لتحميل صفحات البحث، إضغط هُنا

مقبول للنشر حوليات الآداب والعلوم الاجتماعية السنة 00، العدد 000، سبتمبر 2019 (ص. 00-00)

الباحثون:

عبدالله يوسف سهر محمد – قسم العلوم السياسية، جامعة الكويت

حسن عبدالله جوهر – قسم العلوم السياسية، جامعة الكويت

ملخص البحث

هدفت الدراسة إلى إجراء مقارنة تحليلية لتجربتي الإبادة الجماعية للمجتمعات الأصلية الأمريكية التي سميت بالهنود الحمر والشعب العربي في فلسطين من حيث التشابه السياسي عبر الزمني والمكاني بين الحالتين، وتركزت الدراسة على التفسير اللاهوتي المشترك بين الديانة المسيحية واليهودية للمنطلقات الفكرية لعقيدة “أرض الميعاد” وفلسفتها الدينية المقدسة كمبرر تاريخي للتوسع والاستحواذ وبسط الهيمنة الكاملة عبر الأدوات والمناهج القسرية الناعمة والخشنة، بما في ذلك التصفية الجسدية والتهجير القسري والسيطرة على الأراضي والتغيير الديمغرافي المنظم، من أجل إلغاء موروثات وحقوق الوجود الحضاري للمكون المجتمعي القائم، وخلصت الدراسة إلى مجموعة من القواسم المشتركة بين حالتي إبادة السكان الأصليين من الهنود الحمر والشعب الفلسطيني في الجانب النظري والثقافي من جهة ومحاولات إضفاء شرعية الاحتلال والقتل المنظم على نطاق واسع والترحيل القسري عبر مجموعة كبيرة من التشريعات القانونية والأحكام القضائية المغلفة بغطاء الديمقراطية وحقوق الإنسان واستقلالية المحاكم رغم البعد الزمني والجغرافي بين التجربتين، وختمت الدراسة باستخلاص تفسير علمي استنباطي من واقع استقراء الأحداث المتشابهة في كلا الحالتين وعلاقتهما بالتشابك الاستراتيجي فوق القومي في إطار نظرية القوة التي تعرضها المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية.

——————————————-

المصطلحات الأساسية: الإبادة الجماعية، الهنود الحمر، القضية الفلسطينية، الأنثروبولوجيا السياسية، نظرية القوة في العلاقات الدولية.

Palestinians and Native Americans: A Cross Temporal and Spatial Study of International Genocide

Abstract

Abdullah Y. S. Mohammad

Department of Political Science, Kuwait University

Hasan A. A. Johar

Department of Political Science, Kuwait University

The purpose of this study is to conduct an analytical comparison between the genocide experience against Native American Communities and Arab people of Palestine in terms of Political Analogy, namely the political similarity across spatial and time in the two cases. The study focused on the common Judeo-Christian theological interpretation of “Promised Land” as an intellectual, religious and historical thrust for complete hegemonic expansion and acquisitions. The philosophy of full domination has justified various soft as well as coarse coercive tools and approaches, including physical liquidation, forced displacement, controlling territory and enforcing demographic change. More importantly, genocide implementations have aimed at the abolition of the heritage and cultural legacies of the indigenous existing component. The study found out a set of commonalities between the cases of genocide of the Native Americans and the Palestinian people in the theoretical and cultural perspective. In addition, despite the temporal and geographical gaps between the two experiments, both sides were exposed to similar attempts to legitimize their occupation, systematic murder and forced deportation through a wide range of institutional legislation and jurisprudence coated with democracy, human rights and the independence of the judiciary. The study concluded by extracting a deductive scientific explanation from the extrapolation of similar events in both cases in accordance with the super-national strategic entanglement within the framework of the power theory as presented by the realist school in international relations.

——————————————-

Key Words: Genocide, Native Americans, Palestinian Crisis, Political Anthropology, Power Theory in International Relations.

الفلسطينيون والهنود الحمر:

دراسة عبر زمنية ومكانية لممارسة الإبادة الجماعية الدولية

المقدمة

بعيداً عن الخوض في جدلية عودة التاريخ، يبقى هذا السجل البشري من تراكم الأحداث مفتاحاً للمستقبل، نستقرأ وقائعه ونتحرى سننه وقوانينه التي تحكمها متغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية يعكف على تكرار صناعتها الإنسان الذي يتوارث سلطة تعاقب الأحداث، وقد يكون من المستغرب الحديث حول المقاربة التاريخية بين الفلسطينيين العرب وشعب الهنود الحمر، لكن الحقيقة تكون مثالاً لذلك عندما نطوف بقصة فريقين مختلفين عرقياً وحضارياً وبعيدين زمانياً ومكانياً، لكنهما واجها قوتين أخريين متشابهتان أيديولوجياً وسياسياً، بل وفي نفس سنان المواجهة.

من أهم أسباب هذه الدراسة النقص الشديد في الأدبيات السياسية والدراسات الأكاديمية العربية التي تتناول الاستهداف السياسي الذي عانى منه الهنود الحمر في الولايات المتحدة الأمريكية، آملين أن تساهم في إضافة علمية جديدة قد تفيد في استقراء الواقع واستشراف المستقبل في الشرق الأوسط على ضوء المقاربة المستهدفة بين الهنود الحمر والفلسطينيين، كما تمثل مثل هذه الدراسات أحد متطلبات ومساعي البحث العلمي العربي في معرفة المزيد عن شعوب العالم، وعلى وجه التحديد التراث السياسي للولايات المتحدة الأمريكية، التي نتقاسم معها الكثير من القضايا السياسية والأيديولوجية سلباً وإيجاباً.

وقد استلزم هذا البحث القراءة المكثفة عن تاريخ الهنود الحمر وأصولهم وتراثهم وتصنيفات قبائلهم وعلاقتهم مع الرجل البيض منذ أن وطأت قدماه العالم الجديد عام 1492، حيث استغرقت رحلة القراءة في هذه الأدبيات أكثر من ثلاثة سنين ولا تزال، تخللتها سلسلة من الزيارات الميدانية لبعض متاحف الهنود الحمر في واشنطن العاصمة وغيرها من الولايات الأمريكية، للوقوف عن قرب في تلمس تاريخ هؤلاء البؤساء الذين طوت حكاياتهم الكثير من صحف الرجل الأبيض ورواياته “الهوليوودية”، حيث أن المعلومات العامة عن الهنود الحمر قد لا تخرج في غالبها عن نطاق ما تعرضه أفلام الهوليوود التي تجاوز عددها عن 2000 فيلم انتجتها مصانع السينما الأمريكية، وعززت صورة نمطية مغلوطة عن هذا الشعب وحضارته الإنسانية المتعددة التي أبيدت (Churchill & Wall, 1997, p. 3).

لذلك سوف تبدأ الدراسة بقراءة موجزة لتاريخ هذا الشعب المأساوي لاستكشاف ومحاكاة بعض الحقائق التي يمكن مقاربتها مع واقع التعامل الحالي للفلسطينيين من الجانب الإسرائيلي، كما ستمتد إلى عقد التحليل السياسي للحالتين بهدف فهم حاضر ومستقبل الحركة التاريخية لعقلية الإبادة الجماعية والعنصرية المستمرة زمانياً والعابرة مكانياً، والتي تلعب دوراً رئيسياً في العلاقات السياسية بين الأمم كتعبير عن مكنون صراع الحضارات كمفهوم يتناوله البعض كحدث جديد يمثل نزاع حالة الشر المتخلفة في الشرق ضد حالة الخير المتقدة عند الغرب، لكنه في واقع الحال يمثل حقيقة تاريخية يحاول الطرف القوي أن يكتبها بطريقة مختلفة عما هي عليه في جوهرها.

وعليه، تؤكد الدراسة على أن صراع الحضارات كظاهرة وممارسة قد ابتدأت بشكل منظم منذ سقوط الأندلس عام 1492 عندما تبنّت السلطات المسيحية السياسية عقيدة الدم النقي (Limpieza de Sangre) فمهّدت الطريق للحقبة الاستعمارية والإمبريالية العنصرية، حيث أرغم اليهود والمسلمين على اعتناق المسيحية وإلا تعرضوا للتهجير القسري، وهو الأمر الذي تزامن مع تجمّع موكب كريستوفر كولومبس (Christopher Columbus) في أحد مرافئ إسبانيا استعداداً للرحيل نحو الأراضي الجديدة إيذاناً بتدشين أضخم غزوة في التاريخ، وما أعقب ذلك من أكبر إبادة عرقية شهدتها البشرية (Dunbar-Ortiz, 2004, p. 34)، فلم يكن الفعل في الأراضي الجديدة منفكاً عن ولادة العقيدة الجديدة في أوربا التي حملت الإمبريالية العنصرية شرقاً باتجاه الهنود السمر في آسيا كما هو الحال غرباً نحو مواطن الهنود الحمر في العالم الجديد.

وكما يقول جون موهاك (John Mohawk)، في مداخلته “البحث عن كولومبس” (Looking for Columbus)، أن أوربا ليست قارة بمعنى الكلمة، بل إنها امتداد لآسيا ولصيقة بها، ولكن ما يميز أوربا أن أغلب شعوبها لهم دين واحد هو المسيحية، ففي أوربا الغربية تجد المسيحية اللاتينية، بينما تجد المسيحية الأرثوذكسية في أوربا الشرقية، ولذلك ميزوا المواطنين الأصليين في القارة الجديدة على إنهم هنود حمر (Mohawk, 1992, p. 439)، وعندما اكتشف الأوربيين العالم الجديد عام 1492 كانوا لا يزالون يخضعون لسلطة الحكم الديني المتعصب الذي تديره الكنيسة مشاركة مع الملك باسم الرب الذي يحتم مقولة التفوق للشعب المختار، فاستغلت تلك العقيدة مبرراً لاجتثاث كافة الحقوق لدى الآخرين، بما في ذلك سلب أراضيهم وقتلهم وتشريدهم، إيماناً بعدم ترك جنات عدن التي أطلقت على الأرض الجديدة بيد أناس “بهيميين” (Brutish).

وقد تم تقسيم الدراسة إلى أربعة أجزاء رئيسية، يستعرض القسم الأول منها الإطار العام للدراسة ويشتمل ذلك على أهداف الدراسة والمنهجية العلمية، إضافة إلى الأسئلة البحثية وفرضياتها وبيان أبرز الدراسات السابقة حول الموضوع محل البحث، وفي القسم الثاني سيتم التعرض للمحات ومحطات تاريخية مهمة للهنود الحمر منذ احتكاكهم بالرجل الأبيض القادم من أوربا، حيث ارتسمت مؤشرات حتمية الصراع عبر محطات زمنية انتهت بإخضاع الهنود الحمر للنظام القسري واستلاب تاريخهم بكل ما يحمل من إرث مادي ومعنوي، كما سيتم التركيز على الأدوات والمناهج القسرية الناعمة والخشنة التي أدت في نهاية المطاف لإحكام الهيمنة الكاملة للرجل الأبيض على جميع موروثات وحقوق شعوب تلك المجتمعات الأصلية.

ويركز القسم الثالث على أهم المنعطفات التاريخية في مسيرة الصراع الفلسطيني- الصهيوني، واستطلاع أدوات وممارسات بسط الهيمنة والتوسع والاستحواذ فيها من جانب القوة الصهيونية الغازية، وأخيراً سيخصص القسم الرابع لمقارنة تحليلية مفصلة بين نسقي هاتين التجربتين من حيث التشابه السياسي (Political Analogy) عبر الزمني والمكاني، وما يمكن استخلاصه على ضوء ذلك من تفسير علمي استنباطي من واقع استقراء الأحداث المتشابهة بين حالتي الدراسة، وعلاقتهما بالتشابك الاستراتيجي فوق القومي في إطار نظرية القوة التي تعرضها المدرسة الواقعية في حقل العلاقات الدولية.

تكمن أهمية هذه الدراسة بالإضافة إلى حداثتها الموضوعية في المزيد من التعمّق في حقل العلاقات الدولية كمنهجية علمية في تفسير البناء السياسي لأنظمة مختلفة، ولكنها متجانسة استراتيجياً من ناحية ارتباطها في التكوين الأنثروبولوجي السياسي من حيث الزمان والمكان كما هو الحال في التجربتين قيد الدراسة، ويمكن القول في هذا الصدد بأن هذه الأنثروبولوجيا السياسية قد استمدت جذورها الفلسفية وإلى حد كبير في أوربا عبر تراكم فكري يمتد إلى قرون طويلة من الزمن، انبثقت في ظلها حالة الشعور بالتفوق الجيني للجنس الأبيض في مقابل أجناس بشرية تستحق أن تباد نهائياً، وفق ما أسسته الفلسفتين الإغريقية واليونانية ثم انتقلت إلى الإمبراطورية الرومانية (سيراكوسا، 2015، ص. 104)، مروراً بعهد الاستعمار الأوربي وانتهاءً بالنظرية النازية في ألمانيا قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية، حيث استدل يشير مارتن شو (Martin Shaw) بأن مصطلح الإبادة الجماعية (Genocide) قد اشتق من مركّب كلمتي (Genos) اليونانية التي ترمز إلى العرق أو القبيلة وكلمة (Cide) بمعنى القتل باللغة اللاتينية (شو، 2017، ص. 43).

وبالإضافة إلى فكرة السخرة التي تقضي باستعباد الأعراق الوضيعة لخدمة الرجل الأبيض مع حرمانهم من كافة الحقوق المدنية والإدارية والاجتماعية، شرعنت الأنثروبولوجيا الأوربية حق القيام بالأعمال المختلفة الهادفة إلى تدمير أسس الحياة الجوهرية لقوميات مستهدفة على أساس العرق بغرض إهلاكها بالكامل، بما في ذلك انتهاج أساليب القتل الجماعي المنظم بأوامر من السلطة السياسية القائمة (شو، 2017، ص. 35)، الأمر الذي كان له الأثر المهم في رسم ملامح العلاقات الخارجية في القارة الأوربية عبر الحروب التوسعية، وكانت المظلة الدينية منذ سلطة الكنيسة الرومانية تضفي الشرعية المقدسة على هذه الممارسات حتى تحولت هذه الفلسفة إلى سياسة أممية تم تصديرها للخارج.

وبلغت فلسفة الإبادة الجماعية وتطبيقاتها العملية في أوربا أوجها إثر صعود النظرية النازية وأيديولوجيتها القائمة على العنصرية والتشدد ضد القوميات الوضيعة في منظورها الجيني، وآمنت بقمع وإبادة الأجناس البشرية الأخرى بذريعة الحفاظ على طهر ونقاء الأعراق العليا وفي مقدمتها العرق الآري، حيث تأسس البناء الفلسفي لهذه النظرية على أفكار الطبيب الألماني الفريد بلوتيز (Alfred Ploetz ) مع مطلع القرن العشرين، والداعية إلى أيديولوجية الدولة القائمة على أساس عرقي نواته الجنس الآري في كتابه الشهير “جدارة عرقنا وحماية الضعفاء” (سيراكوسا، 2015، ص. 104)، بينما نسج خطوطها التفصيلية وسبل نهضتها من بين ركام هزيمة الحرب العالمية الأولى الفريد روزنبرغ (Alfred Ernst Rosenberg) بالتعاون مع أدولف هتلر في كتاب “أسطورة القرن العشرين” (إبراهيم، 2008، ص. 29).

