراً بالتحريض المباشر والتعبئة النفسية والفكرية، وانتهاءً بتشكيل الميلشيات وتجنيد المقاتلين والعنف المنهجي من خلال العمليات العسكرية والإرهابية، ولم تسلم منطقة الخليج العربي من الارتدادات الإقليمية لهذا الصراع الطائفي المستجد، ولو بدرجات أقل من الحالة الدموية العنيفة التي تشهدها بعض الدول العربية القريبة، فقد تعرضت المملكة العربية السعودية ودولة الكويت ومملكة البحرين إلى عمليات إرهابية استهدفت المراكز الأمنية والبنى التحتية ودور العبادة، وحملت في بعضها عناوين طائفية صريحة لم تشهدها من قبل حتى في ظل أجواء الاحتقان الطائفي التي شهدتها دول المنطقة في مراحل تاريخية ماضية.
احتلت أجواء هذا التوتر الطائفي وظهور تسمية الشيعة الروافض في مقابل السنة النواصب وبالعكس، موقعاً مهماً في تطور الأحداث التي عصفت بعموم المنطقة العربية، وتحديداً بعد الغزو الأمريكي للعراق والإطاحة بنظام البعث في بغداد عام 2003، وزاد هيجان الطائفية إثر عاصفة ما يسمى بالربيع العربي التي غيّرت بشكل كبير خارطة المنطقة سياسياً واستراتيجياً، فاختلت منظومة التوازنات الإقليمية بعد سقوط أنظمة رئيسية وفي طليعتها حكم الرئيس حسني مبارك واندلاع سلسلة من النزاعات المسلحة الأهلية في العراق وسوريا وليبيا واليمن، تدخّلت في الكثير منها قوى إقليمية ودولية صاعدة ومن أبرزها إيران وتركيا والسعودية والصين وروسيا، بالتزامن مع صعود التيارات الدينية الجهادية، الأمر الذي أدخل المنطقة العربية في دوامة شائكة ومعقدة ومتعددة الأزمات، وبمعنى آخر فرض هذا التحول المفاجئ والسريع نفسه في تسليط الضوء على قضايا الطائفية والحاجة إلى دراسة الحالة الشيعية على وجه التحديد بمختلف زواياها الفكرية والسياسية والتاريخية، ورموزها وتاريخها ومؤسساتها انتهاءً بتقييم وتحليل واقعها الميداني.
هذه المهمة قد تكون صعبة ومعقدة لجملة من الأسباب منها تنوع الفكر الشيعي نفسه وتعدد النماذج الشيعية في مختلف الدول العربية والإسلامية، مما لا تتحقق معها رؤية واحدة للحالة الشيعية عابرة للحدود أو مختزلة في تصور وحيد، فعلى سبيل المثال لا يمكن مقارنة الحالة الشيعية في منطقة الخليج بالوضع في لبنان أو العراق، ومن الصعب تعميم التجربة السياسية للشيعة في الدول التي تتمتع بفضاء أكبر من الحرية والديمقراطية مع غيرها من المجتمعات المغلقة، كما تتفاوت الحالة الشيعية في إقليم جغرافي واحد، فالتجربة الشيعية في الكويت أو البحرين تختلف بشكل لافت عن مثيلتها في السعودية أو الإمارات، إما لعوامل تاريخية أو تبعاً للنظام السياسي في هذه الدول أو وفق التركيبة الديموغرافية لأتباع هذه الطائفة في مجتمعاتها.
أولاً: الإطار النظري للدراسة
- أهداف الدراسة:
تسلط هذه الدراسة الضوء على الحالة الشيعية في دولة الكويت والتي تتميز بخصوصيتها في إطار تجربة التعددية السياسية التي يرعاها نموذجها الديمقراطي وإرثها التاريخي الحافل بالعديد من المحطات السياسية التي ساهمت في بلورة الفكر السياسي الشيعي وترجمته ميدانياً على صعيد الممارسة العملية في إطار العلاقة مع السلطة الحاكمة من جهة والمكونات المجتمعية الأخرى من جهة ثانية، كما تركز الدراسة على مفهوم المواطنة في سياقها القانوني وتطبيقاتها في عهد ما بعد الاستقلال كمنطلق للمشاركة السياسية، وعلى وجه الإجمال يمكن تلخيص أهداف هذه الدراسة في المحاور التالية:
( أ ) فهم الحالة الشيعية في الكويت من زاوية الانتماء الوطني والمشاركة السياسية وفي إطار العلاقة مع بقية المكونات المجتمعية والتيارات الوطنية والسلطة السياسية.
(ب) استعراض وتحليل الخلفيات الفكرية والاجتماعية والسياسية والأبعاد الداخلية والخارجية المفسرة لمواقف الشيعة العملية خلال مراحل تاريخية متعددة قبل وبعد استقلال دولة الكويت عام 1961.
(ج) استشراف المواقف السياسية للشيعة في الكويت على ضوء هذه الخلفيات.
- الأسئلة البحثية:
بناءً على ذلك، فإن الأسئلة التي تحاول الدراسة الإجابة عليها هي:
– ما مفهوم المواطنة وما هي وسائل تعزيز وقياس المواطنة؟
– ما المراحل التاريخية التي مرت بها الحالة السياسية الشيعية في الكويت؟
– ما دور العامل الخارجي في التأثير على الحالة الطائفية في الكويت؟
– ما دور الشيعة في عملية المشاركة السياسية في الكويت في مرحلتي ما قبل وبعد الاستقلال؟
- منهجية الدراسة:
اعتمدت الدراسة على المنهج التاريخي لاستعراض أهم الأحداث التي واكبت مسيرة الشيعة في الكويت، إضافة إلى المنهج التحليلي في تفسير وفهم الواقع من أجل استقراء مستقبل التوجهات السياسية للشيعة إزاء مختلف القضايا الوطنية والعلاقة مع المكونات المجتمعية والسلطة السياسية، ومن ثم تحليلها وتفسيرها وفق أسس علمية بهدف الوصول إلى استنتاجات قادرة على استيعاب الواقع الحاضر والتنبؤ بالأحداث والاتجاهات القريبة أو البعيدة في المستقبل.
- الدراسات السابقة:
قليلة هي الدراسات التي تناولت الحالة الشيعية في الكويت بالتحليل السياسي العلمي، وقد يعود السبب في ذلك إلى ندرة المعلومات المتوفرة في هذا الشأن أو غياب المؤشرات الواضحة على التصعيد الطائفي في الكيان الكويتي الصغير الذي تميّز بالاستقرار السياسي والتعايش السلمي في ظل أجواء فريدة من الحريات العامة ومستويات الرفاه الاجتماعي والمعيشي العالمية، أو لطبيعة مثل هذه الدراسات الحساسة التي تتطلب قدراً مهماً من الموضوعية البحثية.
فعلى سبيل المثال، وثقّ محمد الحبيب (2016Al-Habib, ) تاريخ التواجد الشيعي في الكويت خلال الفترة الممتدة من عام 1880 وحتى عام 1938 مستعرضاً العوامل التي دفعت الشيعة من العراق والإحساء والبحرين وبلاد فارس للهجرة إلى الكويت والاستقرار فيها، ومن ثم علاقتهم مع بعضهم البعض، ومع أقرانهم من السنة والنظام السياسي في الموطن الجديد، مضيفاً الدور الاقتصادي الذي لعبته المكونات الشيعية الاجتماعية كالتجار والحرفيين والصناع في تحويل الكويت من قرية ناشئة إلى بلد مزدهر، والعمل في الوقت نفسه على المحافظة على هويتهم المذهبية الخاصة من خلال إنشاء المؤسسة الدينية الشيعية وروافدها من المساجد والحسينيات والمدارس.
وفي دراسة أخرى طرح محمد الحبيب (2015) أيضاً نظرية تاريخية جديدة تتعلق بدور الشيعة في معركة الجهراء المفصلية عام 1920، مبيناً بالوثائق الرسمية والأرشيف البريطاني مشاركة الشيعة في القتال وتقديم الشهداء دفاعاً عن بلدهم في تلك الحرب، مفنداً بذلك الرأي التاريخي الشائع ببقائهم داخل مدينة الكويت بناءً على طلب حاكم الكويت الشيخ أحمد الجابر، وعلى نحو مشابه تناول عبدالمحسن جمال (2005) بعض المحطات التاريخية في فترات ما قبل الاستقلال وما بعده، أبرز خلالها دور الشيعة واسهاماتهم في مجالات التعليم والصناعة والتجارة إضافة إلى القضايا السياسية، كما أجرى مسحاً تاريخياً لأهم المعارك التي خاضها الكويتيون دفاعاً عن وطنهم منذ نشأة الإمارة مع توثيق مشاركة المواطنين الشيعة فيها.
ومن الأطروحات المهمة في هذا الصدد، دراسة علي الزميع (2018) التي استعرضت جوانب من تاريخ الشيعة في الكويت في الفترة من 1950-1963، من حيث العقائد والتركيبة المذهبية ومؤسسات الحركة الإسلامية الشيعية في الكويت كالمساجد والحسينيات وأنشطتهم الاجتماعية، والأدوار السياسية التي مارسوها متمثلة في المجلس التأسيسي ومجلس الأمة الأول، مع التزامهم بالخط التقليدي المحافظ السلمي خلال هذه الفترة، وسطّر الباحث التطورات التي شهدتها الساحة الشيعية في الكويت في الفترة من 1963-1981، كإنشاء جمعية الثقافة الاجتماعية وتأثير حزب الدعوة الإسلامية على أفكارها ومنتسبيها وظهور تيار السيد محمد الشيرازي، وأخيراً التأثيرات التي أحدثتها الثورة الإيرانية على مجمل الوضع الشيعي في الكويت، مما أحدث حالة انقسام تنظيمي واختلاف أيديولوجي داخل الساحة الشيعية.
أما على صعيد التطور السياسي في الكويت، فقد تابع مفيد الزيدي، مسيرة التجربة الديمقراطية منذ انطلاقتها الدستورية بعد الاستقلال عام 1961، مستعرضاً جوانب النجاح والإخفاق فيها بناءً على فرضية أساسها أن الديمقراطية كمفهوم وممارسة في العملية السياسية توفر الغطاء للاستقرار السياسي والاجتماعي الذي ينعكس على عملية التنمية والتحديث في الدولة وعلاقاتها الخارجية، ووصف الباحث النموذج الكويتي بديمقراطية “البداوة” نسبة إلى دور الديوانيات التي حلت محل الأحزاب السياسية المحظورة دستورياً، فتحولت إلى ماكينة العمل السياسي في مناقشة القضايا العامة وإدارة الحملات الانتخابية بنجاح، معتبراً الديمقراطية الكويتية من أفضل نماذج الحكم في المنطقة حيث تتمتع بسلطة الرقابة الشديدة على سياسات الحكومة وأدائها (الزيدي، 2016، ص 62).
وأخيراً تناول الزيدي الخارطة السياسية الكويتية في الوقت الحالي، وتبدل مواقع القوة فيها بعد تنامي ظاهرة الإسلام السياسي وبروز المكونات القبلية التي كانت محسوبة تقليدياً على الحكومة بتوجهات جديدة تميل إلى المعارضة، بينما أغفل الطائفة الشيعية في المشهد السياسي الراهن ولم يشر إلى آراء ومواقف تياراتها أو رموزها تجاه التطورات التي شهدتها الساحة الكويتية منذ عام 2003.
إلا أن الدراسة الميدانية لروبرت حاتم وديرك جيلديا (Hatem & Derek, 2011) رسمت شكل العلاقة بين الحكومة ومواطنيها من الشيعة على ضوء تأثير الدور الإيراني لو كان موجوداً على حد تعبيرهما، مشيرة إلى تأثيرات الثورة الإيرانية عام 1979 على الأنظمة الحاكمة في الخليج والتخوف من ارتداداتها الراديكالية، إلا أن العلاقة الثانية بين البلدين، في رأي الباحثين، تحسنت إلى حدٍ كبير جراء الموقف الإيراني المؤيد للكويت إبان الاحتلال العراقي عام 1990.
ورداً على بعض المحللين ممن ينظرون بعين الريب والشك إلى شيعة الكويت وارتباطهم بإيران، أشار الباحثان إلى أن الواقع يثبت ولاء المواطنين الشيعة للدولة، حيث أن السياسات الحكومية المتمثلة بالعديد من الحالات والقوانين يتم فيها مراعاة المكون الشيعي وفق مبدأ العدالة والمساواة، كما تحرص الحكومة على استيعابهم ضمن المكونات الاجتماعية بشكل كبير، وفي المقابل رصد الباحثان المشاركة السياسية الفاعلة للشيعة في الانتخابات العامة مع الإحساس الغامر بانتمائهم الوطني واندماجهم مع المكون السني في المجتمع الكويتي (Hatem & Derek, 2011).
وتطرقت دراسة لورنس لوير (Louër, 2008) إلى محطات من تاريخ الشيعة بالكويت، كمعركة الجهراء عام 1920 والمجلس الاستشاري عام 1921، وحرمانهم من المشاركة في المجلس التشريعي عام 1938، مما أدى إلى اتخاذهم موقف الموالاة للحكومة، كما تابع الباحث التأثير الفكري والسياسي لحزب الدعوة الإسلامية في الكويت وتيار السيد محمد الشيرازي والتأثيرات الفكرية والأيديولوجية للثورة الإيرانية على مجمل الوضع الشيعي في الكويت ومنها أحداث مسجد شعبان في عام 1979 التي طالبت بعودة الحياة الديمقراطية المعطلة آنذاك ورفض موقف الحكومة المؤيد للعراق في حربها مع إيران، وتعاطف معها التيار القومي العربي، مما انعكس في انتقال الشيعة من موقف الموالاة التاريخية للحكومة إلى المعارضة السياسية.
وشرح خليل علي حيدر في جانب من دراسته تطور الحركة السياسية والاجتماعية الشيعية عبر سلسلة من المحطات التاريخية، مبيناً تأخر ولادة الفكر السياسي الحركي عند الشيعة عن مثيلاتها من الحركات السياسية الدينية منها والقومية، وأرجع السبب في ذلك إلى ضعف الحالة الاقتصادية والاجتماعية لعموم الشيعة الذين انشغلوا بالحرف اليدوية البسيطة وإدارة الدكاكين الصغيرة حتى النصف الأول من القرن العشرين (حيدر، 2013، ص 2258)، وأضاف الباحث أن أولى المواقف السياسية المنظمة للشيعة جاءت على شكل احتجاج مجموعة من الشخصيات التجارية على استبعاد الشيعة من المشاركة في انتخاب أول مجلس شورى عام 1921 الذي دعت إليه مجموعة واسعة من الأعيان والتجار الكويتيين، وتلى ذلك تظاهرة احتجاجية أوسع نطاقاً بقيادة المرجع الديني السيد جواد القزويني في حسينية آل معرفي وشارك فيها عموم أبناء الشيعة بعد استبعادهم مجدداً من المشاركة في انتخاب المجلس التشريعي الأول عام 1938.