وجاءت حصيلة تطبيق هذا القمع العنصري في ظل الدولة النازية (1933-1945) فكرة المحارق الجماعية واحتلال المناطق التي تسكنها القوميات المنبوذة وتحويلها إلى مستعمرات ألمانيا واستبعاد من تبقى شعوبها لدعم الاقتصاد الألماني، التي حصدت أرواح قرابة (6) مليون إنسان من اليهود وما يتراوح بين (9-20) مليون شخص من القوميات الروسية والبولندية والغجرية وحتى المقعدين والعاجزين والمثليين، ومن ثم الانطلاق نحو التمدد عبر القارة الأوربية واستباحة كامل أراضيها (شكري، 2017، ص. 188-195).

كما تبلورت في تلك الأثناء ذات الفكرة العنصرية الجينية لدى الرجل الأبيض الانجليزي والسعي إلى تصديرها للخارج عبر القارة الأفريقية السوداء، التي عانت تجربة تطبيق فلسفة الأبرتايد القائم على أساس نظام الفصل العنصري والهيمنة المطلقة للجنس الأوربي، فتم بموجبها تقسيم الناس وفق مجموعات عرقية وتمييزهم بالخدمات الأساسية المتواضعة وحرمانهم من الحقوق السياسية، مع تسخيرهم الكامل لسلطان السيد الأبيض حتى سقوط هذا الحكم عام 1990 (Campbell, 2016, p. 54-60).

بناءً على ما سبق، لا يمكن الفصل بين التجربتين الفلسطينية والهنود الحمر قيد الدراسة والأنثروبولوجيا السياسية الغربية من حيث الدوافع المشتركة المبنية على قواعد التفوق الجيني وعقيدة التفوق العنصري والنظرة الدونية إلى الشعوب الأخرى من جهة والشرعية السياسية والقانونية لتمكين متطلباتها على أرض الواقع من جهة أخرى، مع فارق وحيد يتمثل في نجاح التصدي لهذا الفكر العنصري في أوربا وإن كلف ذلك حروباً دموية شرسة آخرها الحرب العالمية الثانية، في مقابل الصمت الدولي أو رعاية بعض القوى الرئيسية في النظام العالمي لطمس معالم تجربة الهنود الحمر في الولايات المتحدة إلى الأبد واستمرار التجربة الفلسطينية بكل معاناتها وآثارها الكارثية بسبب المصالح السياسية ومقتضيات التوازن الدولي الراهن.

أولاً: الإطار العام للدراسة

(1) أهداف الدراسة:

تهدف الدراسة إلى مقارنة تحليلية لما تعرض له الشعب الفلسطيني وعبر مسيرة طويلة من التصفية المنهجية والاضطهاد والملاحقة ومصادرة الأراضي والاحتلال وممارسات التهجير القسري على ضوء معاناة قبائل الهنود الحمر إبان تجربة الإبادة الجماعية في الولايات المتحدة. وتركزت الدراسة على التفسير اللاهوتي المشترك بين الديانة المسيحية واليهودية للمنطلقات الفكرية لعقيدة “أرض الميعاد” وفلسفتها الدينية المقدسة كمبرر تاريخي من أجل إلغاء موروثات وحقوق الوجود الحضاري لهذين المكونين المجتمعيين عبر الأدوات والمناهج القسرية المرنة والصلبة للتوسع والاستحواذ وبسط الهيمنة الكاملة، وما قد يفضي إليه ذلك من نتائج على صعيد القضية الفلسطينية ومصير الشعب الفلسطيني.

بالإضافة إلى ما سبق سيتم إجراء التحليل السياسي للحالتين بهدف فهم واقع ومستقبل الحركة التاريخية لعقلية الإبادة الجماعية والعنصرية المستمدة زمانياً والعابرة مكانياً، والتي تلعب دوراً رئيسياً في العلاقات الدولية المعاصرة وسبل مواجهتها من أجل تحقيق السلام والاستقرار الإقليمي والعالمي.

(2) المنهجية العلمية:

تعتمد الدراسة على منهج التحليل التاريخي المقارن، من أجل محاكاة المقاربات السياسية واستقرائها أنثروبولوجياً عبر ما يعرف بالأنثروبولوجيا السياسية (Political Anthropology) المعنية بدراسة الأنماط السياسية وتطورها تاريخياً من خلال تعرضها لمجموعة من العوامل المتشابهة والمتباينة التي تفسر التناقض أو التوافق البنيوي في المخرج العام للمجتمع السياسي الحديث، حيث يصف جورج بالانديه (Georges Balandier) في هذا السياق حقل الانثروبولوجيا السياسية بأنه أداة معرفة ودراسة شتى المؤسسات والممارسات التي تحقق حكم الناس فضلاً عن كونه وسيلة اكتشاف لنظم التفكير والرموز التي تستند إليها (بالانديه، 2007، ص، 17).

وتسعى الدراسة عبر توظيف هذا المنهج التاريخي-السياسي-الانثروبولوجي إلى تفسير ظاهرة انتقال الأفكار النمطية المجتمعة في صناعة تركيب سياسي متشابه على شكل دول متجاوزة لعنصري الزمان والمكان، كما هو الحال في تجربتي الهنود الحمر في الولايات المتحدة الأمريكية والفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي، إذ يعتبر بالانديه مفهوم الفيلسوف الفرنسي تشارلز مونتسكيو (Charles de Montesquieu) بشأن “الاستبداد الشرقي” في كتابه روح القوانين على أنه أحد أصول الانثروبولوجيا السياسية، ونظر هذا الأخير من خلالها إلى عنصري عدم المساواة وعلاقات الإنتاج على إنهما محركا التاريخ الذي يشهد بدوره صراعاً محتمداً بين قوة الأشياء وقوة التشريع، فقد سمح ذلك منهجياً وعلمياً بأن نعتبر دراسة تركيب الدولتين الأمريكية والإسرائيلية مرتبطتان عضوياً في تلك الجدلية التي لخصها مونتسكيو بعنصري عدم المساواة وعلاقات الإنتاج من جهة والصراع بين قوة الأشياء وقوة التشريع من جهة أخرى.

(3) الأسئلة البحثية:

يهدف البحث إلى الإجابة عن الأسئلة الرئيسية التالية:

  1. ما هي أوجه الشبه بين الشعب الفلسطيني ومجتمعات الهنود الحمر في تجربة الإبادة الجماعية التي شهدها كل منهما بفعل قوة خارجية؟
  2. هل يمكن تفسير انتقال الأفكار النمطية المجتمعة في العقيدة الدينية المدفوعة سياسياً لممارسة قوى مختلفة في بعدي الزمان والمكان لسياسة الإبادة الجماعية كما هو الحال في تجربتي الهنود الحمر في الولايات المتحدة الأمريكية والفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي؟
  3. هل يمكن استقراء الأحداث المتشابهة في تجربتي الهنود الحمر والشعب الفلسطيني وعلاقتهما بالتشابك الاستراتيجي فوق القومي في إطار نظرية القوة التي تعرضها المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية؟
  4. هل يساهم التفسير العلمي الاستنباطي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي وفق مستوى التحليل الثقافي لعقيدة الهيمنة والتوسع والاستحواذ في مقاومة الشعب الفلسطيني لمحاولات الإبادة الجماعية؟

(4) فرضيات الدراسة:

ينطلق البحث من فرضية أساسية مفادها أن الموروث الحضاري للشعب يمثل صمام الأمان في تخطي محاولات الإبادة الجماعية مهما بلغت قوتها ووسائل تنفيذها. كما يتفرع من هذه الفرضية الرئيسية مجموعة من الفروض الثانوية التي تشكل أساساً محورياً لفهم دوافع الهيمنة وتطبيقاتها العملية، وفي مقدمتها سياسة الإبادة الجماعية، وهي كالآتي:

  1. الدوافع الدينية وتفسيراتها الأيديولوجية الأحادية المدفوعة سياسياً تلعب دوراً رئيسياً في بلورة ثقافة التوسع والهيمنة والاستحواذ.
  2. تتشابه التطبيقات العملية في الإبادة الجماعية من حيث التصفية الجسدية والتهجير القسري والسيطرة على الأرض والعمل على إلغاء الوجود الحضاري للمكون المجتمعي المستهدف تبعاً للتفسير اللاهوتي المشترك لمفهوم “أرض الميعاد” بين الديانة المسيحية واليهودية.
  3. نجح الموروث الحضاري العميق وامتداده المكاني في إنقاذ الشعب الفلسطيني من الإبادة الجماعية التي نالت من مجتمعات الهنود الحمر في الولايات المتحدة.

(5) الدراسات السابقة:

لم يتم تناول موضوع المقاربة بين الشعبين الفلسطيني وقبائل الهنود الحمر في الأدبيات الأكاديمية العربية بشكل مكثف أو عميق، بيد أن الأمانة العلمية تفرض الإشارة إلى بعض المحاولات البعض التي اقتصرت على ضرب الأمثلة والتشبيه العابر، ومن أبرز هذه الدراسات كتاب ميخائيل سليمان (1987) المترجم إلى العربية بعنوان “صورة العرب في عقول الأمريكيين”، وما أورده فؤاد شعبان (1991) (Fuad Sha’aban) في كتابه الصادر باللغة الإنجليزية والمعنون “الإسلام والعرب في الفكر الأمريكي المبكر” (Islam and the Arab in Early American Thought).

وازداد اهتمام بعض المثقفين العرب بهذا الموضوع مع بدايات الألفية الجديدة، حيث صدرت دراسة مهمة في كتاب نبيل خليل (2006) الذي حمل عنوان “أمريكا بين الهنود والعرب”، كما أثرى منير العكش خلال العقدين الماضيين المكتبة العربية بسلسلة من المؤلفات المتنوعة في هذا المجال، منها “أمريكا والإبادات الجماعية: حق التضحية بالآخر” (2002)، “أمريكا والإبادات الثقافية: لعنة كنعان الإنجليزية” (2009)، “أمريكا والإبادات الجنسية” (2012)، “دولة فلسطينية للهنود الحمر” (2015).

وعلى الرغم من أهمية الدراستين الأخيرتين، إلا أنهما لم يخوضا بالتفصيل أو العمق المطلوب لنصب أسس المقارنة التحليلية عبر الزمنية والمكانية بين الهنود الحمر والفلسطينيين كشعبين منفصلين جغرافياً ومتباعدين تاريخياً، بيد أنهما تعرضا لحدث سياسي متماثل (العكش، 2012؛ العكش، 2015)، في حين انصب اهتمام نبيل خليل على الممارسة السياسية للحكومة الأمريكية منذ عهد الاستقلال عن التاج البريطاني إلى الوقت الراهن، مروراً بالحروب التوسعية التي خاضتها الولايات المتحدة، حيث جاءت مناقشته المقتضبة لقضية الهنود الحمر في الفصل الثاني من الكتاب مقتصرة على وحشية الرجل الأوربي منذ بداية وصوله إلى العالم الجديد، والقضاء على حضارة الإنكا (Inca) وسلب ما لدى شعوبها من ذهب، ومن ثم التوجه نحو ولاية فلوريدا حيث تم قتل المزيد من السكان الأصليين هناك، وكأنها تمهد الطريق لاستنتاجات تختلف عما تصبو إليه هذه الدراسة.

وفي الفصل التاسع والأخير، عاود خليل طرح موضوع الهنود الحمر والعرب بإسهاب في الوصف والتحليل المعاصر للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط على حساب المقارنة والبحث في المتشابهات بين الفعل الأمريكي قديماً وحديثاً، مع الإشارة العابرة لبعض صور النزعة التوسعية للولايات المتحدة (نبيل، 2006، ص 170-192).

من جهته، رفض منير العكش فكرة المقاربة بين الشعبين الفلسطيني والهندي الأحمر واقتصر تعمقه المسهب على شرح معاناة الهنود الحمر ومقاتلهم على يد الرجل البيض معتمداً على حصيلة جيدة من المراجع التاريخية ذات العلاقة، وتوقف العكش عند حدود هذا العرض الشيّق ليبرهن فداحة المجازر التي ارتكبتها الحكومات المتعاقبة للولايات المتحدة الأمريكية ضد هذا الشعب البائد.

وعلى الرغم من المعلومات الثمينة المقدمة في طيات انتاجه العلمي، إلا أن العكش قد اكتفى بالجانب الوصفي في أغلب الأحيان دون سبر أغوار الأسباب والنتائج وإحداثيات الصراع الذي تخللته توظيف الوسائل الدينية والقانونية والأكاديمية والأيديولوجية لحسم النزاع بين الجنس الأبيض والجنس الأحمر، التي قد تعكس عمق مستوى الصراع وما آل إليه من نتائج لا تزال حاضرة في قضية الصراع العربي الإسرائيلي، بل تمثل أحد أهم عناصر التحليل في هذه الدراسة لتكون كشفاً جديداً في الأدبيات ذات الصلة لمسيرة الإبادة الجماعية عبر التاريخ (العكش، 2002؛ العكش، 2015).

ثانياً: الهنود الحمر في مواجهة حتمية الصراع

(1) إحصاء المواطنين الأصليين ونماذج التصفية للهنود الحمر في الولايات المتحدة الأمريكية:

اختلفت المصادر حول عدد الهنود الحمر الذين توطنوا القارتين الأمريكيتين قبل وصول الرجل الأبيض إلى تلك الأراضي، إلا أن أشهر التقديرات الإحصائية بين المختصين ترجح أن يكون هذا العدد في حدود التسعين مليوناً في كلا القارتين، كما تراوح مجموع سكان الهنود الحمر في ما يعرف حالياً بالولايات المتحدة الأمريكية بين المليون ونصف تقريباً إلى 19 مليون نسمة، حيث تعود هذه الفوارق الرقمية إلى عدة أسباب منها عدم وجود إحصاء دقيق في القرن الخامس عشر وما تلاه.

كما أن تلك التقديرات السكانية كانت نخضع في بداياتها إلى انطباعات الباحثين الأوربيين الذين لربما كانوا متأثرين بالعامل السياسي الذي يدعو لتقليل العدد بغية تبرير الاستيلاء على الأراضي باعتبارها غير مأهولة بالسكان، أو لإنكار المجازر والترحيل القسري الذي تم في ذلك الزمن، لكن الدراسات الحديثة في معظمها قد أشارت إلى أن الرقم الأقرب للحقيقة يقدّر بـ 15 مليوناً من سكان الهنود الحمر ممن عاشوا على الأراضي التي تقع تحت سيادة الولايات المتحدة الأمريكية في القرن السادس عشر (Stiffarm & Lane, 1992, p. 23-31).

ويبين الجدول (1) التسلسل التاريخي لحركة التركيبة العرقية والأثنية ونسبتهم من إجمالي عدد السكان في الولايات المتحدة منذ عام 1610 وحتى 2010، كما يوضح الشكل (1) والشكل (2) منحنيات التراجع والانتعاش السكاني للمواطنين الأصليين من القبائل الهندية في مقابل النمو السكاني لغير المواطنين الأصليين وغالبيتهم من المهاجرين البيض في الولايات المتحدة في الفترة ما بين 1492 إلى 1980.