وأرجع حيدر سبب ظهور التشيع السياسي ونجاح الخطاب الديني في أوساط الشيعة إلى حرمان الكثير من الشباب الشيعي المثقف من الانضمام إلى التيار الناصري في ذروة المد القومي العربي والنظر إليهم بعين الشك والريبة، في مقابل النشاط الذي شهدته الحوزات العلمية في العراق وإيران ولبنان وتوافد علماء الدين منها إلى الكويت، الأمر الذي ساهم في استقطاب الشباب وتأسيس نواة الحركة الثقافية والاجتماعية التي تحولت مع مرور الوقت إلى نشاط سياسي فبرزت قوتها مع انتخابات مجلس الأمة عام 1981 عندما حصد الإسلاميون الشيعة من الشباب جميع مقاعد البرلمان الممثلة للطائفة على حساب النخبة التجارية التقليدية (حيدر، 2013، ص 2261-2270).
كما تعتبر دراسة فلاح المديرس (1999) محاولة جادة أخرى لفهم الحالة الشيعية في الكويت، حيث أسهبت في حصر التيارات والتجمعات السياسية وشبه السياسية الشيعية وجذورها الفكرية المستمدة من العقيدة الدينية وتقسيماتها وفق الأصول العرقية مثل شيعة بلاد فارس وشيعة الإحساء والشيعة البحارنة، مع التركيز على المواقف السياسية التي تزامنت مع الثورة الإيرانية والحرب العراقية الإيرانية وتعطيل الحياة الدستورية في الكويت خلال الفترة من 1976-1981 وكذلك الفترة من 1986-1992.
وأخيراً، رصدت دراسة مركز الخليج لسياسات التنمية انعكاسات التغير السياسي في الكويت خلال فترة ما بعد الاحتجاجات العربية (2011-2016)، حيث أوضحت دور التيارات السياسية في الكويت، ومنها الشيعية، خلال السنوات القليلة الماضية، والتحولات التي مرت فيها بين أطوار المعارضة والموالاة للحكومة، مستشهداً ببعض الحوادث المستجدة التي رسمت شكل هذه التحولات ومنها حادثة التأبين عام 2008 وتفجير مسجد الإمام الصادق عام 2015 واكتشاف خلية العبدلي في العام نفسه (الشهابي، الدوسري والمحمود، 2017).
ثانياً: مفهوم المواطنة
- المواطنة في الإطار العام:
المواطنة مفهوم اجتماعي-سياسي-قانوني استمد جذوره الفكرية وتطبيقاته العملية من العصر اليوناني القديم، لكنه خضع لتطور كبير خلال عصر النهضة الأوربية على يد المفكر الفرنسي جان جاك روسو الذي حدد دلالات المواطنة في إطار العلاقة بين الفرد والجماعة والدولة (محمد، 2013، ص 94).
يشير رضوان السيد (2015) إلى أن المواطنة بمفهومها الحديث كان مخرجاً مهماً من أتون الحروب الدينية التي سادت عموم القارة الأوربية والبدء بعلاقة جديدة للعيش المشترك وفق الإرادة العامة للأفراد، ولذا نجحت المواطنة في التحول إلى أرقى نماذج التعايش البشري وتطورت بنيتها القانونية وبعدها العملي بعدما تحولت إلى ممارسة وسلوك وتطبيق لمفاهيم الثورات الأوربية بدءً بالثورة الفرنسية عام 1799 وحتى بدايات القرن الـ 19.
الدولة الوطنية إذاً، هي الوعاء الذي يفرض هذه العلاقة من أجل تحقيق الأمن والاستقرار، حيث يركز النظام السياسي في الدولة على إدارة شؤون الناس وليس تطبيق الدين أو فرضه على الأفراد، ولذا فقد استقرت الأدبيات المعاصرة على أن المواطنة لا شأن لها بدين أو طائفة أو أي انتماء عرقي، وإنما بحقوق وواجبات الجميع في إطار دولتهم الجامعة (محمود، 2011، ص 38).
- المواطنة في المفهوم الإسلامي:
تعددت الآراء حول مفهوم المواطنة في الإسلام وشروطها وحدودها بين الغربيين والإسلاميين، فالغربيون يعتبرون المواطنة مفهوماً غريباً عن الإسلام من حيث التركيز على الانتماء الديني مع غياب الحدود الجغرافية التي تفصل بين الدول، ولكن هذا الادعاء مردود عليه بحقيقة أن المواطنة وفق المفهوم الإسلامي تتحقق بكون الفرد مسلماً وأن دخول غيرهم إلى دائرة المواطنة تعتمد على صلتهم التعاقدية مع المجموعة الأصلية، وهو ما يتقاطع مع المفهوم الحديث للمواطنة (الأفندي، 2003).
والمواطنة من المنظور الإسلامي تضمن لجميع المواطنين حقوقهم في إطار يعتمد أساساً على الحرية والمساواة دون إهدار حقوق غير المسلمين عن طريق عدم التمييز بين المواطنين على أساس العنصر والمذهب والطبقة والدين، والدعوة إلى الاندماج الكامل والعدل الشامل وضرورة المحافظة على الوحدة الوطنية والمصالح الكبرى للدولة (سليمان، 2013)، وهذا ما ذهبت إليه معظم دساتير الدول الإسلامية، ومنها الدستور الكويتي الذي نصّ في المادة (29) منه على أن “الناس سواسية في الكرامة الإنسانية، وهم متساوون لدى القانون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين”، في دلالة واضحة على تأكيد البعد القانوني لمفهوم المواطنة الحديثة، مع المحافظة على هويتها الإسلامية.
- المواطنة في الحالة الكويتية:
لم يصل مفهوم المواطنة وتطبيقاتها العملية في الحالة الكويتية إلى مستوى النضج والكمال السياسي على الرغم من توفر متطلبات المواطنة في إطارها القانوني والدستوري، إضافة إلى الموروث التاريخي الزاخر بالبنى المؤسسية والتجارب العملية ونموذج التعايش السلمي المشترك الطويل في مسيرة متدرجة نحو قيام دولة القانون عام 1962 حيث الانفتاح السياسي وتوفر فرص المشاركة الشعبية في اختيار مؤسسات الدولة الرئيسية (النقيب، 1999، ص 163؛ رضا، 1992، ص 17).
تشهد الحالة الكويتية مجموعة من الاختلالات والتناقضات بين مسار وتطور الدولة المدنية الحديثة من جهة، واستمرار واستقواء النموذج القبلي والعشائري من جهة أخرى، ويشير عبدالله النفيسي (1978، ص 14) في هذا الخصوص إلى أن الكويت لا تزال في طور الانتقال من كونها القبلي إلى كونها العصري في شكل الدولة على الرغم من وجود محاولات لتأكيد شكل الدولة، فالأمور العامة في رأي النفيسي تدار بروح القبيلة الصرفة، فهناك قوانين ومؤسسات ومحطات ومخافر للشرطة وهناك النظم العامة ولعل كل صور الدولة الحديثة، إلا أنها تدار في الغالب بروح وعقلية القبيلة من دخالة وعصبية وفزعة وفخر وهجاء، الأمر الذي تحولت فيه الدولة في ظل هذه الممارسات إلى مجرد قشر خارجي بينما بقيت الروح القبلية هي السائدة.
لذا فأن مفهوم المواطنة في الكويت بات معلقاً على حالة الصراع والتقاطع وأحياناً المواجهة بين ثقافتين: ثقافة البعض في مقابل ثقافة الكل، فثقافة البعض تمسكت بقوة بجذورها من التنوع العرقي والثقافي والديني ولم تندمج في ثقافة مشتركة تمثل الكل، وظلت محصنة حتى في بيئتها الجغرافية الخاصة حيث تشكلت المناطق والأحياء القديمة تبعاً لتصنيفات سكانها العرقية والطائفية، وسمّيت بأسمائهم مثل منطقة جبلة أي المهاجرين من جهة الجزيرة العربية، ومنطقة شرق نسبة إلى من وفدوا من بلاد فارس، والبادية كمقر للقبائل البعيدة عن الحاضرة الكويتية، كما انقسمت هذه المناطق مع مرور الوقت لتحتضن الأسر والفروع المختلفة لنفس المكوّن الأكبر مثل حي الرشايدة نسبة إلى قبيلة الرشايدة، وحي العوازم نسبة إلى قبيلة العوازم، وحي الحساوية نسبة إلى الشيعة المهاجرين من منطقة الإحساء شرق جزيرة العربية (المزيني، 1994، ص 8-10)، أما قبائل الشمال فقد استوطنت منطقة الجهراء فيما استقر المزارعون في منطقة الفنطاس جنوب مدينة الكويت (الوقيان، 2009، ص 26-27).
يضيف شفيق الغبرا (2011، ص 73-78) بأن الصراع بين النموذجين القبلي والحديث استمر وبقوة حتى بعد إعلان الدولة الوطنية حيث كانت الغلبة للانتماءات الضيقة في السيطرة على المؤسسات العصرية، فالكويت زاخرة بجمعيات النفع العام ومنظمات المجتمع المدني والروابط الأهلية والنقابات المهنية والاتحادات الطلابية والأندية الرياضية والهيئات التجارية والتجمعات الدينية، إلا أن العديد من هذه التنظيمات لم تساهم في دمج المكونات الكويتية المختلفة بل ساعدت على تكريس الانتماءات الضيقة حيث أن التنافس والصراع على إدارة مثل هذه المؤسسات المدنية والمهنية يتم في الغالب على أسس طائفية وقبلية شرسة (المديرس، 1994، ص 59-60).
المسؤولية تجاه هذا الاختلال مشتركة بين الدولة والتيارات السياسية والنخب والقيادات التي تمثل مختلف الشرائح والمكونات الكويتية منذ البدايات الأولى لانطلاقة مسيرة الديمقراطية في الكويت وحتى يومنا الحاضر، فالمحطات الأولى للإصلاح السياسي والمطالبة الشعبية بالمشاركة السياسية تعود إلى عام 1921 وحتى عام 1938، وقد حققت نتائج مهمة في إرساء قواعد الديمقراطية ودولة القانون والمؤسسات وفق الإرادة الشعبية، إلا أن هذه التجربة كانت محدودة ومغلقة على مجموعة من العوائل التجارية التي لم تكتف باستبعاد الفئات الأخرى بل عملت على إقصائهم وترحيلهم من البلاد، ولذلك لم تستمر وبقيت رواسبها النفسية باقية في أذهان الكثير من المواطنين (أسيري، 2017، ص 130-132).
بالإضافة إلى ذلك، فقد جاءت الديمقراطية الكويتية بعد الاستقلال مبتورة ومتعثرة، ورغم الصلاحيات الدستورية الواسعة نسبياً للسلطة التشريعية لم يتجاوز حجم المشاركة السياسية نسبة 10% من إجمالي المواطنين إثر منع المرأة والمتجنسين والعسكريين والشباب من حق الترشيح والانتخاب، كما واكبت المسيرة البرلمانية أزمات سياسية حادة تسببت في تعطيل الحياة الديمقراطية ووقف العمل بالدستور كما هو الحال في الفترة من 1976 وحتى 1981 ثم في الفترة من 1986 وحتى 1992 (الجاسم، 1992، ص 264).
كما أن غياب الأحزاب السياسية على أسس وطنية جامعة أدى إلى قيام العديد من التنظيمات والتيارات السياسية إما وفق الانتماء الطائفي أو القبلي أو النخبوي، فتكرّس فيها الولاء للطائفة والقبيلة والعائلة بشكل قوي، وتحولت معها المشاركة السياسية والانتخابات العامة إلى منافسة بين القبائل والطوائف ووفقاً لأجندات ومكتسبات خاصة، وتحولت العملية السياسية والمشاركة في الحياة العامة في العديد من المناسبات إلى الاهتمام بالأرقام التي تحصدها كل فئة وعدد ممثليها في البرلمان، الأمر الذي قد يحقق القوة والنفوذ للقبيلة أو الطائفة، ليس من أجل تعزيز القيم الديمقراطية العامة وإنما للتقرب إلى السلطة السياسية أو لإثبات وجودها أمام الفئات والشرائح المجتمعية الأخرى (الديين، 1994، ص 17-18).
استفردت الحكومة من جانبها بتقنين النظام الانتخابي والدوائر الانتخابية طوال العهد الدستوري من عام 1961 وحتى عام 2013، فقسمت المناطق الانتخابية على أساس قبلي وفئوي وطائفي، كما كانت جميع التعديلات على نظام التصويت والدوائر الانتخابية وفقاً لتحالفات الحكومة مع فئات محددة ضد بقية المكونات الشعبية لضمان هيمنتها واستفرادها بالقرار السياسي، أما في المواقف القليلة التي كانت تتجسد خلالها حالة من التقارب الوطني والتركيز على القضايا العامة والمكتسبات الدستورية، فقد بادرت السلطة إما إلى تزوير الانتخابات أو تعطيل أعمال المجلس (الجاسم، 1992، ص 11-14).
ثالثاً: الحالة السياسية الشيعية قبل الاستقلال
من الأهمية بمكان دراسة الحالة السياسية الشيعية في الكويت واستخلاص نتائجها من خلال التداخل المباشر بين معطيات الواقع الكويتي الداخلي من ناحية، والتأثير الحاد والمباشر لإرهاصات وضغوط المحيط الإقليمي الذي يلف الكويت من مختلف الجهات من ناحية أخرى، وقد بيّنت جاكلين إسماعيل في هذا الصدد أن التعايش السني-الشيعي في الكويت قد شهد في معظم مراحله التاريخية حالة إيجابية ومقبولة لم تصل إلى حد الصراع أو التصادم العنيف رغم بعض فترات الاختلاف والتباين وعدم الوصول إلى المستوى المثالي في مفاهيم المواطنة بشقيها القانوني والسياسي كما تمليها متطلبات الدولة المدنية الحديثة (Ismael, 1993).
وترجع خصوصية الحالة الكويتية إلى مجموعة من العوامل أهمها الهجرة من المحيط الثلاثي المتمثل في إيران والعراق والجزيرة العربية مع بدايات نشأة الإمارة في النصف الثاني من القرن الثامن عشر نظراً لبعض التوترات التي توالت على المنطقة ومنها احتلال الفرس للبصرة في جنوب العراق عام 1775 واحتدام الصراع بين قبائل وسط الجزيرة العربية بسبب تفشي حالة القحط والجفاف، مع بروز موقع الكويت كملاذ آمن ونواة جديدة للنشاط البحري وتركز الاهتمام البريطاني بها في صراعها مع الدولة العثمانية (Abu-Hakima, 1983, Al-Habib, 2016)، وانتهاءً باكتشاف النفط ومساهمة هذه الثروة الجديدة في استكمال البناء الكويتي الجديد كأحد أبرز الكيانات العربية في المنطقة، وسوف يتناول هذه الجزء التسلسل الزمني لأهم المحطات التاريخية التي شهدتها الكويت في مرحلتي ما قبل الاستقلال والعهد الدستوري، وتأثيرها في بلورة الحالة السياسية الشيعية في الكويت.
(1) مرحلة نشأة الإمارة:
شملت الهجرة متعددة الاتجاهات والمشارب العرقية والمذهبية إلى الكويت أسرة العتوب المنحدرة من قبيلة عنزة، ذات الامتداد الجغرافي الواسع من العراق إلى بلاد الشام وبمزيج من أبناء العمومة السنة والشيعة، حيث تولى شيخها صباح بن جابر (المعروف بصباح الأول) الحكم عام 1756 على أساس عقد اجتماعي مع كبار البيوت التجارية وفق التقاليد العشائرية السائدة آنذاك والقائمة على قاعدة البيعة والشورى بين الطرفين (سعادة، 1992)، وأخذ الكيان الصغير في الاتساع عبر موجات من الهجرة المنظمة خلال الفترة من 1762 وحتى 1866، وقد رسم الرحالة والمقيم السياسي البريطاني لويس بيلي صورة الكويت بالمدينة المسالمة التي لا تحب القتال، وأن شعبها يعمل بالتجارة، كما أن حاكمها يدير الأمور بروح الأب تجاه أبنائه دون التدخل في شؤون الناس (أسيري، 2017).
واتسمت الحياة السياسية آنذاك بالبساطة وسيادة روح التسامي بين الأهالي مما كان له أكبر في تنامي الهجرات وازدهار الحياة المدنية، مع وجود تفاهم بين الأسرة الحاكمة ومجموعة من العوائل التجارية في إدارة الشؤون العامة، وقد عاش الشيعة في هذا البيئة الآمنة مع تركيزهم على عدة من المهن الحضرية كالصيد وبناء السفن وأعمال البناء والحدادة.
رغم التعايش السلمي وقيام نموذج التكامل المدني بين هذه الشرائح المتنوعة، إلا أنها لم تنصهر مع بعضها البعض، فقد انتشرت هذه المكونات المجتمعية بشكل أفقي على عدة مناطق واستوحت أسمائها من الجهات التي قدموا كما بيّن بيانه سابقاً، وهذه التقسيمات المناطقية المتنوعة بدورها فرضت نفسها بشكل واقعي نتيجة لاستحسان العوائل المهاجرة البقاء بقرب بعضها البعض كنوع من التكافل الاجتماعي، وطبيعة المهن المشتركة خاصة في الأسواق أو البحر شكّلت حلقات التواصل اليومي بين مختلف هذه الشرائح.
وعلى الرغم من هذا الواقع القائم على التعددية والانغلاق النسبي على الذات، إلا أن الجميع استشعر في ظله بالارتياح، وخلق شعوراً قوياً لدى الجميع بالانتماء والاستعداد المشترك للمحافظة عليه وحمايته من أية تهديدات حقيقية قد تهدده مهما كان مصدرها تحت مفهوم الانسجام والتماسك الداخلي، وقد تجلى ذلك في العديد من الأخطار الخارجية التي تعرضت لها الكويت منذ بداية نشأتها، وهب الكويتيون مجتمعين لمواجهتها دفاعاً عن وجودهم.
ولتأكيد هويتها المستقلة، بنى الكويتيون أول سور حول مدينتهم عام 1760 بلغ طوله 750 متراً لدرء خطر القبائل المجاورة بعد انهيار نفوذ حليفهم الرئيسي بني خالد، كما شيّد أهل الكويت سورهم الثاني مجدداً على امتداد 2300 متراً عام 1814 في دلالة على توسّع الحاضرة الكويتية بصورة متسارعة، كما قاتل الكويتيون سنة وشيعة جنباً إلى جنب دفاعاً عن وطنهم، وكانت معركة الرقة البحرية عام 1783 من أولى الحروب التي خاضوها في بدايات نشأة الإمارة عبر التصدي لهجوم بعض القبائل العربية من بلاد فارس (بني كعب) وانتصروا عليهم (القناعي، 1968)، ومن اللافت أن غالبية القتلى الكويتيون كانوا من الشيعة الذين واجهوا أبناء مذهبهم من بني كعب وكان شعارهم في المعركة “خل الشيعي للشيعي وتنحى يا السني” (جمال، 2005؛ الخالدي، 1999)، الأمر الذي يعكس ترجيح أمن الجبهة الداخلية على الهوية الطائفية.
من العرض السابق للمرحلة الأولى من نشأة الإمارة يمكن الوقوف على جملة من الاستنتاجات التي ساعدت بساطة أسلوب الإدارة والحكم على بلورتها بوضوح، وتتمثل أولى هذه الشواهد في غياب أية رؤى سياسية للطائفة الشيعية التي انشغلت كبقية المكونات المجتمعية بلقمة العيش وبناء هويتها الخاصة مع مرور الوقت من خلال التوطّن والاستقرار، كما عكست هذه الفترة الزمنية دراية أهل الكويت بالفوارق الاجتماعية والخصوصيات المذهبية فيما بينهم واحترامها والاستعداد للعيش في ظلها، بل والعمل على حمايتها والدفاع عن وجودها، وبالإضافة إلى ذلك ترسّخت حالة الانسجام والإحساس بالمصير المشترك التي عبّر عنها الكويتيون بمواجهة الخطر الخارجي بشكل جماعي أياً كان مصدره.
(2) مرحلة الشيخ مبارك الصباح واتفاقية الحماية البريطانية 1899:
شهد عهد الشيخ مبارك الصباح، الذي اشتهر بمبارك الكبير، تطورات جذرية غيّرت ملامح الكويت داخلياً وخارجياً، ومهدّت لولادة كيان مختلف تماماً للإمارة التي انحصرت السلطة السياسية في ذريته دستورياً بعد الاستقلال، وتميّز حكم الشيخ مبارك الذي دام حتى عام 1915 بالقبضة الحديدية المطلقة، إلاّ أن سياسته ساهمت بشكل فعال في تحقيق الاستقرار الأمني والنمو الاقتصادي عبر توسيع التجارة البحرية وتعزيز ميزانية الدولة من خلال فرض الضرائب على كبار التجار، وكان يشرف شخصياً على مراقبة السوق ويفصل في المشاكل اليومية بين الأهالي.
على الصعيد الخارجي، أعاد الشيخ مبارك الكبير خارطة التحالفات الإقليمية والدولية في ظل الصراعات الشديدة التي شهدتها المنطقة سواءً على صعيد النزاعات القبلية أو المنافسة المستعرة بين روسيا القيصرية والدولة العثمانية وبريطانيا، فاختار الشيخ بريطانيا حليفاً استراتيجياً ووقّع معها معاهدة الحماية عام 1899 وفك الارتباط الإداري والسياسي مع الأستانة، وإقليمياً حوّل حاكم الكويت بوصلة التحالفات نحو القبائل الشيعية في عربستان والمحمرة في إيران وعشائر جنوب العراق إضافة إلى شيوخ الإحساء لمواجهة خصومه في الجزيرة العربية وفي مقدمتهم آل الرشيد وخال شقيقيه المغدورين في جنوب العراق يوسف الإبراهيم، وتغيّرت الموازين السياسية في الداخل الكويتي إثر تقييد العوائل التجارية النافذة وتقريب قبائل البدو في البادية والشيعة في الحاضرة الكويتية، الذين شاركوا معه في حروبه الخارجية حتى قبيل وفاته عام 1916، ومن أبرزها معركة الصريف عام 1904 التي خسرتها الكويت أمام آل الرشيد (Abu-Hakima, 1983, p. 113).
جاءت الأجواء السياسية في عهد الشيخ مبارك لمصلحة شيعة الكويت بوجه عام، إذ لم يكن للشيعة أية طموحات سياسية ولم تغيّر طبيعة الحكم المطلق آنذاك من هذا الواقع شيئاً، ولكن العهد الجديد انعكس إيجابياً على تجار الشيعة في تعزيز تجارتهم البحرية عبر الدعم المالي من السلطة، كما استفاد الشيعة كبقية المكونات الضعيفة من الخدمات الجديدة التي شهدتها الكويت كالبريد والبرق والتعليم النظامي عندما افتتحت أول مدرسة حديثة عام 1911 (Abu-Hakima, 1983, p. 123-124).
وفي مؤشر على تقريب الشيعة، وضع الشيخ مبارك بمعية حليفه الشيخ خزعل بن مرداو (المحمراوي) حجر الأساس لأول حسينية كبيرة ببناء حديث لأبناء الطائفة، والمعروفة حتى اليوم بالحسينية الخزعلية (الجديدة)، وتبرع بكميات من خشب “الصوارة” المستخدم في تجهيز الأسقف في المباني الحديثة، كما وهب ابنه جابر المبارك، الذي ورث أباه في الحكم، بيته لتحويله إلى مطبخ لذلك المبني الديني المخصص لإحياء مآثر أهل البيت، وتحديداً تخليد مناسبة عاشوراء باعتبارها أهم المناسبات الدينية لدى الشيعة، ويمكن القول بأن عهد الشيخ مبارك قد مهّد لتحالف سياسي معلن بين الشيعة بشكل عام وأسرة الحكم، وتجلت صور هذا التقارب الوثيق في العديد من المحطات السياسية اللاحقة حيث أبدى الشيعة انحيازهم إلى السلطة بشكل واضح في صراعها مع القوى المجتمعية ذات الطموح السياسي الواسع.
(3) مرحلة الإصلاح السياسي حتى الاستقلال (1920-1960):
كانت حرب الجهراء 1920، بداية لبروز البعد الطائفي في الكويت نتيجة لتداعيات إقليمية، فقد هاجم جيش الإخوان، أو فيالق المقاتلين السلفيين البدو ممن شكلوا القوة الضاربة للملك عبدالعزيز آل سعود لتوحيد أراضي الجزيرة العربية بعد تمردهم عليه، على منطقة الجهراء شمال الكويت تمهيداً لاقتحام العاصمة بذرائع دينية شملت اتهام الكويتيين بالفساد والزندقة واستنكار وجود الشيعة باعتبارهم من أصحاب البدع والضلال (Louër, 2008, p. 22).
ولكن الانسجام الشيعي السني تجلى مجدداً كتعبير عن الولاء والمصير المشترك في مواجهة الخطر الخارجي، حيث اقترح رجل الدين الشيعي محمد مهدي القزويني على الحاكم بناء السور الثالث حول الكويت، وكان لخبرة الشيعة في أعمال البناء سبب في رفع الجزء الأكبر منه والممتد من بوابة (دروازة) البريعصي إلى دروازة دسمان بينما تكفل آل معرفي مسؤولية تموين وتجهيز مواد البناء وتوصيلها إلى مواقع العمل (جمال 2005)، كما يضيف محمد الحبيب (2015) مشاركة الشيعة في القتال وتقديم الشهداء دفاعاً عن بلدهم في تلك الحرب.
بعد وفاة الشيخ مبارك بدأت أجواء الحريات والأنشطة السياسية في الظهور تدريجياً، وشهدت البلاد أولى التحركات العملية بعد معركة الجهراء عام 1921 التي اعتبر الكويتيون بمختلف مكوناتهم تلبيتهم للدفاع عن بلدهم فيها مقدمة مستحقة للمشاركة في قرارات إدارة الدولة، سيّما في ظل بروز الحركات السياسية النشطة في الخليج والوطن العربي، بالإضافة إلى تفشي سوء الإدارة والخلافات التي دبت في أوساط أسرة الحكم بعد وفاة الشيخ سالم المبارك عام 1921، فاجتمع وجهاء الطبقة التجارية مع الأسرة وأبلغوهم بربط المبايعة بتشكيل مجلس استشاري يشارك بتنظيم شؤون الحكم، الأمر الذي قبله الشيخ أحمد الجابر وتم تعيين مجلس الشورى الأول من 12 عضو تناصفه عوائل منطقتي الشرق والقبلة، إلا أن هذه التجربة لم يكتب لها النجاح بسبب الخلافات بين أعضاء المجلس ناهيك عن ضعف صلاحياته الاستشارية غير الملزمة للحاكم (الزميع، 2018، ص 56-57).
إلا أن حركة 1938 الإصلاحية تعد البداية الحقيقية لقيام واقع سياسي جديد قائم على بناء مؤسسة الدولة والحكم، من حيث وجود أول مجلس منتخب بكامل الصلاحيات في التشريع والرقابة على الأداء الحكومي وتقنين ميزانية الدولة، وسن القوانين المهمة كقانون الجنسية والميزانية وتنظيم عمل المرافق الحيوية في البلاد كالميناء والتجارة والاحتكار، وكانت الظروف الداخلية والإقليمية لصالح حركة الشباب الوطني بفضل انتشار التعليم وإصدار أول صحيفة محلية (كاظمة) بالإضافة إلى المنشورات السرية المحرضة على الإصلاح السياسي، وكان للبعد القومي الأثر الكبير في استقواء هذه المطالبات الوطنية، والدعم الكبير الذي حصلت عليه النخبة التجارية وكبار العوائل الكويتية النافذة من الحكومة العراقية التي خصصت إذاعة قصر الزهور لدعم هذه الحركة السياسية، ونجحت الحركة في إعداد وثيقة دستورية للكويت وجردت الحاكم من الكثير من صلاحياته في حين لم تمانع بريطانيا في بداية الأمر على قيام هذا التحرك القوي (العمر، 1994، ص 24؛ أسيري، 2017، ص 34).
على الرغم من الجوانب المهمة التي حملتها حركة الإصلاح والتي تحولت فيما بعد إلى قواعد أرست نظام الحكم الدستوري في الكويت ما بعد الاستقلال وبنموذجها السياسي والدستوري الحالي، إلا أنها تسببت في تقنين الكثير من الواقع السياسي ومعادلات القوة والتقسيمات العديدة في الكويت وفق معايير طائفية وطبقية، فقد أعدت الكتلة الوطنية قائمة بأسماء الناخبين تعتمد على الأساس الطبقي حصراً على العوائل الحضرية السنية التجارية والنافذة في حين اقتصر الترشيح على أبناء هذه الأسر أيضاً، فتم استبعاد الشيعة والبحارة والأسر الفقيرة، ولم يكتمل عمر هذا المجلس سوى لشهور معدودة (أسيري، 2017، ص 130-131).
تفاوت الموقف الشيعي من الحركة الإصلاحية الأولى، فعلى الرغم من الهواجس والمؤشرات التي كانت توحي بموجة ضاغطة ضد تهميش الشيعة خاصة من الأصول الإيرانية والتحريض على طردهم ووقف الهجرة من إيران، وهذا ما أكدته لاحقاً القوانين التي أصدرها المجلس فور تشكيله كأهم الأولويات، كان الزعيم الديني السيد جواد القزويني قد ساند المطالب الإصلاحية ودور الشعب في الشراكة السياسية (الخالدي، 1999، ص 96).