وبطبيعة الحال ونتيجة لعمليات الإبادة الجماعية التي ارتكبت في سياق الحروب أو عبر سياسات الترحيل والقتل التي شنها الرجل الأبيض، سواءً تحت مظلة القوى الاستعمارية الأوربية وخاصة بريطانيا، أو تحت غطاء الحكومة الأمريكية التي تأسست بعد الاستقلال، فقد تهاوت أعداد الهنود الحمر إلى حد الانقراض تقريباً، حيث وصلت إلى 237 ألف نسمة في عام 1900، إلا أن هذا العدد قد عاود الارتفاع التدريجي بدءً بالربع الأول من القرن العشرين حتى بلغ ما يقارب المليون وستمائة ألف نسمة وفقاً لبيانات مكتب الإحصاء الأمريكي لعام 1990 (Stiffarm & Lane, 1992, p. 37-38).

هذا الهبوط الحاد في عدد سكان الهنود الحمر خلال فترة زمنية قصيرة ينبئ عن أحد أبشع جرائم الإبادة عبر التاريخ، إن لم تكن الأكبر على الإطلاق، ومن الفصول المريرة في سجل أحداث هذه الجريمة الكبرى انقراض عدد من قبائل الهنود الحمر بالكامل، حيث كشف مكتب الإحصاء الأمريكي (U.S. Census Bureau) في عام 1890 أن قبائل مثل كارنكاوا (Karankawa)، أكوكيسا (Akokisa)، بيدوي (Bidui)، تيجاز (Tejas)، وكوهالتيكان (Coahuiltecan) قد اختفت من الوجود تماماً، كما أكد جهاز الإحصاء الرسمي أن الكثير من القبائل الهندية الأخرى قد تراجعت في أعدادها إلى حدود ضئيلة جداً، بل وصل بعضها إلى أرقام أحادية، ما بين عامي 1800 إلى 1890، مثل قبيلة تونكاوا (Tonkawa) التي تراجع عدد أفرادها من 1000 إلى 56 فرداً، وعشيرة كيجاي (Kichai) من 1000 إلى 66 فرداً، وجماعة ليبان أباتشي (Lipan Apache) من أكثر من 500 إلى 60 فرداً، وقبيلة ويشيتا (Wichita) من 3500 إلى 358 فرداً، وعشيرة كادو (Caddo) من 8500 في 500 فرداً، وقبيلة كامانجي (Comanche) من 7000 إلى 1598 فرداً (Stiffarm & Lane, 1992, p. 35).

الجدول (1) التركيبة العرقية والأثنية ونسبتهم من إجمالي عدد السكان في الولايات المتحدة (1610-2010)

السنواتالبيضالسودالهنود الحمر*عرقيات أخرى**الإجمالي
16103500  350
100.0%0.0%  
165048,7681,600  50,368
96.8%3.2%  
1700223,07127,817  250,888
88.9%11.1%  
1750934,340236,420  1,170,760
79.8%20.2%  
18004,306,4461,002,037  5,308,483
81.1%18.9%  
185019,553,0683,638,808 11694323,191,876
84.3%15.7% 0.5%
190066,809,1968,833,994237,19661737875,994,575
87.9%11.6%0.3%0.2%
1950134,942,02815,042,286343,4103601046150,697,361
89.5%10.0%0.2%2.3%
1990199,686,07029,986,0601,959,23439432568248,709,873
80.3%12.1%0.8%15.8%
2000211,460,62634,658,1902,475,95668132952281,421,906
75.1%12.3%0.9%24.2%
2010223,553,26538,929,3192,932,24893808300308,745,538
72.4%12.6%0.9%30.3%

 

* تشمل الأقليات من الأسكيمو والآلوت باعتبارهم من السكان الأصليين.

* تشمل العرقيات من جزيرة آسيا والمحيط الهادئ ومن الأصول الإسبانية أو المنحدرين من أكثر من عرقية.

– المصدر:

https://en.wikipedia.org/wiki/Historical_racial_and_ethnic_demographics_of_the_United_States#cite_note-census.gov-15.

الشكل (1) التراجع والانتعاش السكاني للمواطنين الأصليين في الولايات المتحدة

(1492-1980)

 

– المصدر:

Russell, Thornton. (1987). American Indian Holocaust and Survival: A Population History Since 1492. Norman, OK: University of Oklahoma press, p. 35.

الشكل (2) النمو السكاني لغير المواطنين الأصليين في الولايات المتحدة

(1492-1980)

 

– المصدر:

Russell, Thornton. (1987). American Indian Holocaust and Survival: A Population History Since 1492. Norman, OK: University of Oklahoma press, p. 36.

ولم تكن الحروب والقتل المنظم الرسمي أو حالات الاغتيال الفردية لصائدي الفروات والمتاجرين بأعضاء الهنود الحمر من الأسباب الوحيدة لهذه الإبادة، بل كانت هناك أسباب أخرى من أهمها القتل بواسطة الأمراض المعدية المعروفة اليوم “تلطفاً” بالحروب الكيميائية والبيولوجية، ومن أمثلة تلك الحروب غير التقليدية وقوع 41 حادثة وبائية لأمراض الجدري (Smallpox) خلال الفترة ما بين عامي 1520 إلى 1899، وستة حوادث وبائية لأمراض مختلفة منها حمى التيفوئيد (Typhoid) الخطير في الفترة من 1528 إلى 1833، بالإضافة إلى 17 واقعة وبائية لمرض الحصبة (Measles) خلال عامي 1531 إلى 1892، وأربعة كوارث وبائية للطاعون (Plague) ما بين 1545 إلى 1707، كما تعرضت مناطق السكان الأصليين إلى عشرة حوادث وبائية رئيسية للأنفلونزا (Influenza) في الفترة من 1559 إلى 1918، وأربعة مواسم وبائية لمرض التيفوئيد (Typhus) من عام 1586 إلى 1742، وخمسة حالات وبائية لمرض الخناق (Diphtheria) في الفترة من 1601 إلى 1890، وأربعة حوادث وبائية لمرض الحمى القرمزية (Scarlet Fever) ما بين 1637 إلى 1865، وثلاثة فترات وبائية كبيرة للكوليرا (Cholera) في الفترة من 1832 إلى 1867 (Stiffarm & Lane, 1992, p. 31-33).

وبالفعل فقد أبيد أكثر من 100 ألف نسمة من قبائل الهنود الحمر عبر نشر مثل هذه الأوبة بشكل متعمد كما تؤكد العديد من الوثائق التاريخية، خاصة من قبل قادة الجيوش، سواءً في زمن البريطانيين أو في عهد ما بعد استقلال الدولة الأمريكية.

كما تشير المصادر بشكل متواتر إلى مئات المذابح التي ارتكبت من خلال جماعات سكانية مهاجرة من أوربا أو بواسطة القوات العسكرية الاستعمارية ثم الأمريكية. ومن أمثلة تلك التصفيات مذبحة 1854 لشعب لاكوتا (Lakota)، ومجزرة بير ريفر (Bear River) عام 1863 التي راح ضحيتها حوالى 500 من قبيلة شاشوني (Shoshone)، ومذبحة ساند كريك (Sand Creek) ضد قبيلتي شايان وأرابهو (Cheyenne  Arapaho)، والتي قتل فيها حوالي 250 شخص عام 1864، بالإضافة إلى سلسلة من المذابح الأخرى بحق قبيلة شايان عام 1868 ثم في عام 1875 ومجدداً في عام 1878 حيث قتل 475 شخصاً، وأخيراً مجزرة وادي الركبة الجريحة (Wounded Knee) بحق قبيلة لاكوتا عام 1890 حيث تم تصفية حوالي 300 شخص (Stiffarm & Lane, 1992, p. 34).

وما هذه المذابح إلا أمثلة قليلة مما قام به الرجل الأبيض بحق مختلف قبائل الهنود الحمر، سواءً كان مستعمراً أو عندما أصبح مناهضاً للاستعمار ويبحث عن دولته الديمقراطية المستقلة، حيث تعددت الوجوه والقتل واحد، حيث قام بول فنكلمان وتيم غاريسون (2008) (Pul Finkelman & Tim Garrison) بتوثيق تفاصيل الكثير من الحروب والاتفاقيات والقوانين التي رسمت التاريخ الدامي للعلاقة بين الرجل الأبيض والقبائل الهندية بما في ذلك أسماء القادة في الجانبين ومواقع الأحداث في موسوعة سياسة الولايات المتحدة تجاه الهنود الحمر والقانون (Encyclopedia of United States Indian Policy and Law).

  1. التصفية عبر المسوغات الدينية والقانونية:

في القرن السادس عشر صرحت الإمبراطورية البريطانية، باسم الملك، إعطاء المستكشفين الحق بأن ينتزعوا الأراضي من الهنود الحمر بذريعة عدم قدرة هذا الجنس البشري على التطوير والتقدم، فاستغل المهاجرون الأوائل هذا التحريض السياسي بالتزامن مع بعض المسوغات الدينية اللاهوتية التي صورت القارة الجديدة بالأرض الموعودة للمسيح، تبريراً شرعياً للقتل والفتك الجماعي تحت حماية الحكومات الأوروبية، كما استندت حجج استيلاء الأوربيين على أراضي المواطنين الأصليين في الأميركتين، في بعدها القانوني، على ما يسمى بمذهب الاكتشاف (The Doctrine of Discovery) (Deloria, 1985, p. 85-86)، بالإضافة إلى ما أطلق عليه مذهب تيرا نوليوس (The Doctrine of Terra Nullius)، وهو تعبير لاتيني يعني “ليست أرض أحد”.

تشاطر هذين المذهبين نفس الجذور الدينية والسياسية بالتزامن مع البدايات الأولى لحقبة الاستعمار في منتصف القرن الخامس عشر، حيث ترجع عقيدة الاكتشاف إلى فتوى الكنيسة الكاثوليكية الرومانية الصادرة عام 1455 عندما أصدر البابا نيكولاس الخامس حكمه بمشروعية استحواذ أراضي الشعوب الأصلية وغير المسيحية من أجل الاستفادة منها وتعميرها، بينما يعود مذهب تيرا نوليوس في أصله للقانون الدولي الأوربي في القرن الثامن عشر لتبرير الحق في استعمار أراضي السكان الأصليين.

وقد استخدم مذهب الاكتشاف أولاً بواسطة الإسبان بعد اكتشاف كرستوفر كولمبس للعالم الجديد، الأمر الذي مهّد الطريق لبقية القوى الاستعمارية المنافسة لإسبانيا، كالبرتغاليين والإنجليز والفرنسيين، لتحريك أساطيلها البحرية أيضاً للتسابق على ما يمكن احتلاله من أراضي المواطنين الأصليين في الأميركتين، فأتفّق الفرقاء رغم المناسفة العدائية فيما بينهم على اعتبار السكان الأصليين “كفاراً وليسوا مسيحيين، وصيادين وليسوا مزارعين، ووحوشاً وليسوا بشراً، أو لأسباب تتعلق بالمدنية والتطور التكنولوجي الأوربي، أو استناداً لحق الغزو، أو لأن الملك يملك كل شيء” (Deloria, 1985, p. 89).

كما استند الاستعمار الأوربي في مجمله إلى الآراء الدينية والفلسفية لاحتلال أراضي الهنود الحمر انطلاقاً من أطروحات البعض في تلك الفترة على إنها هبة من الله، وأنها نتيجة حتمية لتطور الرجل الأبيض الذي استطاع بفضل علمه أن يكتشف تلك الأراضي الزاخرة بالمصادر الطبيعية التي منها ستزدهر البشرية (Deloria, 1985, p. 89-111)، مما شجع حركة الهجرة الأوربية الكثيفة والمنظمة إلى القارة الجديدة بشكل غير مسبوق في السجل البشري، حيث بلغت أعداد المهاجرين البيض والمولودين الأجانب ما يقارب (5) مليون نسمة خلال نصف قرن من إعلان قيام دولة الولايات المتحدة، وكما هو مبين في الجدول (2).

جدول (2) العدد الإجمالي للسكان وأعداد المهاجرين والمولودين الأجانب في الولايات المتحدة (1790-1849)

التعدادعدد السكانأعداد المهاجرين1المولودين الأجانبالنسبة المئوية
17903,918,00060,000  
18005,236,00060,000  
18107,036,00060,000  
182010,086,00060,000  
183012,785,000143,0002200,0001.6%
184017,018,000599,0002800,0004.7%
185023,054,0001,713,0002,244,0009.7%

 

1 يقدر العدد الإجمالي للهجرة في كل عقد من عام 1790 إلى عام 1820.

2 عدد الأجانب الذين ولدوا في 1830 و 1840 عقود استقراء.

 

– المصدر:

https://en.wikipedia.org/wiki/History_of_immigration_to_the_United_States#1790_to_1849.

ولكن، بعد أن تزاحم الرجال البيض من الأوربيين المعمدين بقوانين الكنيسة والملك وأحتدم الصراع بينهم على خلفية المواجهة الجديدة بين الثوار الأمريكان المطالبين بالدولة المستقلة ضد الاستعمار البريطاني، لجأ الجميع لنفس القبائل التي كانوا يعتبرونها همجاً كفاراً وهنوداً حمراً، ونظراً لاستمرار حيازة السكان الأصليين حتى ذلك الوقت للكثير من الأراضي المهمة في وسط النزاع الأوربي، بالإضافة إلى سيطرتهم على بعض الثروات الأساسية لصيرورة النصر العسكري، فقد استشاط كل من البريطانيون والثوار الأمريكان في إعلان الوعود إلى الهنود الحمر.

وبناءً عليه، وقفت العديد من قبائل الهنود الحمر إلى جانب البريطانيين مقابل تعهداتهم بالدعم والاستقلال، في حين لم يمنع ذلك الكونغرس الأمريكي قبل الإعلان الرسمي للدولة الأمريكية من إطلاق وعده بتأسيس علاقات جديدة مع تلك القبائل الهندية من خلال إنشاء لجنة الأمريكان الأصليين، ولكن ما أن فتأت حرب البيض أن تنتهي بانتصار الثوار الأمريكان وإعلان دولتهم الجديدة حتى عاد الغدر البريطاني القديم ولكن بممارسة أمريكية هذه المرة لفرض إرادة الأقوى ونسيان الوعود المقطوعة للهنود الحمر.

لقد قدمت قبائل الهنود الحمر مساعداتها الكبيرة للفرنسيين والإنجليز وحتى الثوار الأمريكيين في مواقع مختلفة، وكان لها الأثر المهم في تحقيق كل منهم انتصاراته ومصالحه ضد الخصوم الآخرين، لكن المفارقة أن الجميع كان متفقاً على نسيان تلك المساعدات حينما كان يحتاجها الهنود، ومن أبرز الأمثلة اللافتة في هذا الصدد تلك الكلمات الاستعطافية المنسية التي كتبها الرئيس الأول للولايات المتحدة الأمريكية جورج واشنطن، إبان نضاله مع الثوريين الاستقلاليين ضد الإنجليز، لقبيلة باسا ماكودي (Passamaquoddy) قائلاً “حينما سمعت إنكم رفضتم إرسال محاربيكم لتقديم الأخوة في سانت جونز لم أعرف كيف أفكر، أنا متخوف أن بعض أعداؤنا قد قلبوا قلوبكم ضدنا” (Deloria, 1985, p. 83).