إلا أن هذا الموقف قد انقلب رأساً على عقب بعد الإعلان عن القوائم الانتخابية واستبعاد الشيعة منها، حيث نظّم أبناء الطائفة أول تظاهرة احتجاجية واسعة كتعبير سياسي واضح ضد هذا القرار ومن ثمّ الوقوف مع السلطة في المواجهتين مع المجلس التشريعي الأول عام 1938 والمجلس التشريعي الثاني عام 1939 عندما أعيد انتخابه، حيث تم تصفية المجلس تماماً وعودة السلطة المطلقة للشيخ أحمد الجابر، وقد شكلت أحداث المجلس (1938-1939) نقطة تحول مهمة في إبراز المواقف السياسية للشيعة وموقفهم من الدولة والنظام (Fuller & Francke, 1999)، ففي حين يتهم البعض الشيعة في وطنيتهم ويعاب عليهم أنهم انتصروا للسلطة، يعتبر الشيعة موقفهم انتصاراً لشرعية الحكم والولاء للدولة، وفتح هذا الموقف باب الجدل في معنى الموالاة والوطنية، فهل الوقوف مع السلطة يعبر خيانة؟ أم أن الوطنية تتمثل في خندق المعارضة السياسية، وإن أدت إلى تغيير شكل ومضمون وقواعد الحكم واللعبة السياسية؟
البعد الطائفي لعب دوراً إضافياً في هذا الموقف والتصنيف السياسي للمكونات الكويتية، فعلى سبيل المثال لم يكن الشيعة الفئة الوحيدة التي ساندت آل صباح في مواجهتها لأنصار المجلس التشريعي، بل كانوا في جبهة عريضة شملت الأسر الفقيرة في منطقة شرق والمرقاب والبادية والجهراء والفنطاس وبالإضافة إلى البحارة والحمالين وأصحاب المهن المتواضعة، كما شملت هذه الجبهة أعداداً من الأسر التجارية من النخبة المعارضة لتيار الكتلة الوطنية، ومع ذلك فإن التركيز والاتهام المباشر لم يشمل الآخرين مثلما أصاب الشيعة، فهذا الفرز يعكس حساسية البعد الطائفي وسهولة تعليق الاتهامات والتخوين، وكذلك الثقل الاجتماعي الذي كان يمثله الشيعة في قلب الموازين وترجيح كفة أحد أطراف النزاع كما كان الحال بين المعارضة الوطنية وأسرة الحكم، واستمرت هذه المعادلة كرقم صعب ومهم في تحديد المواقف السياسية وتقييم العلاقة بين القوى السياسية وبين التنظيمات السياسية بالسلطة في العهد الدستوري بعد الاستقلال وحتى الوقت الحاضر.
وأدى اكتشاف النفط في الكويت وبدء انتاجه فعلياً بعد الحرب العالمية الثانية إلى تغييرات كلية في بنية الدولة وهيكليتها الإدارية وقواعد اقتصادها وحتى تركيبتها الديمغرافية، واشغلت الثروة الجديدة البلاد في بناء حاضرتها وتدشين البنية التحتية، وفتحت آفاق واسعة جداً لفرص العمل في القطاع الحكومي الذي أفرز عدداً كبيراً من الإدارات الحديثة سيّما في القطاع النفطي، كما انصرف المواطنون إلى إعادة ترتيب نمط حياتهم، ليبدأ عهد مختلف من امتزاج مكونات المجتمع الكويتي في بيئة عمل واحدة تحت سقف الدولة الريعية، لتنحسر مع بدايات هذه الحقبة الجديدة صور المشاركة السياسية أو المطالبة فيها، إلا أن مرحلة الانفتاح الجديد حملت بذور تنشئة سياسية أوسع نطاقاً، قوامها التعليم والصحافة والسفر إلى الخارج، وظهرت المؤسسات الإدارية الحديثة التي سيطر عليها أفراد الأسرة الحاكمة كمجلس الإنشاء عام 1952 واللجنة التنفيذية العليا عام 1954 وتشكيل الدوائر الحكومية وأخيراً تأسيس مجلس الشيوخ الأعلى عام 1961 (الطبطبائي، 1985، ص 303-308).
وعلى الرغم من هيمنة السلطة على إدارة شؤون البلد، شهد المجتمع الكويتي سلسلة من المظاهرات والاحتجاجات للمطالبة بالديمقراطية والمشاركة السياسية قادتها المجاميع الشبابية خاصة من طلبة المدارس وذلك في ذروة المد الناصري وتصاعد موجة حركات التحرير عبر البلاد العربية، وقد شارك في تلك المظاهرات، التي انتهت غالباً بمصادمات حادة مع قوى الأمن، مجاميع من شباب الشيعة خاصة ذوى التوجهات السياسية اليسارية (الهاجري، 2017، ص 263-264).
لذا يمكن القول بأن تجربة الإصلاحات السياسية في هذه المرحلة التاريخية قد ساهمت بشكل واضح على ظهور الهوية السياسية الشيعية والتعبير عن مواقف محددة تمثلت في الاحتجاج على استبعادهم من المشاركة في صنع القرار كمكون مجتمعي يطالب بحقوق المواطنة السياسية، كما عكس تقارب الشيعة مع السلطة في مواجهة العوائل التجارية ودعم الإجراءات التي اتخذها الحاكم في إلغاء مشروعهم الإصلاحي الجديد دراية جدية بأهمية موازين القوة السياسية وإعادة توزيعها والنتائج التي قد تفضي إليها من حيث المكاسب والنفوذ، وأخيراً ساعدت مؤشرات ظهور النزعة الطائفية وارتداداتها الإقليمية على توجيه الخلافات في الشأن الداخلي وبدء الاصطفاف المذهبي على خلفية المواقف السياسية، التي رأى فيها الشيعة وجودهم في جبهة الحكومة أفضل من حيث المكاسب السياسية في تلك الحقبة الزمنية.
رابعاً: الحالة السياسية الشيعة في العهد الدستوري
شهدت الحالة الشيعية بعد الاستقلال ديناميكية سياسية جديدة أكثر وضوحاً وتنظيماً ونشاطاً في الشأن العام، خاصة ما يتعلق بالمشاركة البرلمانية، كما تميزت هذه الحالة بالتعددية الفكرية والسياسية داخل الوسط الشيعي نفسه، وانعكس ذلك على شكل تفاوت مواقفها من الأحداث السياسية وفقاً للمعطيات السياسية في حينها، وسوف يركز هذا الجزء على مجموعة من المحطات الزمنية المختلفة في متغيراتها وموازينها والموقف الشيعي تجاهها.
(1) مرحلة بداية الاستقلال حتى الثورة الإيرانية (1961-1979):
اتسّمت مواقف الشيعة، بمعظم تياراتهم وتجمعاتهم السياسية ومكوناتهم الاجتماعية وتنظيماتهم الدينية، بالقرب من الحكومة طوال مرحلة ما قبل الاستقلال، إلا أن هذه العلاقة لم تصب في مصلحة الشيعة سوى في إضفاء الشرعية على وجودهم وانتمائهم للبلاد والأرض، فكانت طموحات الشيعة السياسية في المكاسب والنفوذ محدودة ولم تتجاوز المطالبات الفردية أو الفئوية الصغيرة وخاصة ما يتعلق بشؤون العقيدة وحرية العبادة أو تولي أبنائها بعض المناصب القيادية العليا أو الوسطى في الإدارة الحكومية، دون الخوض بشكل جدي ومباشر في مبادرات الإصلاح الكبرى التي قادتها التيارات السياسية الوطنية، فالموقف الشيعي العام تمثّل إما بالحياد والسلبية أو الميل إلى الطرف الحكومي إذا ما اشتدت حدة المواجهة بين الحكومة والمعارضة (المديرس، 1999، ص 14؛ الخالدي، 1999، ص 98).
موقف الشيعة البعيد عن القوى السياسية والنخبة السياسية الشعبية من جهة واستغلاله من طرف الحكومة من جهة أخرى وضعهم في حالة من الشعور العام بالغبن واعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية (Cordesman, 1997, p. 10-15)، وهذا قد يفسر عدم تولي الشخصيات الشيعية أية مناصب رفيعة على المستوى الرسمي منذ نشأة الدولة وحتى عام 1975 عندما تم تعيين أول وزير شيعي بعد الفوز بعشرة مقاعد في مجلس الأمة لأول مرة في تاريخهم (السعيدي، 2010، ص 43-45، الشايجي، 2009، ص 142).
بمعنى آخر، فتحت معطيات حقبة الاستقلال وقيام دولة المؤسسات المدنية تحت مظلة الدستور المجال أمام الشيعة للتركيز على إعادة تنظيم أنفسهم والمشاركة الفعالة في مختلف أشكال العمل المؤسسي وعلى مستوى جمعيات النفع العام والنقابات والاتحادات والأندية الرياضية والمجالس البلدية والتشريعية، إما عن طريق التنسيق مع أطراف أخرى أو في الغالب عبر توحدهم في إطار الطائفة لضمان وجود واضح لهم في مختلف مؤسسات الدولة الخاصة والعامة (الخالدي، 1999، ص 128).
إلا أن السلطة حرصت من جهتها على إبقاء هذه التقسيمات والانتماءات الضيقة بكل ما تحمل من خلافات وصور التنافس من أجل تحقيق مكتسبات ومصالح خاصة عبر القنوات الحكومية التي باتت مهيمنة بشكل مطلق على مقدرات الدولة وثرواتها المالية والمناصب العليا ذات الامتيازات الكبيرة، فالديمقراطية الناشئة، وإن سيطرت السلطة على الكثير من مفاصلها وقواعد اللعبة السياسية فيها، كانت منطلقاً للوجود السياسي الشيعي، فمن جانب كرسّت الديمقراطية مفهوم المواطنة حيث يستمد المواطنون وجودهم ويتساوون في الحقوق والواجبات بقوة القانون، ومن جانب آخر فتحت أمامهم أبواب العمل السياسي بحرية (Nakash, 2006).
لذلك، كانت مشاركة الشيعة في الانتخابات العامة ملفتة وذات دلالات سياسية، وقد ساهم في أهميتها نسب التعليم المميزة في صفوف الشيعة بفضل العديد من الكتاتيب المنتشرة منذ القدم حتى إنشاء المدرسة الجعفرية النظامية عام 1932 (الخالدي، 1999، ص 108-110)، بالإضافة إلى تمركزهم في مناطق محددة جعلت منهم أغلبية سكانية تضمن نجاحهم في انتخابات الهيئات التمثيلية والمؤسسات المختلفة وفي مقدمتها مجلس الأمة، كما هو موضّح في الجدول (1).
ونتيجة لاختلاف انتماءاتهم وأصولهم العرقية إلى جانب تعددية المرجعية الدينية، فقد شكّل الشيعة العديد من التجمعات والتنظيمات والمدارس الفكرية والسياسية التي لم تخلو من المنافسة البينية رغم ارتباط جلها بفلك الحكومة.
إلا أن بدايات العمل السياسي كانت حكراً على توجهات النخبة التجارية الشيعية بحكم علاقاتها الاجتماعية الواسعة وارتباطها بشكل وثيق مع الحكومة، فشارك الشيعة في أول انتخابات لاختيار المجلس التأسيسي المكلف بإعداد دستور دائم للبلاد عام 1961، وبلغت نسبة المشاركة العامة 90% في مؤشر يعكس أهمية المرحلة والقبول الشعبي لاحتضان التجربة الديمقراطية الجديدة، وأسوة ببقية الدوائر الانتخابية شهدت الدائرة الشيعية الوحيدة كثافة عالية في المشاركة بلغت 90% أيضاً.
جدول (1) أعداد الناخبين الكويتيين من مختلف التكوينات الاجتماعية في الدوائر الانتخابية (2012)
المكونات الاجتماعية | الدائرة الأولى | الدائرة الثانية | الدائرة الثالثة | الدائرة الرابعة | الدائرة الخامسة | المجموع |
الشيعة | 29000 | 9000 | 21000 | 4700 | 7000 | 70700 |
النسبة المئوية | 40.8% | 19.6% | 33.3% | 4.6% | 6.1% | 17.8% |
الحضر | 23000 | 19000 | 23000 | 13000 | 18000 | 96000 |
النسبة المئوية | 32.4% | 41.3% | 36.5% | 12.6% | 15.8% | 24.2% |
العوازم | 8000 | 3600 | 1200 | 2650 | 26000 | 41450 |
النسبة المئوية | 11.3% | 7.8% | 1.9% | 2.6% | 22.8% | 10.4% |
المطران | 0 | 1100 | 0 | 19375 | 5900 | 26375 |
النسبة المئوية | 0.0% | 2.4% | 0.0% | 18.8% | 5.2% | 6.6% |
العجمان | 0 | 950 | 0 | 4425 | 17500 | 22875 |
النسبة المئوية | 0.0% | 2.1% | 0.0% | 4.3% | 15.4% | 5.8% |
الرشايدة | 0 | 1900 | 2400 | 15100 | 3000 | 22400 |
النسبة المئوية | 0.0% | 4.1% | 3.8% | 14.7% | 2.6% | 5.6% |
العتبان | 0 | 0 | 3000 | 2210 | 6500 | 11710 |
النسبة المئوية | 0.0% | 0.0% | 4.8% | 2.1% | 5.7% | 2.9% |
عنزة | 0 | 2900 | 0 | 10800 | 3400 | 17100 |
النسبة المئوية | 0.0% | 6.3% | 0.0% | 10.5% | 3.0% | 4.3% |
الهواجر | 0 | 0 | 1500 | 0 | 4800 | 6300 |
النسبة المئوية | 0.0% | 0.0% | 2.4% | 0.0% | 4.2% | 1.6% |
شمر | 0 | 0 | 0 | 7220 | 0 | 7220 |
النسبة المئوية | 0.0% | 0.0% | 0.0% | 7.0% | 0.0% | 1.8% |
الظفير | 0 | 0 | 0 | 7370 | 0 | 7370 |
النسبة المئوية | 0.0% | 0.0% | 0.0% | 7.2% | 0.0% | 1.9% |
باقي القبائل | 6000 | 7550 | 10900 | 8800 | 21900 | 55150 |
النسبة المئوية | 8.5% | 16.4% | 17.3% | 8.5% | 19.2% | 13.9% |
العدد الإجمالي للناخبين | 71000 | 46000 | 63000 | 103000 | 114000 | 397000 |
– المصدر: موقع الوطن الالكتروني، 06 يناير 2012 (https://alwatan.wordpress.com/2012/01/08).
واستمرت مشاركة الشيعة في الانتخابات التشريعية المتتالية بمعدلات عالية خصوصاً في الانتخابات المثيرة للجدل كما سنبين لاحقاً، كما هيمنت النخبة الاجتماعية التقليدية على القرار السياسي طوال عقدين من بداية العهد الدستوري، حيث حصد الشيعة خمس مقاعد نيابية في أول انتخابات عامة وصلت نسبة المشاركة فيها إلى 85%، ومما يدل على سرعة تنظيم الشيعة أنفسهم لتعزيز وجودهم ونجاحهم في مضاعفة نسبة تمثيلهم البرلماني إلى تسع مقاعد (أي 18% من مجمل مقاعد مجلس الأمة) في الانتخابات التالية عام 1967 والتي عرفت بسنة التزوير، والتي لم يرفض الشيعة نتائجها ولم يشاركوا بقية القوى السياسية في الاحتجاجات أو تقديم استقالاتهم لأن التزوير لم يشمل دوائرهم (أنظر الجدول 2).