وفي الجانب الديني والأيديولوجي، لم يتعامل الرجل الأبيض مع المواطنين الأصليين بشيء من الإنسانية التي تتبناها الديانة المسيحية على الإطلاق، فعلى الرغم من اعتقاد المبشرين المسيحيين غير المسيسين بأن الهنود الحمر لديهم القدرة على استيعاب المسيحية (البروتستانتية)، إلا أن الجموع الشعبية المسيسة لم تشاركهم هذا الرأي، بل أن الحكومة الأمريكية قد ذهبت إلى نقطة بعيدة جداً بالنظر بدونية إلى الهنود الحمر، وتمثلت هذه النظرة الدونية في أدل صورها في القوانين “الاستهدافية” التي أدت إلى تصفية الهنود الحمر والاستيلاء على أراضيهم، بل كان ذلك بالطبع عبر الكونغرس المنتخب وتحت شعار الديمقراطية ومبدأ الأغلبية.

ومن جهة أخرى، اختلفت المصادر حول عدد الاتفاقيات التي أبرمتها الحكومة الأمريكية مع الهنود الحمر ولكنها قد تتراوح ما بين 367 إلى 375 اتفاقية (DiFelice, 2015, p. 244)، ولكن حتى تتملص السلطات من تبعات كل تلك المعاهدات فقد أصدرت إحدى المحاكم الأمريكية رأياً مفاده أن هذه الاتفاقيات فاقدة لقوتها القانونية إذ أنها أبرمت مع كيانات ليس لها شخصية دولية كالدول ذات السيادة القانونية التي يكفلها القانون الدولي، وفي المقابل أصرت الحكومة الأمريكية على نكران تعهداتها على الرغم من صدور حكم تاريخي من أحدى المحاكم الأمريكية يعتبر تلك المعاهدات شرعية بموجب الدستور الأمريكي حيث نص منطوق الحكم على التالي (Deloria, 1992):

هناك الادعاء بأن معاهدة مع القبائل الهندية ليس لها نفس القوة أو التأثير مثل معاهدة مع دولة أجنبية ومستقلة، أن هذا التمييز غير مرخص به في الدستور، فمنذ نشأة الحكومة، تم إبرام معاهدات مع الهنود، وتم ممارسة سلطة صياغة هذه المعاهدات، إنها معاهدات، بالمعنى المقصود في الدستور، وعلى هذا النحو فتعتبر بمثابة القوانين العليا للأرض (p. 270)

كما تذرعت الحكومة الأمريكية في أحيان أخرى بأن البعض من هذه المعاهدات لم يتم المصادقة عليها من قبل الكونغرس الأمريكي وبالتالي لم تكتسب المشروعية، بينما لجأت في أحيان عديدة أخرى إلى التحايل بعدما أعطت الرئيس الأمريكي الحق في التفاوض بشأن هذه المعاهدات لكي يقوم بدوره بإعادة صياغتها بالقوة ولضمان أنها تكون في مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية، وأي طرف من جهة المواطنين الأصليين يرفض هذا التفاوض لا يحصل على شيء أو يتم تجاهل المعاهدة معه، خاصة بعد صدور التشريع الخاص باحتكار حق البيع للأراضي التي يمتلكها الهنود الحمر للحكومة الأمريكية فقط (Spirling, 2001, p. 6-9).

ويذكر المختصون أن هناك أكثر من أربعين قانوناً قد شرعتهم الحكومة الأمريكية بشأن الهنود الحمر ما بين عامي 1789 حتى 1982 وتميل في مجملها لغير صالح المواطنين الأصليين، بل تعبّر في حقيقتها عن تصفية واستيلاء وتهميش منهجي للكثير من حقوقهم على الرغم من محاولة تغطيتها بأنها في صالح هؤلاء البؤساء (Churchill & Morris, 1992, p. 13-17)، كما هو مبيّن في الجدول (3).

فعلى سبيل المثال لا الحصر، كتب مجلس النواب العشرون في تقريره الخاص برقم (56) المؤرخ 17 يناير 1828 تحت عنوان “إزاحة الهنود إلى الغرب” (Indian Removing Westward): “على الرغم من إنهم قادرين على التعايش مع نعمة التحضر، إلا أنهم لا يزالون بالنسبة لمجلس النواب سلالة متدنية” (Cole, 1992, p. 86)، وعلى الرغم من قناعة مجلس النواب بعدم السماح لاستخدام القوة لإزاحة الهنود الحمر من أراضيهم، إلا أن الحكومة الأمريكية قامت بحملة دعائية مفادها مبادلة الأرض في مقابل التمدن (Land for Civilization) لتنفيذ ذلك القرار، ومن أجل استكمال مشروع تهجير السكان الأصليين من أراضيهم التاريخية فقد تم تأسيس صندوق أطلق عليه “صندوق التمدين” (Civilization Fund) في عام 1818 تحت مبرر تمدين الهنود الحمر في مقابل الاستيلاء على أراضيهم (العكش، 2009، ص. 96).

جدول (3) التشريعات الأمريكية لتمكين الاستيلاء على الأراضي الخاضعة للقبائل الهندية والاستحواذ على ثرواتها وإلغاء هويتها (1818-1924)

التشريعاتالسنواتالأهداف
قانون تأسيس “صندوق التمدين”1818تهجير السكان الأصليين تحت عنوان التمدين مقابل الاستيلاء على أراضيهم.
قانون “إزاحة الهنود إلى الغرب”1828تهجير السكان الأصليين تحت عنوان التمدين مقابل الاستيلاء على أراضيهم.
مجموعة قوانين “التجارة والاتصالات”1790-1834سيطرة الحكومة على المعاملات التجارية ومعرفة جهات الاتصال مع الهنود الحمر.
قانون “إجلاء الهنود”1830تهجير القبائل الهندية من المناطق الجغرافية الغنية بالذهب.
قانون “تجنيس القبائل الهندية المتحضرة”1897منع القبائل الهندية المتحضرة من إقامة حكمهم الذاتي.
قانون “كورتيس”1898إخضاع مساحات واسعة من الأراضي لسلطة إعادة التوزيع.
مجموعة قوانين “إلغاء مشاريع الحكم الذاتي للقبائل الهندية”1830-1880إنهاء الإجراءات والمشاريع التي أقامها الهنود الحمر كالنظام التعليمي والقضائي والتجاري والزراعي.
قانون “توزيع الحصص العام”1887تغيير نمط الحياة الاجتماعية والثقافية للقبائل الهندية ومصادرة المناطق المحفوظة أو المعروفة بالمخيمات.
قانون “الجنسية الأمريكية”1924الاحتواء الكامل لجميع القبائل الهندية بعدما تحولوا إلى أقلية 1%.

 

– المصدر: من إعداد المؤلفين.

 

لقد كانت تلك الإجراءات وغيرها دائماً تصب في اتجاه واحد تجسد في سلب الأرض دون تقديم أي شيء سوى وعود جوفاء، وعلى الرغم من مناشدة أكثر من مليون مواطن أمريكي علاوة على الكثير من البعثات التبشيرية المسيحية من عدم تمرير قانون إزاحة الهنود الحمر من مواطنهم، إلا أن القانون قد تمت الموافقة عليه، بل أعيد انتخاب الرئيس أندرو جاكسون (Andrew Jackson) مجدداً، مما يدل على شعبيته بسبب سياساته الاستهدافية ضد الهنود الحمر وأقلية المعارضين له (Carbaugh, 2017, p. 76).

في المقابل، شرعت الحكومة الأمريكية العديد من القوانين لصالح المستوطنين البيض، وعرفت باكورة هذه التشريعات الانتقائية والتكتيكية بحزمة قوانين التجارة والاتصالات (The Trade and Intercourse Acts)، التي مكنّت الحكومة من السيطرة بموجبها على جميع المعاملات التجارية أو أي شكل من أشكال الاتصال مع الهنود الحمر خلال الفترة الواقعة ما بين عامي 1834-1790، وكان السبب المعلن لإقرار تلك التشريعات حماية السكان الأصليين من الاختلاسات التي يتعرضون لها من بعض المستعمرين ولكن في حقيقة الأمر فأن مسعى الحكومة الفدرالية كان مقصده معرفة جهات الاتصال مع الهنود الحمر وحجمها ونوعها، وبالتالي التحكم باتصالات الهنود الحمر لمنع إتمام صفقات السلاح أو تبادل الخبرات التي قد تساعد على تقوية وضعهم السياسي، إذ كان من الضروري إبقاء مجتمعات الهنود الحمر معزولة على شكلها البدائي الاستهلاكي حتى يسهل احتوائهم إن لم يكن فنائهم.

من السياسات التي استخدمتها الحكومة الأمريكية ضد الهنود الحمر أيضاً التهجير القسري، حيث عمدت إدارة الرئيس توماس جيفرسون (Thomas Jefferson) إلى إجلاء الكثير من القبائل الهندية من المنطقة الشرقية للولايات المتحدة إلى ما يعرف الآن بولاية لويزيانا، كما تم الترصد لبقية القبائل التي تعيش في تلك المنطقة، خاصة الكبيرة والقوية منها، كجماعات الشيروكي (Cherokee) وكريك (Creek) وتشاكتا (Choctaw) وسيمينول (Seminole) وتشيكاساو (Chickasaw)، نظراً للقابلية التي أظهرتها للحداثة وامتصاص بعض عناصر الحضارة الأوروبية مقارنة بغيرها من الجماعات الهندية، وفي الوقت نفسه كانت هذه القبائل تعيش على رقعة جغرافية غنية بالذهب، مما دفع الكونغرس الأمريكي إلى إصدار ما عرف بقانون إجلاء الهنود (Indian Removal Act) عام 1830، حيث تم بالفعل إزاحة تلك القبائل بقوة القانون على يد الجنرال توماس ماكيني، الذي كان متعاطفاً مع الهنود الحمر إبان توليه وزارة الحرب في بداية مشواره، إلا أن مواقفه قد تغيّرت لدرجة متناقضة تماماً بعدما ترأس مكتب شؤون الهنود الحمر ما بين عامي 1822-1830 (العكش، 2002، ص. 83-90).

وبعد إزاحتهم عن أراضيهم، وقّعت القبائل الخمس المتحضرة (The Five Civilized Tribes) معاهدة مع الحكومة الأمريكية تنص على أن تلك الإزاحة ستكون الأخيرة لهم، وبناءً على ذلك عمدت تلك القبائل إلى إعلان استقلالها بين عامي 1830 إلى 1880 لكن الكونغرس الأمريكي رفض الاعتراف بتلك المعاهدات، ووضع تصرف أراضي تلك القبائل تحت قانون إعادة التوزيع ناكثاً بوعود الحكومة السابقة (العكش، 2002، ص. 93-98).

كما استخدم الكونغرس والحكومة الأمريكية حجة أن الكثير من أتباع الجنسية الأمريكية من غير الهنود الحمر يعيشون على تلك الأراضي ويجب حمايتهم وحفظ حقوقهم الدستورية خاصة وإنهم قد أصبحوا أغلبية بعدما سمح لهم الهنود الحمر بالعيش بينهم بشرط احترام القوانين التي تصدرها سلطاتها، وهنا تنبري الغواية مرة أخرى على المستوين الرسمي والشعبي للهنود الحمر، حيث لم يخدع الهنود الحمر من الحكومة الأمريكية فحسب بل حتى من قبل أولئك الذين تم السماح لهم بالعيش بينهم حتى أصبحوا أغلبية فنكثوا بالعهد.

ولمنع القبائل الهندية المتحضرة من إقامة حكمهم الذاتي، قرر الكونغرس مجدداً في عام 1897 منح الجنسية الأمريكية لجميع السكان في هذه الأراضي بما في ذلك الهنود الحمر أنفسهم، وفي العام التالي مباشرة تم استصدار ما يعرف بقانون كورتيس (Curtis Act) الذي شرعن إخضاع تلك الأراضي لسلطة إعادة التوزيع، وبذلك تم إنهاء كافة الإجراءات والمشاريع التي أقامها الهنود الحمر خلال نصف قرن من الزمن ما بين عامي 1830 حتى 1880، بما في ذلك النظام التعليمي والقضائي والتجاري والزراعي الخاص بهم، ومن الجدير ذكره أن النظام التعليمي الذي صنعه الهنود الحمر كان أفضل من ولاية تكساس المجاورة لهم، ولكن بعد ذلك القانون تم دمج هذا النظام تحت مظلة مكتب شؤون الهنود الحمر حيث تم تصنيفه كأسوأ نظام تعليمي في العالم (Deloria, 1985, p. 9-11).

حاول الهنود الحمر وخاصة قبيلة الشيروكي معارضة قانون الإجلاء عبر الوسائل القانونية المتاحة حينذاك، فعرضت فكرة قيام الدولة المستقلة على أراضيهم الممتدة عبر مناطق جورجيا ونورث كارولينا وتنيسي وألباما، وذلك استناداً على العديد من المعاهدات والترتيبات التاريخية المبرمة بين المواطنين الأصليين والسلطات الأمريكية التي أقرّت في مضمونها النهائي بأحقية الهنود الحمر على تلك الأراضي أو الأجزاء الأكبر منها، إلا أن حكومة ولاية جورجيا ضغطت في المقابل على الرئيس أندرو جاكسون (Andrew Jackson) ليقرر بأن حقوق الهنود الحمر تدخل ضمن صلاحيات وحدود الولاية وليس الحكومة الأمريكية الفدرالية، ليتجلى بذلك أحد أبرز الأمثلة على نقض سلطات الولاية للوعود والاتفاقات مع قبيلة الشيروكي بعد اكتشاف الذهب في أراضيها الواقعة في ولاية جورجيا عام 1830، وعندما رفعت القبيلة شكوى للمحكمة العليا وأصدر القاضي جون مارشال في عام 1832 حكمه الشهير بعدم شرعية استيلاء الولاية على أراضي الشيروكي كونها تناقض الاتفاقات المبرمة معها، تهكّم الرئيس جاكسون من منطوق الحكم قائلاً: “جون مارشال أصدر قراره فدعه يذهب كي يطبقه” (Deloria, 1985, p. 8).

بناءً على ذلك تقرر أنه على كل من لا يريد الخضوع لسلطة الحكومة المحلية في ولاية جورجيا فعليه الرحيل إلى غرب نهر المسيسيبي، كما أعطى الرئيس جاكسون تبريره للإزاحة بأنه من صالح الهنود الحمر حتى يمنع انقراضهم، مستكملاً بذلك ما أقره سلفه الرئيس جيمس مونرو (James Monroe) من ذرائع لإزاحة السكان الأصليين عن أراضيهم، وعندما رفض بعض الهنود فكرة الإجلاء تم استخدام القوة العسكرية لتنفيذ القانون ميدانياً في ممارسة لن تنفك عن الذاكرة الهندية قصصها المأساوية التي سمّيت برحلة الدموع (Trail of Tears) (Jahoda, 1975, p. 3-7)، حيث قضى أربعة آلاف شخص من قبيلة الشيروكي وحدها حتفهم خلال تلك الرحلة بسبب التزاحم في عربات وأقفاص النقل، وتجدر الإشارة إلى إنه تم نقل ثلاثين قبيلة هندية أخرى على هذا النحو، وعلى الرغم من وعد الحكومة الأمريكية بأن هذا الإجلاء سيكون الأخير وإن المحطة النهائية ستكون الموطن الدائم لهم، إلا إنهم أرغموا على النزوح قسراً تكراراً ومراراً عند مطالبة المستوطنون الجدد الحكومة الأمريكية فعل ذلك في كل مرة.