جدول (2) المشاركة السياسية في الانتخابات العامة في دولة الكويت (1961-2016)
المجلس | تاريخ الانتخاب | عدد الدوائر | عدد النواب الشيعة | إجمالي المقاعد | نسبة التمثيل | نظام التصويت | دوائر الفوز | نسبة المشاركة |
المجلس التأسيسي | 30/12/1961 | 10 | 2 | 20 | 20% | 2 | 1 | 90% |
مجلس الأمة الأول | 23/01/1963 | 10 | 5 | 50 | 10% | 5 | 2 | 85% |
مجلس الأمة الثاني | 25/01/1967 | 10 | 9 | 50 | 18% | 5 | 2 | 65% |
مجلس الأمة الثالث | 23/01/1971 | 10 | 6 | 50 | 12% | 5 | 2 | 51% |
مجلس الأمة الرابع | 27/01/1975 | 10 | 10 | 50 | 20% | 5 | 2 | 60% |
مجلس الأمة الخامس | 23/02/1981 | 25 | 3 | 50 | 6% | 2 | 2 | 90% |
مجلس الأمة السادس | 20/02/1985 | 25 | 3 | 50 | 6% | 2 | 2 | 85% |
المجلس الوطني | 10/06/1990 | 25 | 7 | 50 | 14% | 2 | 4 | 62% |
مجلس الأمة السابع | 05/10/1992 | 25 | 5 | 50 | 10% | 2 | 4 | 83% |
مجلس الأمة الثامن | 07/10/1996 | 25 | 5 | 50 | 10% | 2 | 4 | 83% |
مجلس الأمة التاسع | 02/07/1999 | 25 | 6 | 50 | 12% | 2 | 4 | 81% |
مجلس الأمة العاشر | 05/07/2003 | 25 | 5 | 50 | 10% | 2 | 3 | 90% |
مجلس الأمة الحادي عشر | 29/06/2006 | 25 | 4 | 50 | 8% | 2 | 3 | 67% |
مجلس الأمة الثاني عشر | 17/05/2008 | 5 | 5 | 50 | 10% | 4 | 1 | 60% |
مجلس الأمة الثالث عشر | 16/05/2009 | 5 | 9 | 50 | 18% | 4 | 3 | 58% |
مجلس الأمة الرابع عشر (مبطل) | 02/02/2012 | 5 | 7 | 50 | 14% | 4 | 2 | 66% |
مجلس الأمة الرابع عشر (مبطل) | 01/12/2012 | 5 | 16 | 50 | 32% | 1 | 5 | 39% |
مجلس الأمة الرابع عشر | 27/07/2013 | 5 | 8 | 50 | 16% | 1 | 4 | 52% |
*مجلس الأمة الخامس عشر | 26/11/2016 | 5 | 6 | 50 | 12% | 1 | 3 | 68% |
– المصدر: أسيري، عبدالرضا. (2017). النظام السياسي في الكويت: مبادئ.. وممارسات (ط. 13). الكويت: دار القبس، ص. 142.
* القبس الالكتروني، 27 نوفمبر 2016 (https://alqabas.com/325446).
وتوّج التمثيل الشيعي في الفصل التشريعي الرابع عام 1975 بسابقة مهمة بعد الفوز بعشرة مقاعد برلمانية للمرة الأولى، كانت كفيلة بتولي أول شخصية شيعية لحقيبة وزارية (السعيدي، 2010، ص 44)، وقد لعبت “مجموعة ديوانية الشباب”، وهي ائتلاف من الشباب المثقف من مختلف الانتماءات الشيعية، دوراً رئيسياً في التحضير لها، حيث نشطت هذه الجماعة مع بدايات عقد السبعينيات من القرن الماضي لتغيير الوضع القائم لدى الطائفة والتركيز على زيادة التمثيل في البرلمان بغض النظر عن معايير الكفاءة والترويج لهذه الفكرة عبر إقامة الندوات واستغلال المنتديات الاجتماعية المتمثلة في الديوانيات، إلا أن هذا الحراك المنظم لم يخرج عن مظلة النخبة التجارية التقليدية (الطريحي، 2017، ص 243).
وطوال الفترة الممتدة من 1961 وحتى 1979 كان الاتجاه السياسي الشيعي يميل بقوة إلى جانب الحكومة، ولم يتخذ خلالها النواب الشيعة أي موقف مع المعارضة حتى في الأحداث المفصلية ومن أهمها استفراد السلطة بالحكم بعد حل البرلمان وتعليق العمل بالدستور في عام 1976 وحتى 1981، وعلى الرغم من انضمام نواب الشيعة جميعاً إلى العريضة الموقعة من أعضاء البرلمان المنحل للمطالبة بإعادة العمل بالديمقراطية في بداية الأمر، إلا أنهم تراجعوا وسحبوا تواقيعهم بعد ضغط من الحكومة، مما أدى إلى استياء قطاع كبير من القواعد الشعبية وخاصة من الطبقة المثقفة وأصحاب التوجهات الدينية، وتعرّض نواب الشيعة إلى انتقادات شديدة، عكست مؤشراً جديداً لمزيد من النضج السياسي وبداية لحقبة خروج الشيعة ولو جزئياً عن النمط التقليدي والدخول في العمق الوطني بدلاً من الانطواء الطائفي.
(2) مرحلة الثورة الإيرانية حتى الغزو العراقي لدولة الكويت (1979-1990):
شكلت الثورة الإيرانية مرحلة جديدة في السياسة الكويتية الحديثة، فقد كانت الكويت على المستوى الرسمي والشعبي من أوائل الدول التي اعترفت بالثورة الجديدة، وكان الشيخ صباح الأحمد الصباح أول وزير خارجية خليجي يزور إيران لتقديم التهاني لآية الله الخميني، واتفق الجانبان على بدء صفحة جديدة من التعاون والعلاقات الإيجابية بين البلدين، كما تشكّل وفد كبير من القوى السياسية والوطنية والشخصيات الكويتية البارزة لزيارة طهران وتهنئة قائد الثورة، وشمل الوفد التعددية الكويتية برمتها من الشيعة والسنة، حيث اعتبرت القوى الليبرالية والوطنية السنية الثورة الإيرانية حدث تاريخي مهم يحمل رسالة سياسية ينظر لها عبر التصدي للظلم والاستبداد وتحقيق إرادة الشعوب والدعوة إلى المساواة والعدالة (الخالدي، 1999، ص 112-115؛ الغبرا، 2011، 85-86).
لم يدم شهر العسل السياسي مع الثورة الإيرانية بسبب بعض التصريحات التي أطلقها قادة إيران الجدد حول تصدير الثورة، التي اعتبرتها دول الخليج بمثابة استهداف لها والدعوة إلى تغيير أنظمتها المشابهة للنظام الملكي الإيراني المنهار، كما جاءت الحرب العراقية – الإيرانية لتظهر بدايات الموجه الطائفية في منطقة الخليج، وبرزت بوضوح اللهجة الطائفية إضافة إلى استحضار العداء التاريخي الفارسي – العربي وإسقاطه على الحاضر (المديرس، 1999، ص 22-24)، وعلى الرغم من أن دولة الكويت أعلنت الحياد في الحرب القريبة والمتاخمة لحدودها وبسبب التركيبة الداخلية المختلطة بين الشيعة والسنة، إلا أنها ما لبثت أن أخذت جانب الانحياز الكامل للعراق بالدعم اللوجستي والسياسي والمساعدات المالية الهائلة (أسيري، 2017، ص 271).
وتزامن توقيت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 مع تنامي ظاهرة الصحوة الدينية في المنطقة العربية، ومنها الكويت، ولم يكن الشيعة استثناءً من هذه الظاهرة حيث سيطر التيار المتدين على جمعية الثقافة الاجتماعية، إحدى أهم مؤسسات المجتمع المدني الشيعي، وكان لهم حضور لافت في الانتخابات الطلابية في جامعة الكويت، إضافة إلى تحقيق رقم مهم في انتخابات مجلس الأمة عام 1981، كما بادرت بعض الفعاليات الشيعية بالتنسيق مع بعض القوى الوطنية في إقامة ندوات في مسجد شعبان في منطقة شرق للمطالبة بمحاربة الفساد وعوده الحياة البرلمانية إلا أن الحكومة اجهضت هذا التحرك.
ومع الإحساس بالدور الشيعي الجديد وخطه المعارض، وتحت الضغوط السياسية من الداخل وهاجس الحرب العراقية الإيرانية أعلنت الحكومة عزمها على استعادة العمل بالدستور والدعوة إلى انتخابات عامة، بعد اتخاذ خطوتين مهمتين، الأولى تشكيل لجنة لتنقيح الدستور بهدف إلغاء بعض صلاحيات البرلمان وتحويله إلى ما يشبه المجلس الاستشاري، الأمر الذي فشل فشلاً ذريعاً برفض كل المقترحات الحكومية من قبل اللجنة التي اختارت الحكومة كامل أعضائها.
وتمثلت الخطوة الثانية بتغيير الدوائر الانتخابية من أجل تقليص التمثيل الحضري بشكل عام والشيعي بشكل خاص، وفتح المجال أمام زيادة التمثيل القبلي الذي اتخذت منه الحكومة حليفاً جديداً، ونجح هذا التكتيك الجديد في تراجع تمثيل الشيعة من عشر إلى ثلاث مقاعد فقط وفشل العديد من رموز العمل الوطني من الوصول إلى مجلس الأمة، لكن الأقلية البرلمانية الشيعية اتخذت موقفاً معارضاً للحكومة خاصة في الشأن الخارجي، حيث عارض نوابها مشروع قانون الحكومة لتقديم قرض مالي كبير للعراق قدّر بستة مليارات دينار، مما أدى إلى إحراج الحكومة بالخروج بإجماع وطني على موقفها من الحرب العراقية الإيرانية، وسجل هذا الموقف بداية لانقسام طائفي واضح تحت قبة البرلمان الكويتي بسبب تداعيات الوضع الإقليمي.
فقد كان للموقف السياسي الحكومي تجاه الشيعة في بداية الثمانينيات انعكاساً سلبياَ على المستوى الشعبي لأغلبية الشيعة، الأمر الذي قد يفسر تغيّر المزاج السياسي الشيعي وانتخاب جيل جديد من النواب الشباب الذين صنفوا في جبهة المعارضة الوطنية الكويتية لأول مرة على مدى المشاركات النيابية وإنهاء حقبة طويلة لهيمنة النخبة البرلمانية التقليدية من النواب المحسوبين على الحكومة، وفي توجه سياسي جديد للطائفة الشيعية للتنسيق مع بقية القوى الوطنية بدأت المطالبات الشيعية لأول مرة تنسجم مع مطالب التيارات السياسية البارزة في الإصلاحات العامة والمكتسبات الدستورية والمزيد من الحريات (المباركي، 2008، ص 39-40)، وصنّف النواب الشيعة في حقبة الثمانينيات في مجلس الأمة لعام 1981 وعام 1985 ضمن “نواب المبادئ” المطالبين بسيادة القانون وإرساء قواعد العدل والمساواة وتجسيد مبادئ المواطنة تمييزاً لهم عن “نواب الخدمات” الساعين وراء الخدمات الشخصية والمصالح الانتخابية والفئوية التي اشتهر النواب الموالين للحكومة القيام بها مقابل مساندة المواقف الحكومية في البرلمان ودعم الأخيرة لهم في الانتخابات.
فعلى الرغم من استمرار الضعف العددي للتمثيل الشيعي في مجلس 1985 فقد انضمت الكتلة الشيعية إلى المعارضة البرلمانية القوية والمتماسكة بفضل التنسيق بين التيارات السياسية التي بدأت تتبلور ملامحها التنظيمية وشملت العديد من أبناء القبائل لأول مرة، مما أربك الحكومة، ونجحت المساءلة النيابية لأول مرة في إقالة أحد أبناء الأسرة الحاكمة من منصبه، لتتوالى الاستجوابات البرلمانية لبقية أعضاء الحكومة على خلفية ملفات الفساد والمال العام، الأمر الذي هدد بقاء الحكومة فأقدمت على حل مجلس الأمة وتعطيل العمل بالدستور مجدداً في يوليو 1986.
وبشكل عام مثلّت هذه الحقبة أحد أخطر المراحل التاريخية التي شهدتها الكويت في العهد الدستوري من حيث تهديد الاستقرار السياسي الداخلي والانسجام المجتمعي في الداخل جراء الأحداث والتطورات الخارجية، سيّما في البعد الطائفي، فقد لاقت السياسة الكويتية المؤيدة للنظام العراقي خلال الحرب العراقية الإيرانية ترحيباً كبيراً في الأوساط الكويتية السنية وبخاصة التيارات الإسلامية والقوى القومية والتجار، في حين تعاطف الشيعة مع الجانب الإيراني واعتبروا خروج الحكومة عن سياسة التوازن الإقليمي إخلال جسيم باستراتيجية الكويت الخارجية، ومع تصاعد وتيرة الحرب وتطوراتها واستمرارها لمدة (8) سنوات، ومن ثم اتساع نطاقها الجغرافي من خلال عسكرة الخليج واستهداف ناقلات النفط الكويتية، تشبّع الواقع الكويتي بكل صور الاحتقان الطائفي، وتعرضت الكويت لسلسلة من الأعمال الإرهابية والتفجيرات في المنشآت الحكومية والسفارات الأجنبية والأماكن العامة واختطاف الطائرات انتهاءً باستهداف موكب أمير البلاد في سابقة أمنية لم تعهدها البلاد من قبل (الوقيان والشمري، 1996، ص 325)، ورغم تنوع الجهات التي وقفت وراء هذه الأعمال إلا أن أصابع الاتهام وجهت بشكل مباشر إلى الشيعة في العدد الأكبر منها، فكانت الاعتقالات والملاحقات القانونية، وصدرت أحكام قضائية وصلت إلى حد الإعدام وعقوبات الحبس طويلة الأمد، شملت العديد من الشيعة الكويتيين إضافة إلى رعايا من جنسيات دول أخرى أبرزها لبنان والعراق (Fuller & Francke, 1999)، ثم جاءت أحداث تفجيرات مكة المكرمة عام 1988 لتزيد الأمور تعقيداً، حيث تم إعدام (16) مواطناً كويتياً شيعياً من الحجاج بتهمة الوقوف وراء تلك العمليات (Louër, 2008).
على الرغم من أن شريحة وحيدة من الشيعة كانت متهمة بأنها وراء هذه الأعمال إلاّ أن أجواء الاستياء والغضب والتحريض الشعبي كانت بدرجة كبيرة ضد عموم الشيعة، والطعن في ولائهم الوطني خصوصاً بعد استهداف رمز الدولة وشرعيتها، وقد اتخذت الحكومة سلسلة من الإجراءات ضدهم، من بينها سحب الجنسية الكويتية وجوازات السفر من العديد من المواطنين الشيعة، وعزل الطيارين العسكريين الشيعة ووقف تعيينهم في المراكز والقطاعات الحساسة كالجيش والشرطة والنيابة العامة وقطاع الطيران والمؤسسات النفطية، فالحالة الطائفية والتعبئة الإعلامية والتحريض من القوى والمكونات الأخرى لم تساهم في استخدام القبضة الحديدة ضد الشيعة في حقبة الثمانينيات فحسب، بل تعدتها في تعميم الضغط على الغالبية من أبناء هذه الطائفة وخلق نظرة سلبية تجاههم والتشكيك في هويتهم الوطنية وانتمائهم للأرض والدولة.
ومما يؤكد أهمية البعد الخارجي، وخاصة في المحيط الإقليمي المباشر، على الشأن الكويتي الداخلي، استمرار هاجس حرب الخليج الأولى وبكل تداعياتها السياسية والأمنية، وتأثيرها على تأجيج الحالة الطائفية، انشغال الكويتيون بما في ذلك القوى السياسية عن تعطيل العمل بالدستور وانفراد الحكومة في إدارة شؤون الدولة.
وعلى عكس موقفهم عام 1976 بعد تعطيل البرلمان كان موقف نواب الشيعة في عام 1986 مختلفاً تماماً، حيث انضموا جميعاً إلى مجموعة “تكتل النواب” للمطالبة بعودة الديمقراطية في مشهد تصاعدي عرف بدواوين يوم “الاثنين”، وأدى إلى اعتقال الكثير من الشخصيات السياسية والبرلمانية إثر مصادمات قوات الأمن مع المحتجين في المهرجانات الخطابية الجماهيرية التي تعاقب على استضافتها أعضاء المجلس المنحل في مختلف مناطق الكويت، ولم تخلو من المشاركة الشيعية الواضحة.
وبعد حوار دام عدة شهور مع مختلف الفعاليات السياسية بما فيها المعارضة أعلنت الحكومة عن مبادرة عرفت بـ “المجلس الوطني” كمقترح لمجلس انتقالي يتم اختيار أعضائه بالانتخاب والتعيين ويكلف بتقييم التجربة البرلمانية، الأمر الذي اعتبرته القوى الوطنية بدعة سياسية وقاطعت على إثرها الدعوة لتلك الانتخابات.
أما الشيعة فقد شاركوا في تلك الانتخابات بدرجة إيجابية رغم مقاطعة بعض التيارات المعارضة منها، ولعل أحد أسباب ذلك السبب يعود إلى الضغط الكبير الذي تعرض له عموم الشيعة خلال فترة حل البرلمان والاتهامات التي لاحقت بعض شرائحها جراء بعض العمليات الإرهابية كنوع من إعلان الموالاة للسلطة.
(3) مرحلة التحرير حتى الربيع العربي (1991-2010):
كان الغزو العراقي وتبعاته محطة في غاية الأهمية بالنسبة للشعب الكويتي، حيث تجدّد الإحساس المشترك بالخطر والمصاب، وترجم ذلك عملياً من خلال التكافل الاجتماعي وصمود الجبهة الداخلية في مواجهة المعتدي (خليل علي حيدر، 2013، ص 2218)، فاشتركت كل شرائح الشعب الكويتي في عمليات المقاومة وشملت لائحة شهداء الكويت والأسرى والمعتقلين جميع الطوائف، وكانت الهوية الكويتية ركيزة يعتمد عليها ويسوق لها الكويتيون في المحافل الدولية.
وفي أول مؤتمر شعبي يجمع القيادة السياسية والقوى السياسية في المنفى، شهدت مدينة جدة بالمملكة العربية السعودية لقاء تجديد البيعة لصاحب السمو الشيخ جابر الأحمد رمزاً للشرعية الوطنية، والتعبير عن وحدة الشعب الكويتي في مواجهة الاحتلال العراقي، وأكد المجتمعون خلال الفترة من 13-15 أكتوبر 1990 على التمسك بالشرعية الكويتية والالتزام بدستور 1962 وعودة العمل بالنظام الديمقراطي.
أما الغزو العراقي بقيادة صدام حسين فقد أثبت أن الطائفية الحادة التي سادت بين الكويتيين خلال فترة الحرب العراقية – الإيرانية والتأييد الواسع للحكومة والسنة لنظام صدام كان وهماً وخطاً جسيماً دفعت الكويت ثمنه باهظاً، بينما جاء الموقف الإيراني في إدانة الغزو وتأييد القرارات الأممية بشأن الكويت بما فيها قرار التدخل العسكري تحت مظلة مجلس الأمن واستضافة الآلاف من الأسر الكويتية التي نزحت من الكويت، الأثر الكبير في امتصاص حدة الطائفية، الأمر الذي ثمنته الحكومة بعد تحرير الكويت عالياً وقدمت الاعتذار الرسمي لإيران بسبب وقوفها مع النظام العراقي خلال حرب الخليج الأولى (1980-1988).
وبدأت مرحلة جديدة في العمل السياسي، أملاً في الاستفادة من دروس الغزو وقيمة الهوية الكويتية وضرورة التمسك بالثوابت الوطنية وإعادة بناء الوطن على خلفية التلاحم الوطني، تمثلت بالإعلان عن مجموعة من التنظيمات السياسية الإسلامية والليبرالية، وقد فتح فضاء التعددية السياسية والنشاط العلني المجال أمام الشيعة للإعلان عن وجودهم سياسياً متمثلاً بتنظيم الائتلاف الإسلامي الوطني، كأكبر وأهم التجمعات الشيعية الذي ضم مجموعة من التوجهات الدينية وطبقة التجار، محققاً فوزاً مهماً واستطاع أن يخترق دوائر انتخابية جديدة لأول مرة منذ عام 1981 ضاعف فيه عدد مقاعد الشيعة النيابية الذي اقتصر على ثلاث نواب فقط.
واتجهت بوصلة الائتلاف الشيعي نحو جبهة القوى السياسية الرئيسية المعارضة التي تبنت جملة من القضايا الوطنية وبتأييد شعبي واسع كالمحافظة على المكتسبات الدستورية والحقوق السياسية للمواطنين وملاحقة ملفات الفساد المالي التي استشرت في فترة غياب الديمقراطية، كما دخل الائتلاف الشيعي للمرة الأولى تاريخياً في جهد سياسي منظم لفرض أكبر عدد من النواب المنتخبين، ومن القوى السياسية تحديداً، في التشكيل الوزاري في مسعى جاد لتحقيق نموذج الحكومة البرلمانية.
وفي الانتخابات التشريعية عام 1996 انفرد التحالف الإسلامي الوطني، الذي كان يمثل الثقل الأكبر في الائتلاف ويتبع في مرجعيته الفقهية آية الله الخميني، في تيار سياسي جديد محافظاً على نهج المعارضة والخطاب الوطني العام مع بقية التنظيمات السياسية الأخرى، واستطاع أن يحافظ على تمثيله البرلماني بشكل متواصل حتى الوقت الراهن، وتلا ذلك بزوغ مجموعة كبيرة من التنظيمات الشيعية التي تفاوتت في فكرها السياسي وثقلها الاجتماعي وتأثيرها في الشارع الشيعي، كما هو مبين في الجدول رقم (3)، ومنها تجمع العدالة والسلام الذي يتبنى خط مرجعية آية الله محمد الشيرازي، وقد بدأ مسيرته منذ سبعينيات القرن الماضي بالنشاط الدعوي والثقافي وتحول عام 2005 إلى تنظيم سياسي معلن ويخوض انتخابات مجلس الأمة برموزه السياسيين، وينطلق في خطابه الشعبي من أولوية الاهتمام بالقضايا المذهبية وحقوق الطائفة الشيعية.
جدول (3) القوى والتيارات السياسية والكتل النيابية في الكويت
(أ) على مستوى التيارات والقوى السياسية | التيار الليبرالي | المنبر الديموقراطي الكويتي | |
التجمع الوطني الديموقراطي | |||
التحالف الوطني الديموقراطي | |||
تيار الإسلام السياسي | سنة | الحركة الدستورية الإسلامية | |
التجمع الإسلامي السلفي | |||
الحركة السلفية | |||
تجمع ثوابت الأمة | |||
حزب الأمة | |||
شيعة | التحالف الإسلامي الوطني | ||
تجمع العدالة والإسلام | |||
تجمع الميثاق الوطني | |||
تجمع الرسالة الإنسانية | |||
حركة التوافق الوطني الإسلامية | |||
التيار الاشتراكي | التيار التقدمي الكويتي | ||
(ب) على مستوى الكتل النيابية | كتلة العمل الشعبي | ||
كتلة التنمية والإصلاح | |||
كتلة العمل الوطني | |||
(ج) على مستوى الحراك الشعبي | حركة العمل الشعبي | ||
الحركة الدستورية | |||
الحركة الديمقراطية المدنية |
– المصدر: أسيري، عبدالرضا. (2017). النظام السياسي في الكويت: مبادئ.. وممارسات (ط. 13). الكويت: دار القبس.
كما أعلن عن تجمع الميثاق الوطني من السائرين على خطى المرجعية الدينية للسيد محمد حسين فضل الله ويشمل العديد من تجار الشيعة ووجهائها من العوائل الاجتماعية والنخبوية، وعلى الرغم من محدودية دوره السياسي في مقابل نشاطه الفكري، إلا أن الميثاق قد يتحالف مع التيارات الشيعية القوية في الانتخابات، أو يكتفي بدعم بعض الشخصيات السياسية البارزة
بدورهم، أعلن الشيعة من الجذور الإحسائية، وذات المرجعية الدينية الكويتية المتمثلة في أسرة الميرزا الإحقاقي، عن تجمع الرسالة الإنسانية والذي تميل مواقفه غالباً تجاه الحكومة، ونجح ممثل منهم من الظفر بمقعد برلماني في انتخابات عام 2009.
وأخيراً، تأتي حركة التوافق الوطني الإسلامية، التي انشقت عن التحالف الإسلامي الوطني عام 2003 رافضة توجهاته المعارضة، وتضم مجموعة من رجال الدين والأكاديميين من الرجال والنساء، ولها نشاطها السياسي الخاص من خلال الندوات وتنظيم المؤتمرات، ولم تخض الانتخابات البرلمانية مكتفية بدعم المرشحين المؤيدين للحكومة من الشيعة والسنة في مختلف الدوائر الانتخابية.
وفي عام 2005 تحالفت جميع التنظيمات الشيعية تحت مسمى ائتلاف التجمعات الوطني لمواجهة التحالف الإسلامي الوطني الذي استمر في خط المعارضة البرلمانية، وكسر احتكاره لمعظم المقاعد البرلمانية، وتوحيد الجهود من أجل المطالبة الجماعية بحقوق أبناء الطائفة، والتحالف مع الحكومة لتحقيق مكاسب اجتماعية وسياسية مثل الحصول على رخص بناء المساجد واختيار شخصيات شيعية كوزراء وفي المناصب القيادية في الدولة وتعيين أبنائهم في القطاعات المهمة مثل النيابة العامة والسلك الدبلوماسي وأكاديميات ضباط الجيش والشرطة والحرس الوطني.
وعلى مستوى مؤسسات المجتمع المدني، فقد كان للشيعة السبق في المبادرة إلى تشكيل بعضها أو الانضمام إلى عضوية بعضها الآخر مع المشاركة الفاعلة فيها مع باقي المكونات الاجتماعية التي تحمل أهدافاً وطنية عامة ومشتركة، فقد تولى الشيعة تأسيس وإدارة جمعية الثقافة الاجتماعية عام 1963، حيث أصبحت منذ ذاك التاريخ قوة رئيسية داخل الجماعة الشيعية تقوم بوظائف دينية وتربوية واجتماعية وسياسية (شفيق الغبرا، 2011)، وفي مجال العمل الطلابي الجامعي، كان للشيعة قائمتين طلابيتين رئيسيتين هما القائمة الإسلامية (تيار جمعية الثقافة) والقائمة الحرة (تيار الشيرازية)، إضافة إلى مشاركة الكثير منهم في قائمة الوسط الديمقراطي الممثلة للتيار الليبرالي والقومي وكذلك القائمة المستقلة التي تمثل الطبقة الوسطى عبر كل الفئات الشعبية.
كما كان للشيعة تواجد فاعل داخل جمعية الخريجين التي تعد من أقدم جمعيات النفع العام، ويخوض أبناء الشيعة انتخابات كل من نقابة عمال النفط وجمعية المهندسين والصحفيين والمحامين وجمعية أعضاء هيئة التدريس بجامعة الكويت والجمعية الكويتية لحقوق الإنسان في قوائم وطنية مشتركة ومتنافسة، وفي ظل الاحتقان الطائفي خلال السنوات الأخيرة بادرت شخصيات من السنة والشيعة في تأسيس جمعيات نفع عام تعني بتعزيز قيم المواطنة كمشروع “ولاء لتعزيز قيم المواطنة”، والجمعية الكويتية للإخاء الوطني التي تهتم بالمحافظة على النسيج الاجتماعي الوطني.
ويرى الشيعة، كأقلية مذهبية، أن ترسيخ دور مؤسسات المجتمع المدني مدعاة لتأكيد روح المواطنة وتعزيز مبدأ الرأي والرأي الآخر، وعندما تولي الوزير عبدالهادي الصالح حقيبة وزارة الدولة لشؤون مجلس الأمة عام 2006 استحدث قطاعاً جديداً في هيكلها الإداري باسم قطاع التنمية الديمقراطية يختص بشؤون المرأة والتوعية الديمقراطية ودعم دور مؤسسات المجتمع المدني (الصالح، 2018، ص 163، ص، 214).
كما شهد مجلس الأمة ولادة أول تجمع برلماني يضم مختلف الشرائح الكويتية باسم “كتلة العمل الشعبي” عام 1999 يضم الحضر والبدو والسنة والشيعة من مختلف المحافظات، وشكلت هذه المجموعة أقوى تكتل برلماني يقود العمل النيابي ويحرك الشارع الكويتي وسط إجماع وطني كان يضرب به المثل (الشهابي، الدوسري والمحمود، 2017، ص 56)، الأمر الذي أحرج الحكومة وباتت القوانين الإصلاحية والأخرى الشعبية كقانون استقلالية القضاء ومكافحة الفساد وحماية المعاقين والمرأة وتعزيز موقع الطبقة الوسطى، من خلال دعم حقوق المهنيين كالمعلمين والمهندسين والأطباء وأساتذة الجامعات، من بين أهم مطالب هذا التجمع وكان ممثلو هذا التكتل في قمة القبول الشعبي الذي عكس نفسه إيجابياً في الانتخابات العامة.
جاءت مطالبات إصلاح النظام الانتخابي وتقليص الدوائر الانتخابية تحت شعار الدوائر الخمسة لتتوج شعبية ونجومية الكتلة الوطنية الجديدة، وتم لأول مرة إسقاط الحكومة عبر كماشة سياسية تمثلت في استجواب رئيس مجلس الوزراء كسابقة دستورية مهمة وفرض الإصلاحات السياسية عبر الحراك الجماهيري الفعال وبمطالبات تجسّد الإجماع الوطني (الحربي، 2007، ص 196-199)، ثم جاءت انتخابات 2006 كأول تجربة مكتملة للديمقراطية عندما تم ترشيح وانتخاب المرأة لتعكس صورة جلية من التلاحم الوطني، حيث كانت الأصوات المشتركة بين المرشحين الشيعة والسنة في أعلى مستوى طوال تاريخ الكويت السياسي.