من جهة أخرى، وعلى أثر مزاحمة المستوطنين للهنود الحمر في أراضيهم واستهلاك خيراتهم، خاصة في قتل حيوان الجاموس الأمريكي البافلو (Buffalo)، فقد أصابت القبائل الأصلية سلسلة من المجاعات عوضاً عن الأمراض السارية والمعدية التي لم يكونوا محصنين ضدها حتى قضت على أعداد ضخمة منهم بصورة جماعية يعيب على التاريخ البشري إهمالها.

ومن أخطر التشريعات التي استصدرتها الحكومة الفدرالية بل أكثرها خبثاً هو قانون توزيع الحصص العام (General Allotment Act) لعام 1887، الذي كان الهدف الظاهري له تحفيز الهنود الحمر على التمدن عبر تعليمهم على الفلاحة وتربية الماشية، في حين كان المقصد الأساسي للقانون يضمر تغيير نمط حياتهم وثقافتهم إضافة إلى نهب ما تبقى من الأراضي التي يمتلكها هؤلاء المواطنين والمعروفة بالمناطق المحفوظة أو المخيمات (Reservations)، فقد أرغمت الحكومة الأمريكية بموجب هذا القانون الهنود الحمر على قبول وإعادة توزيع الأراضي بواقع 80 إلى 160 هكتار لكل أسرة، لكنهم رفضوا القانون برمته لأنهم كانوا يتعاملون مع الأرض من منظور مقدس أكثر من معناه الاقتصادي، ولم تعبأ الحكومة الأمريكية بهذا الاعتراض ومضت قدماً بفرضه حتى تم توزيع الأراضي بالصورة التي أقرها القانون، أما ما فاض من أراضٍ زائدة فقد تم توزيعه على المستوطنين البيض (العكش، 2009؛ نبيل، 2006).

وبينما التحديث والتمدين هو الشعار والوسام على ثوب المدنية والإنسانية، فقد كان الهدف الحقيقي والخفي هو الاستيلاء والاستحواذ والتهميش، ولم يكن بمقدور الهنود الحمر إلا القبول بالأمر الواقع حيث أن الذين لم يستثمروا أراضيهم لأسباب ذاتية أو خارجية قد أرغموا على بيعها للبيض حتى يتسنى لهم دفع فواتير طعامهم وملبسهم المتراكمة.

وفي ظل قانون توزيع الحصص العام أضاع الهنود الحمر حوالي ثلثي ما كانوا يمتلكونه من أراضي قبل عام 1887 باعتراف الحكومة الأمريكية، الأمر الذي تم توثيقه لاحقاً في ما يعرف بتقرير مريام (Merriam Report) المنشور عام 1928 (The Institute for Government Research, 1928, p. 6-8)، حيث تم الإقرار في هذا التقرير بأن القانون المذكور وغيره من القوانين والإجراءات التي اتخذتها الحكومة الأمريكية قد ألحقت الفقر وتردي الأوضاع الصحية وتدني التعليم بالمواطنين الأصليين جراء عدم تمكنهم من التحكم بحياتهم وأرضهم، وعلى الرغم من ذلك الاعتراف إلا أن هذا التقرير قد مرّ كغيره من حالات الاعتراف بالذنب مرور الكرام وبعد فوات الأوان ولم يتجاوز عتبة ذر الرماد في العيون والتدليل الساذج على الموضوعية وتحقيق العدالة الضائعة في وقتها، ليبقى التساؤل المثير للجدل حول قيمة الاعتراف بالذنب بعد اقترافه وقيام أمر واقع لا يمكن تغييره بحجة إنه خارج عن منطق العقلانية التي يحددها الطرف القوي المنتصر.

وأمام الضعف والوهن الذاتي والأمراض والهزائم المتتالية والمضايقات العنصرية من جانب المستوطنين تشبّث الهنود الحمر بأمل المحافظة على وجودهم بأي شكل من الأشكال لدرجة أنهم أجبروا على توقيع قرابة 370 وثيقة من المعاهدات والاتفاقيات حتى دون أدنى دراية بفحواها وتبعاتها، ورغم ذلك لم يصادق مجلس الشيوخ الأمريكي على الكثير منها مما جعل اختراقها سهلاً متى ما استدعى الأمر (Prucha, 1997).

يتبين مما سبق أن التوجه الأساسي كان مجرد إثارة الهنود الحمر بأي شكل حتى يتم إفنائهم، وقد لخّص فاين ديلوريا (Vine Deloria) هذا المشهد المأساوي في كتابه “بعد رحلة المعاهدات المنقوضة” (Behind the Trail of Broken Treaties) قائلاً: “في مقابل كل انتصار يحققه الهنود الحمر هناك دستة هزائم رسمت على قطار الأحداث” (Deloria, 1985, p.14)، وبالفعل فقد شهدت الفترة بين عامي 1861-1891 فقط أكثر من 1000 مصادمة عسكرية دفع الهنود الحمر شبابهم وأطفالهم ونسائهم وشيوخهم وأراضيهم فاتورة رخيصة لجولاتها غير المتكافئة.

ومن المعارك التي لا تزال حاضرة في ذاكرة تاريخ الهنود الحمر موقعة ساند كريك (Sand Creek) عام 1864 عندما قام الكولونيل في الجيش الأمريكي في ولاية كولورادو جون شيفنغتون (John Chivington)، الذي كان عضواً سابقاً في الطائفة الميثودية ذات الصلة بالمسيحية البروتستانتية (Methodist)، بشن هجوم كاسح على مجموعة من قبيلتي شايان وأرابهو (Cheyenne  Arapaho) المسالمتين ولا يتجاوز عددهم 600 فرداً فقتل منهم 105 من النساء والأطفال إضافة إلى 28 من الرجال العزل وهم بحماية العلم الأمريكي الذي قدمه الرئيس إبراهام لينكون (Abraham Lincoln) لزعيمهم بلاك كاتل (Black Kettle) عام 1863، ولم تكتف الحكومة الأمريكية بذلك بل أجبرت الأحياء منهم على مغادرة الولاية، ومما يذكره المؤرخون في هذه المذبحة أن فرقة الجنود تحت قيادة شيفنغتون لم تكفي بالقتل بل ذهبت إلى أشنع التمثيل بالموتى فتم كسر جماجم الرجال واستخراج الأمخاخ منها وقطع آذان الأطفال علاوة على تقطيع المناطق الحساسة للرجال والنساء واستخدامها كحافظات للتبغ وزينة لسروج الخيل (Jaimes, 1992, p. 1-2).

وقد وثقّت ستيفيني بوك (2016) (Stephanie Buck) كيف استغلت الحكومة الأمريكية ذلك الوضع المهين للهنود الحمر فعكفت على سلسلة من العمليات التراتبية بغية التغيير المنظم للبنى الثقافية والهوية الحضارية للسكان الأصليين وفي مقدمتها تلك الأنشطة التنصير لطمس خصوصيتهم التراثية وحقوقهم التاريخية، فعينّت الإرساليات التبشيرية في مناطق الهنود الحمر لاستكمال المشوار السياسي للحكومة الفدرالية، الأمر الذي استقبل من جانب القبائل الأصلية برفض تلك الإجراءات والتحديات الحضارية والدعوة إلى التمسك بعاداتهم وما تبقى من تقاليد تهمس بها شفاه ذابلة ووجوه شاحبة تتحدث عن ذاكرة بائسة، وفي رد فعل مباشر أخذت بعض جماعات الهنود الحمر مثل قبيلة السيوكس (Sioux)، التي بقيت بين أكثر القبائل تنظيماً في الوقت الراهن، بممارسة طقوس دينية وتقاليد تراثية تؤكد أحقيتهم ورغبتهم في “الرجوع أو العودة”، ومن أهمها رقصة الجن (Ghost Dance) التي توحي بوعد الرجعة وعودة الأمور إلى نصابها كما كان الحال قبل وصول المستوطنين إلى أمريكا.

ولما كانت قراءة الحكومة الأمريكية لمثل هذه الأنواع من الممارسات التراثية على إنها تنشئة سياسية فقد تم حظرها بالقوة عبر استصدار الأوامر من إدارة شؤون الهنود الحمر لتجريم ممارسة تلك الطقوس، ونفاذاً لتلك الأوامر قتل الجيش الأمريكي ما يقارب 350 من رجال قبيلة السيوكس في ديسمبر 1890 لمجرد أنهم كانوا يمارسون رقصة الجن (Buck, 2016).

وتجدر الإشارة هنا إلى الحساسية البالغة تجاه مفهوم العودة أو الرجوع وكل ما يتصل به من ثقافة باعتباره حقاً حصرياً لليهود فقط وفقاً للبروتستانتية المتعصبة تحديداً، والتي كانت تسيطر على الثقافة السياسية الأمريكية تجاه الهنود الحمر في ذلك الحين، لذلك فبمجرد إثارته من قبل الهنود الحمر من خلال ممارسة طقسية ودينية تولدت ردة فعل عظيمة لا يمكن أن تكون متساوية مع الفعل ذاته، بل مآل ردة الفعل العظيمة هو اتصال ذلك الطقس بتداعيات وتفسيرات ثقافة العودة.

وعلى عكس مفاهيم الدولة العلمانية والجمهورية الدستورية التي أتى بها الرجل الأبيض على الأراضي الجديدة الموعودة، فقد كانت الحقبة ما بين 1870-1934 هي الأسوأ في التدخل القسري في الشؤون الدينية للهنود الحمر، فخلال تلك الحقبة سيطرت الجماعات المسيحية على الشؤون الهندية حتى بلغ عدد الإدارات الواقعة تحت سلطة هذه الفئات ما مجموعه 63 من بين 75 مستعمرة هندية قائمة في تلك الفترة الزمنية، وكانت إدارات الرجل الأبيض تجبر الهنود الحمر على اعتناق الديانة المسيحية وتمنع أية ممارسة لطقوسهم الدينية التقليدية بدعم وتوجيه مباشر من الحكومة الأمريكية تحت إشراف وزير داخليتها هنري تيلر (Henry Teller) في عام 1883 الذي هاجم ما وصفه بالممارسات “الوثنية” للهنود الحمر وعمل على إجبارهم على الكف عن تلك الطقوس بعدما أقنع الكونغرس على إقرار تشريع يسجن من يمارسها لفترة 30 يوماً (Vecsey, 1993).

لم تتوقف تلك التدخلات “الجراحية والقسرية” لتهجين ثقافة المواطنين الأصليين على الجوانب الدينية فحسب بل امتدت إلى الأبعاد الشخصية، حيث تم مضايقة بل ومعاقبة كل من لا يحلق شعره الطويل من الهنود الحمر، معتبرين أن قص الشعر أحد مؤشرات الحضارة والتمدن، كما تم ملاحقة كل من يضع أية علامة من قبيل تلك التي اعتاد عليها الهنود الحمر على وجهه أو عينيه حتى وصلت حدة تلك المضايقات في بعض الأحيان إلى عقوبة السجن مع الأعمال الشاقة إلى جانب الحرمان من توفير مؤونة الغذاء المخصصة لهم (Vecsey, 1986).

لقد أحس الهنود الحمر بمشكلتهم الجماعية والتهديد بالانقراض فترجموا ذلك في العديد من الخطب العصماء مثل مقولة الزعيم سياتل (Seattle) “شعبي في حالة انحسار”، ومقولة القائد جوزيف (Joseph)، واسمه الأصلي انموتو ياهلاتلات، “أنني سوف لن أقاتل أبداً” بعد استسلامه للقوات الأمريكية في عام 1877، كما راود هذا الإحساس الجميع ودفع بعضهم إلى حلم الوحدة ضد القوى الغازية، وتمثلت تلك المحاولات في بعض المبادرات لتوحيد الجماعات الهندية بقيادة قبيلة الشاوني (Shawnee)، وهي إحدى القبائل المعروفة والقوية في أوساط الهنود الحمر فنجحت بعقد العديد من التحالفات مع القبائل الأخرى لمنع توسع الغزاة بقيادة الزعيم تيكومسيه (Tecumseh) وشقيقه الزعيم المقاتل تينسكواتاوا (Tenskwatawa)، ولكن الحكومة الأمريكية لم تعط حتى وقتاً للإنذار فأرسلت على العجل حاكم أراضي إنديانا الفظ الغليظ وليام هاريسون لمهاجمة عقر دار هذا التحالف بمنطقة بروفيتس تاون (Prophets Town) أو مدينة الأنبياء في نوفمبر من عام 1811 حيث دارت معركة تابيكانو (Tippecanoe) الدامية وغير المتكافئة، ولم يكتف الجنرال هاريسون بإلحاق الهزيمة الساحقة في صفوف الخصم بل قام بتمزيق تجمعات الهنود الحمر إرباً إرباً مما منع تكرار مساعي توحيد القبائل الأصلية مستقبلاً.

وبعد معركة تابيكانو فرضت الحكومة معاهدة غانت (Ghent) على القبائل الهندية كدعوة إلى عدم الاعتداء وإقامة علاقات الاحترام المتبادل بين الطرفين الهندي والأبيض، إلا أن تلك الاتفاقية كغيرها لم تقدّر من جانب الحكومة الأمريكية خاصة عند شكاية الهنود الحمر بسلب أراضيهم من قبل المستوطنين وانحياز السلطات الأمريكية للمعتدي بذريعة حماية مواطنيها من “شرور الناس المتوحشون” (Fixico, 2017).

بغض النظر عما تدعيه أو تبرره الحكومة الأمريكية عن عدم قانونية تلك الاتفاقيات والمعاهدات، إلا أن الدليل التاريخي مثبّت على أن الثوار الذين شيدوا الحكومة الأمريكية في بداية قيامها ككيان وقبل إعلان الاستقلال كانوا يتعاملون مع شعوب الهنود الحمر ككيانات سياسية مستقلة، وما يدل على ذلك بوضوح أول معاهدة أبرمها الثوار قبل إعلان الاستقلال مع زعيم شعب ديلاوير (Delaware Nation) عام 1778، والتي نصّت حرفياً في المادة الثالثة منها على اتفاق يسمح بمرور قوات الثوار “عبر أراضي دولة شعب ديلاوير” (Deloria, 1985, p. 199).

  1. التصفية والاستيلاء عبر المسوغات العلمية:

لقد مضى الهنود الحمر إلى حتفهم التاريخي دون رحمة وبقوا في أدنى السلم الاجتماعي حتى اليوم، ولولا ضغط جماعات حقوق الإنسان والنفر القليل من الهنود الحمر الذين ما زالوا يؤمنون بقضيتهم بالإضافة إلى المناصرين لهم من البيض لما قام الكونغرس بتشريع قانون يمنحهم الجنسية الأمريكية في عام 1924.

لماذا آل أمر الهنود الحمر إلى هذا الحال؟ هذا السؤال يمكن طرحه على الهنود الحمر أنفسهم وعلى المستوطنين البيض والحكومة الأمريكية، ولكنه بالتأكيد يستثير إجابات متفاوتة ولربما متناقضة من أطرافه المختلفة، فقد يأتي رد الهنود الحمر بمقدمات بديهية تكمن في عدم القدرة على مواجهة الرجل الأبيض المدجج بأحدث الأسلحة والوباء الذي نقلوه إليهم وخاصة مرض الجدري بالإضافة إلى عجزهم عن تحقيق التلاحم ضد الأجنبي، وفي مقابل ذلك من المرجح أن يتخفى جواب الحكومة الفدرالية والمستوطنين البيض بين أطنان الوثائق إذ لا يمكن أن يصرحون به إلى الآن لكونه متنافياً مع ما ينادون به من مبادئ الديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان، ومهما بلغت بعثرة هذه الوثائق سيدور الجواب الخفي حول التشكيك في مقدرة الهنود الحمر على التحديث والتمدن والتطور، وبالتالي كان من الواجب الإنساني من منظورهم أن يأتي جنس صالح يستطيع القيام بتلك المهمة التاريخية والنهوض بمتطلبات التقدم والحداثة.

بمعنى آخر، في حين أن القادم الطارئ من وراء البحار قد أخذ الأرض وطورها فإن المتلقي للتحديث والتطور فشل في المقابل باللحاق في ركب التقدم، فكان لزاماً فرض الواقع الجديد عليه بكل الوسائل مهما كانت النتائج، وعلى هذا النحو تكون الحجة مقنعة ومنطقية للعوام خاصة في تلك الحقبة، ولكن من الأرجح ألا يكون هذا التبرير مقبولاً وفق المعايير الحقوقية والإنسانية في الوقت الراهن، ولذلك تبقى الحقيقة مهما كانت مؤسفة أن تلك المسوغات الزمانية لم تكن مستحسنة عند الأغلبية البيضاء فحسب، بل مدعمة بالبراهين العلمية في وقتها، ولعل من هذا المنطلق عملت الأدوات السياسية من أجل تجنيد معامل العلوم لكي تبني الذرائع اللازمة والتدليل عليها علمياً لسبر عملية القهر الجماعي وكأنها محفوفة بقانون الطبيعة الذي فرضه الخالق (Josephy, 1995).

فمنذ أن لامست قدما كريستوفر كولومبس (Christopher Columbus) الأراضي الجديدة بالنسبة للأوربيين، مروراً بعهد أول رئيس أمريكي ووصولاً لعهد الرئيس دونالد ترامب (Donald Trump)، لا تزال العنصرية البغيضة المتجذرة تتأصل في الولايات المتحدة بمسميات عديدة، حيث بدأت باسم الدين والأيديولوجيا كما تمت مناقشته، ثم عبر مسوغات علمية إيكولوجية هزلية، وانتهاءً بمحاولات تسويق الثقافة الشعبوية تحت شعار أمريكا أولاً، ودشّنت باكورة هذه العنصرية على أطلال أكثر من 400 ثقافة للمواطنين الأصليين التي طمست تماماً في ما يعرف اليوم بدولة الولايات المتحدة الأمريكية واختزالها بمسمى وحيد يشار إليه بـ “الهنود الحمر” (Mohawk, 1992, p. 439-442).

ولذلك عمدت الكثير من الدراسات الطبيعية وعلوم الأنثروبولوجيا إلى تدعيم الموقف السابق، فعلى سبيل المثال قام صامويل جورج مورتن (Samuel George Morton) (1839) بتقديم “دراسة مقارنة حول جماجم مختلف الشعوب الأصلية في شمال وجنوب أمريكا” (Comparative View of the Skulls of Various Aboriginal Nations of North and South America) في النصف الأول من القرن التاسع عشر، لتأكيد نظرية الخلق المتعدد للأجناس (Theory of Polygenetic)، فخلص إلى أن عدم المساواة في المميزات والقدرات راجع إلى فطرة الخالق وهي خلقة غير قابلة للتحول (Unalienable Traits)، ويدور مؤدى دراسة مورتن حول تأييد فرضية قديمة تؤمن بأن الاختلافات بين الأجناس ترجع إلى سنة الخلق، سواءً كانت بفعل الخالق أم الطبيعة، ويمكن تصنيفها إلى من هو راقي ومن هو رديء، وبعد إجراء العديد من المقارنات لحجم الجماجم للأجناس البشرية وصل الباحث إلى نتيجة مفادها أن الإنسان الأوربي والأمريكي أكثر تحضراً بينما الهنود الحمر لا يزالون يعيشون في الحقبة التوحشية.

وتأكيداً لما توصل إليه من نتائج، طرح مورتن (1839) دراسة لزميله جورج كومبي (George Combe) تحت عنوان “ملاحظات علم الأدمغة حول العلاقة بين المواهب الطبيعية وتصرفات الأمم وتطورات أدمغتهم” وانتهي بالقول بأن:

الهنود في أمريكا الشمالية، مثل الدببة والذئاب، قدرهم أن يفروا من نهج الرجل المتحضر (الرجل الأوربي الأبيض)، وأن يسقطوا أمام يده المتحضرة، ويختفون من على وجه الأرض في تلك الغابات التي توفر لهم القوت والمأوى…. في أمريكا عاش الأوربيين والهنود الأصليون لقرون تحت تأثير ذات الظروف المادية، وقد حافظ الأوربيون على التقدم تلو التقدم في حين أن الهنود لا يزالون ثابتين في الجهل والوحشية” (p. 272-273)

وبطبيعة الحال فأن الجنس الأبيض (Caucasian) هو الأرقى في سلم المخلوقات البشرية حسب التصور العنصري حينذاك، أما الجنس الأدنى الذي لا حقوق له ولا احترام فينحدر من العرق الأسود (Negro) (Dippie, 1982, p. 82-83).

كما توصّل مجموعة من الباحثين العلميين إلى نفس نتيجة صامويل مورتن، ومن ضمنهم جي سي نوت (J. C. Nott) وجورج جلدون (George Gliddon) اللذان ذهبا في دراستهما المنشورة عام 1854 تحت عنوان “أنواع الجنس البشري” إلى أبعد منذ ذلك حينما قال نوت ساخراً: “أن الحديث عن تحضر الهنود الحمر حديث فارغ، إذا قلت بإمكانية ذلك فإنك يمكن أن تحاول أن تغير طبيعة (حيوان البافلو)”، بينما رصد الباحث براين ديبي (Brian Dippie) في كتابه “الأمريكيون المتلاشون” (Vanishing American) عدداً كبيراً من علماء الأنثروبولوجيا والأطباء وغيرهم في الأوساط الأكاديمية في بدايات القرن التاسع عشر ممن يدعمون نظرية الاختلاف والتفوق العرقي والجنسي بين البشر إلى الحد الذي يبرر الاستعباد ونكران الحقوق الإنسانية (Dippie, 1982, p. 83).

وعرف هذا الاتجاه فيما بعد باسم الدارونية نسبة إلى العالم تشارلز دارون (Charles Darwin) الذي كرس حياته لتأكيد عدم تساوي الأنواع البشرية في كتابه ذائع الصيت “أصل الأنواع”، ولعل أهم ما جاء في هذا البحث الإصرار على فرضية عدم تساوي الأنواع البشرية المتصارعة بصورة مستمرة من أجل الوجود، حيث من الطبيعي أن تكون الغلبة للأصلح والأقوى الذي يستطيع فرض نفسه على بقية الأنواع، كما أعطى دارون مصطلح الانتقاء الطبيعي وجدليته في مفهوم البقاء للأصلح لوصف الجنس الأكثر تأهيلاً.

ولم تكن هذه الفرضيات العلمية غريبة عن المنهج العلمي والأخلاقي حينذاك، بل أخذت تصدح بأصداء على الصعيد السياسي بشكل ينفي حق الآخر بالمساواة، وهذا ما ترجمه آرثر غوبينو (Arthur Gobineau) في دراسته المعنونة “بحث في اللامساواة بين العروق البشرية” لعام 1853، حيث أضفى غطاءً فلسفياً جديداً لتجريد الآخر من الحقوق السياسية والاجتماعية وفقاً للمتبنيات الدارونية، ولهذا فأن الحس السياسي الذي أسسه غوبينو في تلك الفترة يؤكد سلامة السلوك الذي يبدو غير أخلاقي مع الغير، وعليه فإن نكران الحق السياسي والاجتماعي في المساواة مع الآخر يعد أمراً طبيعياً جداً، ويفسّر كنتاج للعملية البشرية وفق القانون الطبيعي الذي يجب عدم التدخل في مسيرته وتفاعلاته حتى لا تتبعثر مخرجاته السياسية والاجتماعية وتنعكس بصورة سلبية على المجتمع برمته (Gobineau, 1915).

كما اتفق جورج كومبي في دراسته المشار إليها سابقاً مع ما انتهي إليه غوربينو حين جادل بعبارات صريحة بـ “أن الاستقلال والحضارة والحرية السياسية هي نتائج طبيعية للدماغ (المخ) الكبير والمناطق الأخلاقية والفكرية الغالبة في أكثر الناس، وهذا المزيج هو الذي يميز كل من البريطانيين والأنجلو الأمريكيين والسويسريين” (Morton, 1839, p. 283)، ومثّلت أفكار غوربينو بذلك الجسر الفكري في ربط الدارونية بالواقعية السياسية التي انتهجها الغرب وفق قواعد الفلسفة الميكافيلية، التي تتلخص في أطروحة نيكولاس ميكافيللي (Nicolas Machiavelli) المشهورة بـ “الأمير”.

فقد بنى ميكافيللي أسس المنهج الواقعي السياسي بحصر العقلانية السياسية في كل ما هو مفيد للحاكم بغض النظر عن السلوك الأخلاقي، ولخّص أطروحته تلك بمبدأ “الغاية تبرر الوسيلة” مؤكداً أن الناس لا ينظرون إلا للربح المادي المباشر دون الفوائد المعنوية غير المباشرة، ولا بد أن تتم هذه العملية عبر تحقيق البعض تقدماً على أكتاف وحساب الآخرين ومن يتأخر عن تحقيق الربح والغلبة، ووفقاً لهذا المنطق سوف يهزم أمام الآخر من لا يتوانى عن اقتناص الفرصة بغض النظر عن أخلاقية الوسيلة إذ أن إنكار الخير والصلاح والفضيلة لا يحتسب إلا في محصلاتها النهائية ولا يمكن قياسها إلا تبعاً إلى بُعد واحد يتمثل في القدرة على البقاء واستمرار إحكام السيطرة على الآخرين حتى لو تطلب الأمر القيام بإفنائهم من الوجود.

إذاً، المسوغات والدلائل التي ساقها الرجل الأبيض السياسي للعوام من شعبه لا تقوم فقط على اعتقادات وتقاليد اجتماعية وعرفية ودينية فحسب، بل تم تأسيسها على قواعد علمية مستوحاة من علوم الطبيعة والأنثروبولوجيا والسياسة والاجتماع والتاريخ، فشكّلت تلك القواعد انطلاقات القوالب الفكرية العامة عند أي حديث عن الهنود الحمر، وبناءً على ذلك لم يعد للانتقادات التي ساقها بعض المنصفين حول عدم إنسانية معاملة البيض للهنود الحمر أي أثر، بل كانت بمثابة “تطيّر وجداني” خارج إطار المطارحات الفكرية العقلانية (Out of Rational Discourse) التي سوقها الرجل الأبيض بنجاح من خلال مؤسسات السلطة الرسمية وأدواتها الإعلامية والعسكرية والاقتصادية والدينية.

في إطار هذا المشهد التاريخي، توقف مصير الهنود الحمر أمام اختيار الآخرين لأحد طريقين، عرف الأول منهما بالخيار النشوئي الذي انتعش في الفترة ما بين 1862 إلى 1896، وانطوى ذلك على إحداثيات حتمية التسليم للقانون الطبيعي الذي يجب أن يحكم على قدر الهنود الحمر، وقد أقر أنصار هذا الاتجاه بإمكانية تحضّر الهنود الحمر وفق شروط النظرية النشوئية “الشيفونية” التي استخرجها الرجل الأبيض من منصات التأثر الجماهيري الناطقة بسياسة البقاء للأصلح وفقاً لتنظير الفيلسوف البريطاني هربرت سبنسر (Herbert Spencer) في كتابيه “مبادئ علم الحياة” و “سكونيات اجتماعية” (العكش، 2012، ص. 29-30).

فقد أكد سبنسر بأن الحضارة شيء ناتج من الحالة البربرية، بمعنى أن البربرية مرحلة تاريخية ضرورية نحو التحضر ولا يمكن تجاوزها، حيث أن جميع الحضارات والمجتمعات البشرية قد ولجت بها قبل بلوغها مستوى التحضر كما وصل إليها الرجل الأبيض (Dippie, 1982, p. 98-99 )، ووضع سبنسر بذلك أفكار المذهب النشوئي في مواكبة النخبة الكبيرة في أوساط المجتمع العلمي حينذاك للوصول إلى نهاية مفادها حصر إمكانية تحضر الهنود الحمر بشروط النشوئية التي تتطلب بدورها وقتاً زمنياً طويلاً عوضاً عن ضرورة التأقلم والذوبان في هوية الآخر.

ويأتي لويس مورغان (Lewis Morgan) من خلال مؤلفيه “عصبة قبائل الإيروكوا” (League of the Iroquois) عام 1851، وكتابه الآخر بعنوان “المجتمع القديم” (Ancient Society) في عام 1877، كأحد أهم المجتهدين الذين حاولوا تطبيق مبادئ المذهب النشوئي وفق منظور سبنسر، ووفقاً لمراجعة البرفسور ديبي المشار إليه سابقاً، فقد قدّم مورغان في كتابه الأول وصفاً دقيقاً وتحليلاً معمقاً حول تجمع قبائل الإيروكوا كنموذج عن اتحاد قبائل الموهوك (Mohawk)، أونونداغا (Onondaga)، كايوغا (Cayuga)، أونيدا (Oneida) وسينيكا (Seneca)، ممن عرفوا بجماعة الخمسة شعوب، كما طوّر في كتابه الآخر نظرية جديدة حول التطور الحضاري النشوئي للمجتمعات كتطبيق على دراسته الأولى لتجمّع الإيروكوا خلص فيها إلى أن المجتمعات البشرية تمر عبر سبعة أطوار من الحالات النشوئية تتسلسل كالتالي: (1) وضع الهمجية الدنيا (Lower Status of Savagery) (2) وضع الهمجية الوسطى (Middle Status of Savagery) (3) وضع الهمجية العليا (Upper Status of Savagery) (4) وضع البربرية الدنيا (Lower Status of Barbarism) (5) وضع البربرية الوسطى (Middle Status of Barbarism) (6) وضع البربرية العليا (Upper Status of Barbarism) (7) وضع الحضارة الحالية (Status of Civilization).