لم تصمد مرحلة الاستقرار السياسي أمام تطورات الوضع الإقليمي مجدداً، بل يمكن القول أنه تعرضّ لهزة عنيفة في عام 2008 على خلفية ما يعرف بحادثة التأبين، حيث نظمت جمعية الثقافة الاجتماعية، التي تعتبر امتداداً للتحالف الوطني الإسلامي، احتفالاً لتأبين القيادي البارز في حزب الله اللبناني عماد مغنية، فاستعادت هذه المناسبة ذكريات الثمانينيات بكل مرارتها من خلال اتهام مغنية بأنه كان مهندس اختطاف طائرة الجابرية الكويتية عام 1988 (حيدر، 2013، ص 2250)، حيث غيّر هذا الحدث مسار الحياة السياسية في الكويت، وبروح غير مسبوقة من الطائفية والتحريض، وشمل ذلك انهيار الرمزية الوطنية لكتلة العمل الشعبي بعد خروج معظم النواب الشيعة منها، وبرزت صور تبادل التحريض الطائفي المنظم في معظم وسائل الإعلام من صحافة وفضائيات، وانشغلت وسائل التواصل الاجتماعي الناشئة في ذلك الوقت بكل أشكال التراشق والاتهام، الأمر الذي خيّم بظلاله أجواء من الكراهية والأحقاد.
فقد جاءت ردود الفعل السياسية والشعبية على حادثة التأبين حادة وشديدة وخاصة من قبل رموز التيارات الدينية فانفجرت حالة الاحتقان الطائفي من جديد في البلاد، ولم تخلو بعض المطالبات الشعبية والبرلمانية من الدعوة الصريحة إلى سحب الجنسية الكويتية من المشاركين في التأبين، ومنهم أعضاء مجلس الأمة وترحيل الشيعة إلى إيران، الأمر الذي دفع الشيعة بمختلف توجهاتهم الفكرية والسياسية إلى المزيد من الالتحام الداخلي، وانحياز الجميع، بما في ذلك تيار التحالف الإسلامي المعارض الوحيد، إلى جانب الحكومة استشعاراً بخذلان القوى السياسية لهم، واعتبار السلطة الخيار الأفضل في هذه المرحلة.
وكانت العواطف الشيعية بدورها ملتهبة، وتجلى الموقف الشيعي وبدعم كبير من الشارع الشيعي نفسه واضحاً في بعدين الأول إضعاف المعارضة السياسية، فغياب العنصر الشيعي بالتأكيد سوف يترك أثراً على وطنية المعارضة وعدم تمثيلها لكل الشرائح الكويتية، والثاني في تعزيز موقف الحكومة ونجاح مواجهتها للمعارضة التي بدأت تسيطر عليها بوضوح التيارات القبلية والدينية، فبدأ موقف التيارات السياسية الشيعية والمزاج الشيعي العام يميل تجاه الحكومة مما يعكس تحولاً مهماً في الحالة الشيعية.
ومما يعكس حالة الاحتقان الطائفي نجاح الشخصيات الشيعية من الطرح الديني المتشدد كرد فعل على اختيار النواب المتشددين دينياً من التيارات الدينية السنية، ويتماشى هذا التحول مع تحليل خلدون النقيب (1999) بأن السلطة تتعاطى مع المجتمع الكويتي على أساس مبدأ التضامنيات، أي كحزمة من الجماعات المختلفة التي تتمثل في البدو والحضر والشيعة، بحيث تقترب أو تبتعد علاقتها مع هذه المكونات على ضوء معطيات كل فترة.
وزاد الحراك السياسي الشيعي وضوحاً مع نهاية عام 2010 وبات أكثر قرباً للنظام، فقد ساهم نواب الشيعة بما يمثلونه من ثقل برلماني قوامه تسعة أعضاء في إنقاذ وزراء الحكومة من العديد من الاستجوابات المتتالية وطرح الثقة فيهم، بل كانت أصوات النواب الشيعة كفيلة بضمان استمرار رئيس الحكومة في منصبه بعد أحد أقوى الاستجوابات عام 2011 حيث نجا الشيخ ناصر المحمد الصباح وبفارق صوتين فقط من أول سابقة برلمانية كادت تطيح برئيس الوزراء خارج السلطة، كما كان لتأييد الغالبية العظمى من الشيعة الدور الكبير في إنجاح مرسوم تعديل النظام الانتخابي، وعملياً من خلال التصويت بشكل ملفت في أول انتخابات برلمانية وفقاً لنظام لصوت الواحد، حيث عوضّت نسبة التصويت في الدوائر الشيعية التراجع الحاد في الإقبال على صناديق الاقتراع (أنظر الجدول 4).
جدول (4) نسبة التصويت في الدوائر الانتخابية (ديسمبر، 2012)
الدائرة الانتخابية | المقترعون | أعداد الناخبين | النسبة |
الأولى | 42029 | 74876 | 56.1% |
الثانية | 26167 | 47772 | 54.7% |
الثالثة | 38205 | 73065 | 52.2% |
الرابعة | 29722 | 108395 | 27.4% |
الخامسة | 24381 | 118461 | 20.6% |
النسبة الإجمالية للتصويت 39% |
– المصدر: موقع جريدة الأنباء، 06 فبراير 2018 (http://www.alanba.com.kw/ar/kuwait-news/343830/02-12-2012).
وشهد الخطاب الشيعي بدوره تصعيداً إعلامياً وعبر وسائل التواصل الاجتماعي ضد هذه التيارات، مما أدى إلى زيادة شعبية المرشحين من الطرح الطائفي المتشدد أو المطالبين بشكل علني بحقوق الشيعة في الانتخابات التي جرت وفق نظام التصويت الجديد عام 2012، إذ لم تكن لمثل هذه الشريحة أن تنجح في ظل الاستقرار السياسي نسبياً قبيل تفجّر الاحتقان الطائفي بشكله الصارخ في الوقت الراهن، كما أيّد عموم الشيعة بقوة تصدي أجهزة الأمن للمتظاهرين والنشطاء والمغردين من المعارضة والتحريض عليهم سياسياً وإعلامياً، ومباركة خطوات الحكومة في إحالة الجموع ممن اقتحموا مبنى البرلمان أثناء الحراك الشعبي عام 2012 وتجمعوا في قاعته الرئيسية في موقف احتجاجي إلى المحاكمة وصدور أحكام بالسجن ضدهم.
وعلى الصعيد البرلماني في هذه الفترة، اتخذ النواب الشيعة كتلة تصويتية موحدة مؤيدة لإقرار الكثير من مشاريع القوانين الحكومية للحد من الحريات العامة والحبس على ذمة التحقيق في القضايا السياسية وفرض عقوبة الحبس في الجرائم الالكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي بالإضافة إلى وسائل الإعلام التقليدية كالصحافة والقنوات الفضائية، وباركت أيضاً قرارات إسقاط الجنسية عن بعض المعارضين في مؤشر واضح على دعم الحكومة في التضييق على المعارضة الإسلامية.
على صعيد السياسة الخارجية، وفي إطار الاحتقان الطائفي أيضاً، فقد تباينت آراء الشيعة والسنة بشكل متناقض إزاء معظم الملفات الخارجية، فبينما اعتبر الشيعة الانتفاضة البحرينية حق شعبي مشروع لا يختلف عن بقية الثورات العربية كان السنة ينظرون لها بعين التشكيك الطائفي ويعتبرونها أصابع إيرانية للتدخل في الشأن الخليجي، وفي مقابل تأييد غالبية السنة لإرسال قوات كويتية لمساندة الحكومة البحرينية ضد المحتجين تحت مظلة درع الجزيرة رفض الشيعة بقوة هذا التحرك الحكومي باعتبارها قوات قمع للشعب البحريني المتظاهر بشكل سلمي، وذلك في موقف معاكس تماماً تجاه الحراك الكويتي نفسه، والذي أشادت به المعارضة كاحتجاج سلمي لمطالبات سياسية مشروعة وأدانت المعالجة الأمنية لها، بينما اعتبرها الشيعة أداة لأجندات خارجية تستهدف الاستقرار السياسي المحلي ويفترض مواجهتها بقوة وحزم، وبالمثل انقسمت الطائفتين حول الملف اليمني، ففي حين بارك الكثير من التيارات الدينية السنية التدخل العسكري للتحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية ومشاركة الكويت فيها، اعتبر الشيعة الحرب على اليمن قمعاً للثورة الشعبية اليمنية، ودماراً للبنية التحتية لأفقر شعب عربي.
ووقف السنة والشيعة على النقيض أيضاً في الملف السوري، حيث الموقف الشيعي المؤيد للنظام الرسمي وحقه في ضرب المعارضة المسلحة والمجاميع الإرهابية التي زحفت إلى الأراضي السورية، في مقابل تأييد السنة للمقاومة المسلحة وتقديم الدعم المالي والعسكري لها مع تأييد التدخل الخارجي من أجل إسقاط الحكومة السورية متمثلة بنظام بشار الأسد.
لم يختلف الموقف الطائفي إزاء الملف النووي الإيراني، ففي مقابل عدم ارتياح السنة للاتفاق الأممي بين إيران والمجتمع الدولي عام 2015، جاء تأييد الشيعة للاتفاقية كنصر لدبلوماسية الحوار وبوابة لتخفيض حدة التوتر في المنطقة وتجنيبها خطر المواجهة العسكرية والتدخل الخارجي.
تزامن الحراك السياسي على خلفية قضية الإيداعات المليونية مع الانتفاضات العربية، وإن سبقها التحرك الكويتي بدءً من أولى المطالبات السياسية الجادة في عام 2006 بعد التحرير لتعديل النظام الانتخابي، وفصل ولاية العهد عن رئاسة الوزارة ومشاركة مجلس الأمة في عزل الأمير لظروف صحية وفقاً للدستور، ووصلت أوجها مع نهايات عام 2011 حيث شهدت البلاد تجمعات غير مسبوقة من حيث العدد ومن حيث تركيبة المشاركين، الأمر الذي قد يفسر بمرحلة التغيير في شرائح المجتمع الكويتي ونشاط المؤسسات المدنية.
أولى ملامح هذا التغيير تمثلت في المجاميع القبلية التي باتت تشكل أكبر المكونات المجتمعية ويصل تمثيلها إلى أغلبية أعضاء مجلس الأمة، إذ تجاوزت مطالبها السياسية الرؤى والطموحات التي كانت تنسب تقليدياً إلى هذه الشريحة، فلم تعد ورقة مضمونة ومحسومة لصالح النظام، وبالإضافة إلى ذلك برز العنصر الشبابي بقوة وبات يشكّل طليعة الحراك بدلاً من النخب التجارية والقوى السياسية التقليدية، كما جاءت المطالب السياسية عالية السقف والمضمون ووصلت إلى حد المطالبة بالحكومة الشعبية وعزل رئيس الوزراء وحل مجلس الأمة الذي اتهم بالفساد، وبلغت ذروتها إلى حد انتقاد القيادة السياسية بشكل علني.
ترجمت الانتخابات العامة في فبراير 2012 هذا المد المتصاعد حيث خسرت الحكومة معظم حلفائها في البرلمان وهيمنت عليه المعارضة بعد فوزها بالأغلبية المطلقة (36 نائباً) فكسرت بذلك تحكّم الحكومة في أغلبية التصويت التشريع والمحاسبة، وطغى على هذه الأغلبية الصبغة الدينية التي استهلت مطالباتها الجديدة بتعديل المادة (2) والمادة (79) من الدستور لتكون الشريعة الإسلامية المصدر الوحيد للتشريع وألا يصدر أي قانون يتعارض مع أحكام الشريعة، مما حدا بالشيعة وبعض القوى السياسية إلى إتهام الإسلاميين باستغلال الزخم الشعبي لفرض أجندتهم الفكرية، والإعلان الصريح بالوقوف إلى جانب السلطة لتحجيم هذا المد القادم.
على الرغم من غياب البرامج الانتخابية وآلية تحقيق الأولويات السياسية التي يتبناها النواب، لم يخلو العمل البرلماني من صور التعاون بين النواب الشيعة والسنة التي تفرض نفسها تبعاً للمصلحة العامة أو المنفعة المتبادلة بين الطرفين أو بسبب التقارب الفكري والسياسي في بعض المواقف وطبيعة القضايا المطروحة، فقد يتم التنسيق داخل البرلمان في انتخابات المناصب القيادية واللجان البرلمانية، إضافةً إلى القضايا الشعبية أو ذات الطابع الإسلامي الشرعي المتفق عليه بين الطرفين، كما تطابقت المواقف أيضاً حول القضايا الإسلامية والقومية كقضية القدس والعدوان الإسرائيلي على لبنان وغزة ومساندة الأقليات المسلمة المضطهدة حول العالم .
أما في المواقف المعنية بقضايا الإصلاح السياسي وتعزيز الدور الرقابي واستقلالية القضاء فكانت الكفة البرلمانية الشيعية، باستثناء النواب الموالين للحكومة، تميل في الغالب إلى التيارات الوطنية الليبرالية، فلم تكن المواقف البرلمانية للشيعة ذات صبغة واحدة طوال العهد الدستوري بل عكست التباينات السياسية والفكرية داخل المكون الشيعي نفسه.
إلا أن الخارطة البرلمانية الراهنة باتت تعتمد أكثر على تشكيل كتل برلمانية بعد انتخاب كل مجلس جديد، وهي تجمعات قائمة على أساس التقارب الفكري والسياسي بين النواب، وإن لم يكونوا قد خاضوا الانتخابات بالتنسيق المسبق، إلا أنهم يتفقون لاحقاً على مجموعة من الأولويات في العمل التشريعي.
وشهدت المجالس النيابية الأخيرة نماذج أخرى من التكتلات البرلمانية إلا أنها تحولت إلى تجمعات هشة لاختلاف التمثيل وأولويات المناطق الانتخابية، فلم تتعدى التنسيق في تقديم الاقتراحات أو الدعم المتبادل للوصول إلى اللجان البرلمانية مع ترك القرار لأعضائها عند تباين مواقفهم، وانخرط الشيعة في بعض هذه الكتل الجديدة مثل كتلة المستقلين التي جمعت النواب المقربين من الحكومة في مقابل الكتل النيابية المعارضة بشقيها الإسلامي والليبرالي وذلك خلال العقد الأول من الألفية الثالثة، وكتلة المستقبل الجديدة بعد انتخابات عام 2013 وهي كتلة وطنية تضم نواباً جدد من فئة الشباب إلى جانب بعض النواب السابقين ممن خرجوا عن عباءة الحكومة بعد تغيير رئيسها.
(4) الشيعة وتبدل المواقف السياسية بعد 2015:
كما تبيّن من السرد السابق، فقد برز دور الشيعة في تأييد الحكومة بشكل واضح، فباركوا كل أشكال التصدي للمعارضة ولم يخفوا تحريضهم على نفس الإجراءات التي تعرضوا لها في السابق كتأييد سحب الجنسية بشكل معلن وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، ودعم الملاحقات الأمنية والقانونية والتحريض على فض التجمعات الشعبية بالقوة الأمنية.
كما كان للشيعة الدور البارز في إنجاح الإجراءات الحكومية الجديدة وخاصة تعديل النظام الانتخابي الذي عرف بـ “مرسوم الصوت الواحد”، وعوضوا المقاطعة الواسعة للانتخابات من قبل القوى السياسية والتيارات القبلية والدينية بمشاركة كثيفة تمثلت في تشكيل أقوى كتلة برلمانية على الإطلاق قوامها (17) نائباً منتخباً، الأمر الذي شكل صدمة غاضبة من التيار السني معتبرين ذلك استفزازاً طائفياً من قبل الشيعة، بل تفاجأت الحكومة من الفوز السياسي الكبير للشيعة مما جعلها تعيد النظر لاحقاً في إطلاق يد الشيعة في الحياة العامة مجدداً، لذا وبعد بطلان الانتخابات الجديدة لعام 2012 كسرت العديد من القوى السياسية مقاطعتها حيث برّر البعض ذلك بعدم السماح للشيعة في الهيمنة على الساحة السياسية أو إعادة رسم معادلات جديدة وهذا ما أدى إلى إعادة التوازن البرلماني وتراجع عدد النواب الشيعة.