وبحسب منظور مورغان، فإن العمر الكلي منذ الهمجية الدنيا إلى الحضارة الحالية يقدر بمائة ألف عام، قضى الإنسان خلالها ما يعادل 60 ألف عاماً في مرحلة الهمجية، 35 ألف عاماً من مراحل البربرية، وخمسة آلاف سنة الأخيرة في مرحلة الحضارة الحالية، ويتوزع الهنود الحمر تبعاً لنظرية مورغان بين المرحلة الثالثة والرابعة والخامسة من هذه الأطوار (Dippie, 1982, p. 103-105)، مما يعني أن الهنود الحمر الأكثر تطوراً ممن يقعون في المرحلة الخامسة بحاجة إلى ما لا يقل عن 15 ألف سنة للوصول إلى بداية مرحلة التحضر التي يعيش الرجل الأبيض في ظلها حالياً.

وكما أشار منير العكش، فأن التصفية الجسدية للقبائل الهندية كانت تتم بناءً على ما أطلق عليه القانون العلمي للتطور الحضاري (Scientific Law of Cultural Evolution) (العكش، 2009، ص. 85)، فهذا الاتجاه النشوئي وإن كان يرى احتمال تطور الهنود الحمر لكنه يضعه في صف الاحتمالات الأقرب للخيال وغير قابلة للتطبيق، ليفتح بذلك آفاق المشروعية الحتمية لفناء هذا الجنس البشري دون أن يكون للرجل الأبيض أو الحكومة التي تمثله أي دخل في عدم أخلاقياتها.

أما الطريق الثاني فقد أطلق عليه الخيار البيئي (Environmentalist) الذي تصدّر توجهاته مجموعة من النقاد لسياسة الحكومة الأمريكية إضافة إلى بعض أنصار الكنيسة الكاثوليكية، حيث اتفق هؤلاء على أن عدم التعامل الإنساني مع الهنود الحمر من قبل السلطات الأمريكية وبعض الجماعات السياسية والاجتماعية هو السبب الرئيسي وراء انقراض هذا الجنس البشري، كما يضيف أنصار هذا التيار بأن الهنود الحمر لم تترك لهم الفرصة للالتقاء بالحضارة الأوروبية – المسيحية من خلال توجهاتها الانفتاحية التي فاض بها عصر التنوير، بل على العكس من ذلك فإن رجال العصابات واللصوص والمجرمين والقراصنة والاستغلاليين هم الذين احتكوا أولاً بالهنود الحمر مما أجّج روح العداء بين الجنسين ورمى بضلاله على الموروث الفكري والمصالح السياسية للحكومات المستعمرة والحكومة الأمريكية الناشئة، وبناءً على ذلك فإن هذا الاتجاه يعاني من إشكالية رئيسية تتمثل في إبقاء التفكير مفتوحاً أمام رؤية رجال الحكومات الأمريكية الذين تعاقبوا على السلطة لقرابة قرنين من الزمان على أنهم إما رجال متحضرين أم زمرة من العصابات واللصوص والمجرمين.

ووفقاً لهذه المقاربة، فأن أنصار الطريق الثاني يتنادون إلى تعريف الهنود الحمر للتحضر عبر الوسائل الشرعية والمتاحة التي كان من المفترض أن تقوم بها الدولة الأمريكية ومؤسسات المجتمع المدني وخاصة الكنيسة منها، وقد رفع هذا الاتجاه شعاراً مهماً عنوانه “التحضر أو الموت” حيث يتضح بجلاء عند مراجعة معظم الأدبيات الخاصة بمدلولات هذا التحضر (Civilization) أنها تصب في اتجاه واحد وتنحصر في التحضر على الطريقة المسيحية، ومما لا شك فيه أن الدعوة إلى إقحام التحضر كإجراء نوعي لنقل هذا الجنس البشري من حالة إلى أخرى عبر الثقافة المسيحية إنما يدل على ما يسمى بالهيمنة الثقافية التي يمارسها المجتمع الأبيض بمؤسساته المدنية والسياسية، سواءً بصورة مقصودة أو غير مقصودة، إذ يركّز هذا الاتجاه على أن عقل الهنود الحمر عبارة عن صفحة بيضاء لا يحمل أية انطباعات أو أفكار ثقافية من شأنها أن تتعارض مع إجراءات التحضر على الطريقة المسيحية.

عمدت هذه التوجهات إلى اتخاذ منهجين لتغير البنية الفكرية والحضارية والثقافية للهنود الحمر تمثلا بالزراعة والتعليم، ففي البعد الزراعي كانت الإجراءات تهدف إلى التحول المرحلي من أمس الهمجية إلى حاضر الفلاحة ثم إلى مستقبل المواطنة، وذلك في إطار قانون توزيع حصص الأراضي المشار إليه سلفاً، والذي أدى إلى نتائج وخيمة على الهنود الحمر، كما لم يخلو منهج التعليم بدوره من تهجينه بالأفكار والقيم والأحكام المسبقة كشروط أساسية لتجاوزه، وقد لخّص الموظفون الذين عينتهم الحكومة الأمريكية في عام 1879 لتعليم الهنود الحمر هذا الاتجاه بالتأكيد على أن “الطريقة الحقيقية الوحيدة للتحضر هي التحضر المسيحي، وأن التحضر من دون مسيحية لا تعدو كونها ثقافة بربرية” (Dippie, 1982, p. 112).

أن الحقيقة التاريخية المؤكدة التي لا تزال الولايات المتحدة الأمريكية، بل حتى الكثير من الصهاينة، متمسكة في نكرانها هي الإبادة الجماعية (Genocide) بحق الهنود الحمر، ومثل هذه الكلمة السحرية التي توظفها الصهيونية بشكل حصري (Exclusive) من أجل الدعاية السياسية وتبرير كل ما يصدر عنها من أفعال متنافية مع القانون الإنساني هي التي تمنع الاعتراف بأن ما حصل للهنود الحمر يمثل أكبر جريمة جماعية منظمة ورسمية لأحد الأجناس البشرية، وقد عمد البرفسور وارد شيرشيل (Ward Churchill) في كتابه المعنون “مسألة صغيرة من الإبادة الجماعية” (A Little Matter of Genocide) إلى طرح هذه الإشكالية وتناولها من عدة جهات وحيثيات توّصل بعدها إلى نتيجة مفادها أن الولايات المتحدة وحلفائها الأوربيين، وإلى درجة أقل الاتحاد السوفيتي السابق، قد لعبوا دوراً أساسياً في الأمم المتحدة لكي يجعلوا مفهوم الإبادة الجماعية حصراً على إبادة اليهود من قبل النازيين بالدرجة الأولى وذلك لمنع سريان هذا التعريف على الأعمال التي قاموا بها تاريخياً ضد الشعوب التي استعمروها أو المعارضة لها أو المواطنين الأصليين فيها كالهنود الحمر (Churchill & Wall, 1997, p. 407-412).

وعلى الرغم من أن سياسية التعليم التي فرضتها الحكومة الأمريكية على الهنود الحمر كانت تستهدف سلب ثقافتهم كإجراء أخير للقضاء عليهم (العكش، 2012، ص. 15-20)، إلا أن التعليم الموجه الذي أنخرط به أبناء الهنود الحمر قد أتى ببعض الفوائد رغم علله الثقافية والفكرية على الأجيال الناشئة، ويعود الفضل في ذلك إلى الجهود الفردية التي بذلها بعض المخلصين والمؤمنين بحق هذا الجنس البشري في البقاء والحياة مثل الكابتن ريتشارد برات (Richard Bratt) الذي ترك بصمات واضحة على تعليم الهنود الحمر حتى بلغ الأمر بأنه لقب بموسى الرجل الأحمر.

أن أهم ما قدمه برات وأمثاله للهنود الحمر لا ينحصر في العملية التعليمية فحسب، بل أن مساهمتهم في إثبات القدرة التعليمية للهنود الحمر قد مهّدت الطريق لتفنيد الأطروحات العنصرية المضادة حينذاك حول عدم قابلية الهنود الحمر للتعلم لكونهم جنس بشري متخلف وآخذ بالانقراض (Dippie, 1982, p. 129)، ولذا كانت توجهات برات خطرة على المشروع التوسعي الاستيطاني الذي تهندسه السطات السياسية وتقوم على تنفيذه المؤسسة العسكرية، حيث بادرت هذه الأخيرة، التي تعمل ميدانياً على تصفية الهنود الحمر إلى تشجيع التوجهات الإعلامية والأكاديمية المؤيدة لهما، بمواجهة الفكر المعتدل حتى داخل بيت الرجل الأبيض بتكثيف الترويج لنظريات تكرّس خطر الهنود الحكر وتخلفهم، ومن أمثلة تلك الحملات الدعائية إطلاق وصف الشيطان الأحمر (Red Devil) على الهنود الحمر بغرض تجذير القولبة الشعبية بين صفوف المجتمع الأمريكي.

إلى جانب ذلك سعت المؤسسة العسكرية إلى دعم المؤلفات والبحوث التي تصب نتائجها في مهام التصفية العرقية للهنود دون سواها من الأعمال الأكاديمية، ومن الأمثلة البارزة على ذلك قيام معهد الولايات المتحدة للخدمة العسكرية (Military Service Institute of The United States) بتقديم جائزة الميدالية الذهبية لأفضل بحث للكولونيل جون جيبون (John Gibbon) عام 1880 في إطار موضوع خاص وضعته المؤسسة العسكرية وهو “سؤالنا حول الهنود الحمر” (Our Indian Question)، حيث طرح الكولونيل جيبون آرائه العنصرية مشيراً إلى أن الهنود الحمر عبارة عن حيوانات متوحشة في طريقهم إلى الانقراض ولا يمكن فعل إلى شيء لمنع ذلك، كما أكّد المحتفى به حتمية الصراع بين الجنسين الأبيض والأحمر مطالباً بأن يزاح الأضعف ويختفي ليفتح الطريق مضيفاً “أن الذي يرفض ذلك (يقصد المعارضين لهذا الرأي) فهو يرفض براهين أحاسيسنا ويريدنا أن نغلق أعيننا عن حقائق التاريخ” (Dippie, 1982, p. 131)، ولا عجب أن جون جيبون، الذي تم نشر بحثه بعد عام واحد في دورية المؤسسة العسكرية ذاتها، قام بتطبيق نتائج بحثه عملياً في عام 1890 بقيادته وإشرافه على مجزرة “الركبة الجريحة” (Wounded Knee) الشهيرة حيث تم تصفية 300 من أصل 350 إنساناً من قبيلة السيوكس (Sioux) شملت الأطفال والنساء والرجال العزل (Brown, 1972, p. 417).

ولم تكن أفكار الكولونيل جيبون نمطاً فردياً بل كان يمثل انعكاساً للعقلية الأيديولوجية في المؤسسة العسكرية المؤتمرة بتوجيهات السلطة السياسية التي تبنّت استراتيجية التصفية العرقية، لذا فإن العديد من التصورات المماثلة لأفكار جيبون لم تكن في محل التداول والترحيب فحسب، بل كانت تمثل الهالة الفكرية المسيطرة في الأوساط المؤسسة العسكرية وخارجها في المؤسسات الرسمية وغير الرسمية الأخرى حينذاك، وقد عبّر هنري كلي (Henry Clay)، وزير الدولة في عهد الرئيس جون كوينزي آدمز (John Quincy Adams) عن هذا الاتجاه في عام 1825 حينما قال بصراحة (Adams, 1874):

أن الهنود الحمر بطبيعتهم غير قادرين على التحضر وهم بالضرورة أقل درجة من العرق الأنجلو ساكسوني وفي طريقهم إلى الزوال والانقراض بسرعة وقد يأخذ ذلك فترة خمسين سنة” (p. 89-90).

لقد قطعت هذه التوجهات الفكرية العنصرية، المطعمة بمجموعة من الدراسات الأنثروبولوجية والاجتماعية والسياسية، والإحصائية المشكوك بمصداقيتها العلمية، الطريق أمام الرأي المخالف بالبروز، وبالنتيجة طغى مفهوم العنصر المنقرض (Vanishing Race) على ما سواه ليشكّل أساساً بديهياً في غالب الجدل العلمي والشعبي آنذاك، وحري بالذكر أن بعض النخب الفاعلة والمستقلة لم تستطع التحرر من قيود هذه الهالة الفكرية التي فرضتها القوى الأيديولوجية أحادية النهج والهدف، كما خلقت الأيديولوجية البيضاء المتشددة طوقاً فكرياً حديدياً فشلت أجواء الديمقراطية والحرية في كسرها، مما أدى إلى تكريسها وحفرها في الأذهان، وبذلك ذابت حتى تلك الأفكار المهجنة في أوساط النخب الإنسانية المعارضة للتوجه العنصري في متلازمة تبني المسيحية كأساس للتحضر والخلاص من حتمية انقراض السكان الأصليين، وخلاصة القول لم يحصل السؤال الكبير حول مصير الهنود الحمر (The Indian Question) إلا على جواب واحد تجسّد في سياسية المخيمات المغلقة (Reservations).

ثالثاً: الفلسطينيون في مواجهة حتمية الصراع

  1. إحصاء للمواطنين الأصليين في فلسطين ونماذج التصفية للفلسطينيين والعرب:

نظراً لحداثة الزمان وتطور آليات التوثيق الميدانية والعلمية والتقنية يبدو أن الدلائل على تطبيقات الإبادة بحق الفلسطينيين تتمتع بمصداقية أبلغ من نظيرتها الخاصة بالهنود الحمر، وعلى الرغم من موثوقية المصادر والروافد العلمية والميدانية الدالة على التهجير القسري والتدمير المنهجي الذي حل بالفلسطينيين على يد المؤسسات اليهودية الرسمية وغير الرسمية إلا أنها قد تتباين فيما بينها ولكن هذه الفروقات لا تشكّل على أي حال دليلاً قاطعاً على دحض الحقيقة الماثلة أمام الشهود العيان أو الصور والوسائط الموثقة لها، سواءً من الجانب الفلسطيني نفسه أو من خلال المنظمات الدولية أو الرأي العالمي المستقل أو الباحثين المتخصصين.

جدول (4) التركيبة السكانية بحسب الديانات اليهودية والمسيحية والإسلام في فلسطين (1533-2000)

السنواتاليهودالمسيحيونالمسلمونإجمالي عدد السكان
1533-15395,0006,000145,000157,000
1690-16912,00011,000219,000232,000
18007,00022,000246,000275,000
189043,00057,000432,000532,000
191494,00070,000525,000689,000
192284,00071,000589,000752,000
1931175,00089,000760,0001,033,000
1947630,000143,0001,181,0001,970,000
19601,911,00085,0001,090,0003,111,000
19672,374,000102,0001,204,0003,716,000
19752,959,000116,0001,447,0004,568,000
19853,517,000149,0002,166,0005,908,000
19954,522,000191,0003,241,0008,112,000
20004,969,000217,0003,891,0009,310,000

 

– المصدر:

Pergola, Sergio Della. (2001, August). Demography in Israel/Palestine: Trends, Prospects, Policy Implications. Presented at IUSSP XXIV General Population Conference (S64) on Population Change and Political Transitions, Salvador de Bahia, Brazil (p. 5).