انتهى شهر العسل بين السلطة والشيعة سريعاً وبدا للشيعة بأن الحكومة لم تكافئهم في المناصب القيادية أو تحقيق مصالحهم عبر العدد الكبير من نوابهم داخل البرلمان، ثم جاءت قضية “خلية العبدلي” لتعيد موجة أخرى من التراشق بل الانتقام السياسي لتدور الدوائر على الشيعة من جديد سواءً من قبل الحكومة أو العديد من التيارات السنية، فقد حملت الحادثة مفاجآت مفادها قيام مجموعة من المواطنين الشيعة بتخزين لكميات من السلاح والذخيرة والمواد المتفجرة غير المرخصة، وتبنت الحكومة إثارة إعلامية رسمية استمرت لبضع أسابيع وشملت الاتهامات الموجهة لأفراد الخلية التخابر مع جهات أجنبية وفي مقدمتها إيران وحزب الله اللبناني، وصدرت الأحكام النهائية ضد غالبية المتهمين شملت عقوبة الإعدام والسجن من عشر سنوات إلى مدى الحياة، كانت في المنظور الشيعي قاسية وكيدية أو مبالغ فيها، كما تمثّل ازدواجية في الموقف، حيث تمت في المقابل تبرئة عدد من المواطنين السنة من تهمة الانتماء لتنظيم داعش أو جمع الأموال لتمويل المعارضة السورية المسلحة.
وقد قاطع النواب الشيعة جلسات مجلس الأمة بعد صدور الأحكام القضائية ولوّح عدد منهم بالاستقالة من عضويته فيما اتخذ قسم آخر منهم موقف المعارضة داخل البرلمان خاصة فيما يخص الاستجوابات المقدمة للوزراء، الأمر الذي قد يعيد تقييم الموقف السياسي الشيعي ولو جزئياً تجاه الحكومة، وقد انعكس انشغال القوى السياسية والمكونات المجتمعية بخلافاتها الجانبية وفي أجواء من الاحتقان الطائفي المستمر لعدة سنوات على انفراد الحكومة بسلطة القرار والحصانة من المحاسبة،مما مهد لتراجع مرتبة الكويت في مؤشرات مكافحة الفساد إضافة الى ظهور قوانين تحد من حرية الصحافة والإعلام.
من العرض السابق، يمكن القول بأن الدور الشيعي في الحياة السياسية بات أكثر نضجاً وقدرة على التعبير عن أطروحاته وأولوياته ومواقفه في مرحلة العهد الدستوري، وقد انطلق هذا التحرك الجديد من الشعور بالمواطنة الدستورية وترجمتها من خلال الدخول في مؤسسات المجتمع المدني والتنظيمات السياسية والمشاركة الشعبية في الانتخابات العامة، كما نجح الشيعة في تشكيل ثقل سياسي مهم، سواءً في التنسيق مع القوى السياسية الوطنية أو في القرارات الصادرة من مجلس الأمة بشقيها التشريعي والرقابي، كما لا يمكن تغافل تأثير الأحداث والتطورات الإقليمية على الحالة السياسية الشيعية ومواقفها السياسية، خاصة ما يتعلق بالبعد الطائفي لتداعيات هذه المؤثرات الخارجية كالثورة الإسلامية في إيران والحرب العراقية الإيرانية وسقوط نظام البعث في بغداد وأحداث ونتائج الربيع العربي، إلا أن التهديدات والأخطار الخارجية كانت كما هو الحال منذ نشأة الإمارة في القرن الـ 18 مدعاة للتسامي على الخلافات المذهبية في الداخل وتجسيد مظاهر الوحدة الوطنية بشكل واضح ومميز.
الخلاصة
مرت الحالة الشيعية في الكويت بمجموعة من المنعطفات والمحطات قبل وبعد الاستقلال، عكست نفسها في جملة من المواقف والتوجهات السياسية بين الموالاة للحكومة والمعارضة والتنسيق مع مختلف الشرائح الاجتماعية والمذهبية والفكرية والسياسية في المجتمع الكويتي، وقد لعبت مجموعة عوامل داخلية وإقليمية دوراً في تشكيل خارطة المواقف السياسية للطائفة الشيعية، ولكنها في النهاية ظلت مؤطرة بإطار المواطنة والمشاركة السياسية وتقديم الشهداء والتضحيات في محطات واسعة من تاريخ الكويت.
واتضح من خلال الدراسة صدق المقدمات التي انطلقت منها وهي أن الطائفية في حالة الكويت كانت لها عواملها ومبرراتها الداخلية، ساهمت فيها الحكومة وبعض التيارات الدينية والسياسية، إضافة إلى تأثير البعد الخارجي المستجد في حالة الدراسة في أحداث تاريخية ومواقف سياسية كالثورة الايرانية والحرب العراقية الايرانية وسقوط نظام البعث في العراق وتداعيات أحداث الثورات العربية منذ 2010، وتبين أن الشيعة في تاريخ الكويت قد جسدوا المفهوم الحقيقي والمواطنة المنطلق من مقاربة المشاركة السياسية لا العواطف والمواقف المسبقة، فشاركوا بصورة فاعلة في الانتخابات البرلمانية والبلدية وتنسيقهم في كثير من المواقف مع التيارات السياسية ودورهم في المعارضة السياسية أو الموالاة للحكومة، ناهيك عن دورهم في مؤسسات المجتمع المدني.
إن ما يصدق على الشيعة ينطبق في كثير من الأحيان على أغلب التيارات الدينية والسياسية التي تراوحت مواقفها بين الموالاة للحكومة والمعارضة، إلا أن ذلك لم يخرجها من إطار المواطنة والولاء، وأن مستقبل الحالة السياسية الشيعية سيكون مرهوناً ببعدي تعزيز المواطنة والانتماء الذي تقوم به مؤسسات الدولة الرسمية وغير الرسمية، إضافة إلى العامل الخارجي، وهو ما ستفرزه أحداث الإقليم في العراق وسوريا واليمن وتفاهمات الدول الإقليمية المهمة في المنطقة.
وتتضح حقيقة أخرى، وهي أن حالة الاستقرار والانسجام الداخلي بعيداً عن محيط الأجواء الطائفية تشكل فرصة مهمة لمزيد من التنسيق بين المكونات الشيعية والسنية حول قضايا ومصالح عامة نستهدف تنمية ونهضة المجتمع والمواطنين، في حين أن أجواء الطائفية تعرقل مسارات الإصلاح والتغيير. لا بد من الإشارة إلى نقطة مفصلية تفرضها الطبيعة العلمية والموضوعية وهي عدم جواز التعميم على عموم الطائفة الشيعية أو غيرها من مكونات المجتمع الكويتي في حال ارتكاب فرد أو مجموعة أفراد أو أقلية ضمن هذا المكون الرحب والواسع أية مخالفة وجريمة تضر بمصلحة الوطن العليا.
—————————————————————————————————————-
المراجع والمصادر
المراجع العربية:
أسيري، عبدالرضا (2017). النظام السياسي في الكويت: مبادئ وممارسات (ط. 13). الكويت: دار القبس.
الأفندي، عبدالوهاب (2003). إعادة النظر في المفهوم التقليدي للجماعة السياسية في الإسلام: مسلم أم مواطن؟ في الإسلاميون والمسألة السياسية (ص ص. 173-194). بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
الجاسم، محمد (1992). الكويت: مثلث الديمقراطية. القاهرة: مطابع الشروق.
جمال، عبدالمحسن (2005). لمحات من تاريخ الشيعة في الكويت: من نشأة الكويت إلى الاستقلال. الكويت: دار النبأ للنشر والتوزيع.
الحبيب، محمد (2015). الشيعة في معركة الجهراء: قراءة وثائقية جديدة. الكويت: منشورات ذات السلاسل.
الحربي، دبّي (2007). الدوائر الانتخابية الخمس: قراءة في التركيبة الاجتماعية والسياسية (قانون رقم 42/2006 بشأن انتخابات مجلس الأمة). الكويت: شركة السياسي للنشر والتوزيع.
حيدر، خليل (2013). الحركات الإسلامية في الكويت. في عبدالغنى عماد (محرر)، الحركات الإسلامية في الوطن العربي (مجلد 2، ص ص. 2218-2273). بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
الخالدي، سامي (1999). الأحزاب السياسية في الكويت: الشيعة، الإخوان، السلف. الكويت: دار النبأ للنشر والتوزيع.
الديين، أحمد (1994). المسار الديمقراطي في الكويت: دعوة إلى التجديد. الكويت: دار قرطاس للنشر.
رضا، محمد (1992). صراع الدولة والقبيلة في الخليج العربي: أزمات التنمية وتنمية الأزمات. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
الزميع، علي (2018). الحركات الإسلامية السنية والشيعية في الكويت ]جماعة الإخوان المسلمين- جماعة التبليغ- الحركة السلفية- حزب الدعوة الإسلامية- منظمة العمل الإسلامي[: تطورها الفكري والتاريخي، مسارات التأسيس (الجزء الأول): 1950-1981 (بدر ناصر المطيري، مترجم). الكويت: دار نهوض للدراسات والنشر.
الزيدي، مفيد (2016، مايو). التجربة الديمقراطية في الكويت: بين التعثر والاستمرار. المستقبل العربي، (447)، 62-73.
سعادة، يوسف (1992). الكويت: قرنان من الاستقلال. القاهرة: الدار الشرقية.
السعيدي، صالح (2010). السلطة والتيارات السياسية في الكويت: جدلية التعاون والصراع. الكويت: دار القبس.
سليمان، محمد (2013، 4-6 مارس). مسؤولية الدولة في تعزيز قيم المواطنة. قدّم إلى مؤتمر المواطنة في المجتمع الكويت تشخيص للواقع ورؤية للمستقبل، قسم المناهج وطرق التدريس بكلية التربية، جامعة الكويت، الكويت.
السيد، رضوان (2015، 10 يوليو). المواطنة والدولة والمستقبل (محاضرة أُلقيت ضمن الدروس الهاشمية بالمركز الثقافي الإسلامي بالعاصمة الأردنية، عمّان) اُسترجعت في 30 نوفمبر، 2017 من الموقع الرسمي للدكتور رضوان السيد (http://www.ridwanalsayyid.com/ContentPage.aspx?id=2703#.Wbh7ebIjG70).
الشايجي، عبدالله (2009، يوليو/ديسمبر). انتخابات مجلس الأمة الثالث عشر: تحديات ومستقبل نموذج الديمقراطية الكويتية. مجلة البحوث المالية والتجارية، (الجزء 2)، (2)، 127-194.
الشهابي، عمر، الدوسري، محمد، والمحمود، محمود (2017). الخليج بعد خمس سنوات من الانتفاضات العربية (مركز الخليج لسياسات التنمية: الخليج بين الثابت والمتحول، الإصدار رقم 4). الكويت: آفاق للنشر.
الصالح، عبدالهادي (2018). كنت وزيراً : من 10 يوليو 2006 حتى 4 مارس 2007. الكويت: د. ن.
الطبطبائي، عادل (1985). النظام الدستوري في الكويت: دراسة مقارنة. الكويت: مؤسسة دار العلوم للطباعة والنشر والتوزيع.
الطريحي، محمد (2017). الشيعة في الكويت (المجلد الأول). هولندا: أكاديمية الكوفة.
العمر، عبدالله (1994). إرهاصات الديمقراطية في الكويت. الكويت: دار قرطاس للنشر والتوزيع.
الغبرا، شفيق (2011). الكويت: دراسة في آليات الدولة والسلطة والمجتمع. الكويت: مكتبة آفاق.
القناعي، يوسف (1998). صفحات من تاريخ الكويت. الكويت: مطبعة حكومة الكويت.
المباركي، يوسف (2008). حين استعاد الشعب الكويتي دستوره: وقائع ووثائق دواوين الاثنين 1986-1991 (ط. 1). د. ن.
محمد، سهام (2013، 4-6 مارس). المواطنة في المجتمع الكويتي: تشخيص للواقع ورؤية للمستقبل. قدّم إلى مؤتمر المواطنة في المجتمع الكويت تشخيص للواقع ورؤية للمستقبل، قسم المناهج وطرق التدريس بكلية التربية، جامعة الكويت، الكويت.
محمود، سالم (2011، يناير). المواطنة في المجتمع الكويتي بين إشكاليات مفاهيمية وتحديات مجتمعية. سلسلة دراسات في الفكر الاجتماعي (مركز الدراسات الاستراتيجية والمستقبلية، جامعة الكويت)، 5.
المديرس، فلاح (1994). ملامح أولية حول نشأة التجمعات والتنظيمات السياسية في الكويت 1938-1975. الكويت: دار قرطاس للنشر والتوزيع.
المديرس، فلاح (1999). الحركة الشيعية في الكويت. الكويت: دار قرطاس للنشر والتوزيع.
المزيني، أحمد (1994). أنساب الأسر والقبائل في الكويت. الكويت: دار السلاسل.
النفيسي، عبدالله (1978). الكويت: الرأي الآخر. لندن: د. ن.
النقيب، خلدون (1999). صراع القبلية والديمقراطية: حالة الكويت. بيروت: دار الساقي.
الهاجري، عبدالله (2017). تاريخ الكويت: الإمارة والدولة. الكويت: جامعة الكويت.
الوقيان، فارس (2009، يونيو). المواطنة في الكويت: مكوناتها السياسية والقانونية وتحدياتها الراهنة. سلسلة دراسات في الفكر الاجتماعي (مركز الدراسات الاستراتيجية والمستقبلية، جامعة الكويت)، 1.
الوقيان، نجيب، والشمري، صباح (1996). أشهر الجرائم السياسية في الكويت (ط. 1). الكويت: د. ن.
المراجع الأجنبية:
Abu-Hakima, A. (1983). The Modern History of Kuwait: 1750-1965. London: Luzac & Company Limited.
Al-Habib, M. (2016). The Formation of the Shi’a Communities in Kuwait: Migration, Settlement and Contribution Between 1880-1938. PhD Thesis, UK: University of London.
Cordesman, A. (1997). Kuwait: Recovery and Security After the Gulf War. Boulder, CO: Westview Press.
Fuller, G. & Francke, R. (1999). The Arab Shi’a: The Forgotten Muslims. Princeton: Princeton University Press.
Hatem, R & Gildea, D. (2011, May). Kuwait Shia: Government Policies, Societal Cleavages and the Non-Factor of Iran. Washington, DC: The Institute For Middle East Studies The Elliott School of International Affairs, The George Washington University.
Ismael, J. (1993). Kuwait Dependency and Class in a Rentier State. Florida: University Press of Florida.
Louër, L. (2008). Transnational Shia Politics: Religious and Political Networks in the Gulf. New York: St. Martin Press.
Nakash, Y. (2006). The Shi’a in the Modern Arab World: Reaching for Power. New Jersey: Princeton University Press.