وبناءً عليه، سنعتمد على مجموعة متنوعة من المصادر التي وثّقت بعض الإحصائيات للاستدلال على مصداقية الحوادث ذات الصلة بتطبيقات الإبادة الجماعية وفداحتها التي ترقى إلى جرائم كبيرة ضد الإنسانية وأوجه تشابهها مع ما حدث للمواطنين الأصليين في أمريكا الشمالية، وفي الدرجة الأولى تتبين مؤشرات الإبادة الجماعية التي مارسها الصهاينة المهاجرين في فلسطين ضد الشعب الأصلي وعلى أرضه من خلال إحصاءات المواطنين الفلسطينيين منذ مطلع القرن العشرين، فبينما لم يتجاوز عدد اليهود في فلسطين ستة آلاف نسمة أي ما نسبته 2% في عام 1839، كان مجموع الشعب العربي الفلسطيني قرابة 300 ألف مواطن، ولكن بحلول عام 1914 ارتفعت نسبة المكون اليهودي إلى 5.8% لتمثّل 40 ألف نسمة، وما لبث هذا العدد أن تضاعف إلى 83 ألفاً وبنسبة 11% في عام 1922 حتى بلغ عدد اليهود ذروته عشية عام 1948 بنحو 650 ألف نسمة وهو ما شكل 30% من المجموع الكلي للسكان في حينه (السهلي، 2004، ص. 31-33؛ خليفة، عايد، شوفاني، عبدالهادي، غانم، قهوجي وآخرون، 2004، ص. 195-197).

وفي سياق مشابه لحالة الهنود الحمر، يعكس الجدول (4) والجدول (5) التسلسل التاريخي لحركة التركيبة الدينية ونسبتها من إجمالي عدد السكان في فلسطين منذ بدايات القرن السادس عشر إضافة إلى المؤشرات التصاعدية للهجرات المنظمة لليهود مقابل الهبوط الحاد في أعداد الفلسطينيين عشية إعلان دولة إسرائيل عام 1948 وفق بعض المصادر اليهودية (Rabinovich & Reinharz, 2008, p. 571-572; Pergola, 2001, p.5)، كما يوضح الشكل (3) والشكل (4) منحنيات التراجع والانتعاش السكاني للمواطنين الأصليين من العرب الفلسطينيين بمكونيه المسيحي والمسلم في مقابل النمو السكاني لليهود وغالبيتهم من المهاجرين خلال الفترة ما بين 1517 إلى 2019.

كما يبين الجدول (6) السلسلة الزمنية الطويلة من الهجرات الجماعية الواسعة والمنظمة على مدى قرابة قرن من الزمن بدءً من عام 1880، والتي شهدت ستة تدفقات بشرية هائلة من مختلف مناطق شرق ووسط أوربا شملت روسيا وبولندا ورومانيا وألمانيا وبحر البلطيق إضافة إلى مناطق متفرقة من الشرق الأوسط وبلغ مجموعها أكثر من نصف مليون يهودي، وصل نصفهم تقريباً مع قيام الدولة اليهودية عام 1948 تحت إشراف الحكومة البريطانية فترة الانتداب.

إلا أن محاولات التغيير الديمغرافي القسري لم تنجح في ترجيح كفة الميزان السكاني لصالح اليهود، إذ احتفظ الفلسطينيون بأغلبيتهم المطلقة إلى ما قبل عام 1948، مما حدى بالعصابات الصهيونية اللجوء إلى أسلوب المجازر الجماعية لفرض هذا التغيير الديمغرافي على الأرض، والتي بلغ عددها خلال وبُعيد عام 1948 بـ 34 مجزرة، علاوة على تدمير 613 من أصل 795 قرية فلسطينية وتهجير أهلها، ونتيجة لتلك الإبادة الجماعية والتهجير القسري هبطت نسبة الفلسطينيين إلى 17% في عام 1949 (موقع المعرفة الالكتروني، 2015).

وتتوافق التصفيات العرقية التي قامت بها إسرائيل ضد الفلسطينيين والعرب، من ناحية كثرتها العددية وطريقة تنفيذها، مع العمليات الميدانية للقوات الأمريكية بحق الهنود الحمر، فخلال الفترة ما بين عامي 1947 إلى 2002، تم إتمام 11 مذبحة بحق الفلسطينيين على يد المؤسسات الرسمية الصهيونية، كما بلغ عدد السكان العرب ممن يسكنون في المناطق التي تم منحها لليهود بموجب قرار التقسيم الأممي عام 1947 حوالي 243 ألف مواطن موزعين على 219 مدينة وقرية، وقد تم تهجير 239 ألفاً منهم علاوة على تدمير 190 من قراهم، علاوة على ترحيل نحو 122 ألف عربي من الأراضي التي يفترض أن تكون فلسطينية وفق القرار الدولي نفسه (داود، 2004).

جدول (5) عدد السكان اليهود وغير اليهود ونسبة اليهود من إجمالي عدد السكان في فلسطين (1517-2010)

السنواتاليهودغير اليهودعدد الإجمالي للسكانالنسبة المئوية لليهود
15175,500295,000~300,0001.7%
188224,000276,000300,0008.0%
191485,000   
191860,000600,000660,0008.1%
192284,000   
1931174,610861,2111,035,82116.9%
1936384,078982,6141,366,69228.1%
1939449,000   
1946543,0001,267,0371,810,03730.0%
1948716,700156,000872,70082.1%
19501,203,000167,1001,370,10087.8%
19551,590,500198,6001,789,10088.9%
19601,911,300239,1002,150,40088.9%
19652,299,100299,3002,598,40088.5%
19702,582,000440,1003,022,10088.5%
19752,959,400533,8003,493,20084.7%
19803,282,700639,0003,921,70083.7%
19853,517,200749,0004,266,20082.5%
19903,946,700875,7004,821,70081.9%
19954,522,3001,090,0005,612,30080.6%
20004,955,4001,413,9006,369,30077.8%
20055,313,8001,676,9006,990,70076.0%
20105,802,9001,892,2007,695,10075.4%

 

– المصدر:

Rabinovich,  Itamar & Reinharz, Jehuda. (Eds.). (2008). Israel in the Middle East: Documents and Readings on Society, Politics, and Foreign Relations, Pre-1948 to the Present. Waltham, MA: Brandeis University Press (p. 571-572).

شكل (3) التراجع والانتعاش السكاني للمواطنين العرب في فلسطين

(1517-2019)*

 

* تم إعداد هذا الشكل وفق الإحصائيات المقتبسة من الجدولين (4، 5).

شكل (4) النمو السكاني لليهود في فلسطين

(1517-2019)*

 

* تم إعداد هذا الشكل وفق الإحصائيات المقتبسة من الجدولين (4، 5).

جدول (6) موجات الهجرة اليهودية إلى فلسطين وجهات قدومها قبل إنشاء دولة إسرائيل (1880-1948)

الموجةالفترةأعداد المهاجرينجهة القدوم
الموجة الأولى1880-190325,000روسيا، بولندا، رومانيا
الموجة الثانية1904-191434,000روسيا، شرق أوروبا
الموجة الثالثة1919-192335,100مناطق بحر البلطيق، روسيا، بولندا
الموجة الرابعة1924-193178,898بولندا، رومانيا، الشرق الأوسط
الموجة الخامسة1932-1939224,784ألمانيا، أوروبا الغربية، بولندا
الموجة السادسة1940-1948118,300وسط أوروبا، البلقان، بولندا، الشرق الأوسط
الإجمالي1880-1948516,082 

 

– المصدر: السهلي، نبيل (2004). فلسطين.. أرض وشعب: منذ مؤتمر بال وحتى 2002. دمشق: اتحاد الكتاب العربي (ص. 28).

ومثلما أقدم القائد شيفنغتون على قتل الهنود الحمر، قامت عصابات الهجانا اليهودية المسلحة بالقضاء على 400 فلسطينياً بدم بارد في مذبحة اللد في عام 1948، كما أجهزت جماعات شبه عسكرية أخرى مدفوعة من المؤسسة الرسمية على حياة ما بين 500 إلى 1600 مدنياً مسالماً في مذبحة عرفت بخان يونس وذلك في عام 1965، أما المذبحة الأكبر التي أدارها الجيش الإسرائيلي بنفسه وبالاشتراك مع المتعاونين معه مباشرة فكانت في مخيم صبرا وشاتيلا حيث تم إبادة حوالي 3000 فلسطينياً غالبتهم من الأطفال والنساء في غضون 48 ساعة فقط (عزام، 2014).

أما على صعيد هدم منازل المواطنين والاستيلاء على الأراضي بالقوة فقد استحوذت إسرائيل على الأراضي الفلسطينية تباعاً وبشكل متواصل دون مراعاة للقانون الدولي أو قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، وبغض النظر عن تباين البيانات بشأن الأصول والمنشآت والممتلكات التي صادرتها السلطات الإسرائيلية من مرجع لآخر.

وقد لا يكون من أهداف هذه الدراسة حصر جميع عمليات الاستيلاء على الأرض بشكل دقيق، غير أن الإشارة إليها تكشف فداحة الجريمة بما يخدم المقاربة مع حالة الهنود الحمر في أمريكا الشمالية، إذ يمكن القول باستحواذ اليهود بصفة شخصية أو رسمية على حوالي 77% من الأراضي الفلسطينية الواقعة تحت الانتداب وذلك في أعقاب عام 1948، في حين أنهم لم يتملكوا أكثر من 6.59% منها قبل ذلك التاريخ، حيث شهدت عمليات الاستحواذ هذه طرد وتشريد ما يقارب 726 ألف مواطن فلسطيني خلال عامي 1947-1948 فقط (فيشباخ، 2013، ص. 4)، كما يقدر إجمالي ضحايا التهجير الجماعي بين صفوف الفلسطينيين أو تشتيتهم على مدى تاريخ الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني أكثر من 5,489 مليون نسمة، استقر منهم قرابة 1,5 مليون في قطاع غزة والضفة الغربية بينما تفرق البقية على الدول العربية والعديد من دول العالم، مما يرفع المجموع الإجمالي للسكان الفلسطينيين إلى حوالي 8,300 مليون نسمة تقريباً ليتجاوز نسبة اللاجئين منهم حدود الـ 65% (أبو ستة، 2004).

كما تختلف المصادر بشأن عدد القرى والمدن الفلسطينية التي تم تدميرها وطرد سكانها الأصليين منها، إلا أن التقديرات الإحصائية تحصر ذلك ما بين 360 قرية بحسب المصادر الإسرائيلية مقابل 429 موقعاً وفقاً للمرجعيات الدولية والفلسطينية (فيشباخ، 2013، ص. 16)، وتأسيساً على نظرية العودة فقد استوطن في العديد من هذه المناطق المغتصبة ما بين 123,669 إلى 393,179 مهاجراً يهودياً خلال الفترة الممتدة بين عامي 1948 إلى 1952 (فيشباخ، 2013، ص. 24).

ومن غرائب الاحتلال والاستحواذ استمرار وجود حوالي 250 ألف لاجئ فلسطيني في مناطق خاضعة لسيطرة السلطة الإسرائيلية، لا يستطيعون العودة لأراضيهم رغم إعطائهم الوعود بالعودة إلى ديارهم خلال أسبوعين منذ عام 1948 (أبو ستة، 2004)، وعلى الرغم من أنهم قد حصلوا على أحكام قضائية تسمح لهم بذلك إلا أنهم لا يزالون لاجئين محتجزين لما يربو على نصف قرن من الزمن في ظروف مشابهة لما عانته العديد من قبائل الهنود الحمر وفق ما تم عرضه في القسم السابق من هذه الدراسة.

  1. التصفية والاستيلاء عبر المسوغات الدينية والقانونية:

ليست هناك أية اختلافات أيديولوجية جوهرية بين عقيدة الإبادة التي تبنتها عقلية التفوق العرقي تجاه الهنود الحمر قبل أكثر من أربعمائة سنة والمنطلقات الفكرية لما يواجهه الفلسطينيون منذ عام 1948، فهذه العقلية المشتركة متصلة عضوياً وتاريخياً في بوتقة واحدة عنوانها البقاء للأقوى.

وعلى الرغم من بُعد علاقة هذه العقيدة بالديانتين المسيحية واليهودية، إلا أنه تم توظيف تفسيرات لاهوتية لبعض مبادئهما الطقسية من أجل بلوغ غاية سياسية محددة تتمثل في تصفية الآخر تنفيذاً لمنظور الغاية تبرر الوسيلة، ومثلما برّر المتطهرون الأوائل وهم 102 شخصاً ممن عبروا المحيط الأطلسي على ظهر السفينة الميفلاور (Mayflower) عام 1620 توظيف مفهوم “مدينة على جبل” باعتبار أمريكا الجديدة أرضاً الميعاد، فقد تم تبرير إقامة الكيان الصهيوني على أرض الميعاد الجديدة في فلسطين.

في الواقع، كانت الحملة الصليبية الأولى تنبئ بهذا الربط العضوي بين الطرفين الصهيوني من جهة والأنجلو ساكسوني من جهة أخرى وذلك باسم الديانتين المسيحية واليهودية قبل أن يعبر المتطهرون الأوائل المحيط الأطلسي وقبل مجيئ المهاجرون المستوطنون اليهود من الشتات إلى فلسطين، حيث تنضح هذه الحقيقة الدموية الملازمة للتعصب أينما كان في كتاب القسيس فوشيه الشارتري (Foucher de Chartres) المعنون “تاريخ الحملة إلى القدس” والذي صاحب الحملة الصليبية الأولى ما بين عامي 1095-1127، فقد أشار في حديثه عن الحملة لبيت المقدس بأن البابا أربان الثاني الذي دعا لتلك الحملة كان يحفز الملوك والقساوسة بالقول (الشارتري، 2001):

ومن ثم فأنني وبصلاة خاشعة أحثكم، بل أن الرب هو الذي يحثكم، بصفتكم قساوسة المسيح أن تحضوا الناس من شتى الطبقات، من الفرسان ومن الجنود المشاة، أغنياء وفقراء، بأن يسارعوا لاستئصال شأفة هذا الجنس (يقصد المسلمين في القدس) الشرير من أرضنا وأن تساعدوا السكان المسيحيين قبل فوات الأوان…. يا له من عار إذا قام جنس خسيس مثل هذا، جنس منحل تستعبده الشياطين، بهزيمة شعب يتحلى بإيمان عظيم الرب، ويزهو ويتألق باسم المسيح (ص. 84-85)

وفي وصف رهيب للمجازر التي ارتكبها الصليبين في فلسطين أضاف الشارتري (2001):

وكثيرون من المسلمين الذين تسلقوا قمة معبد سليمان هاربين أصابتهم السهام في مقتل فسقطوا من فوق السقف، وتم ذبح حوالي عشرة آلاف في المعبد، ولو كنت موجوداً هناك لغاصت قدماك حتى العقبين في دماء المذبوحين، ترى ماذا أقول؟ إننا لم نترك أحداً منهم على قيد الحياة ولم ينج حتى النساء والأطفال…. كم سيكون المنظر مدهشاً لو إنك رأيت فرساننا ومشاتنا، بعد أن اكتشفوا خداع المسلمين، فشقوا بطون الذين ذبحوهم لكي يستخرجوا من المعدة والأمعاء العملات الذهبية التي كان المسلمون قد ابتلعوها وهم أحياء، ولنفس السبب قام رجالنا بعد أيام قليلة بجمع كومة من الجثث وأحرقوها حتى صارت رماداً بحيث يمكنهم أن يجدوا الذهب الذي ذكرنا خبره بسهولة (ص. 137)

من مثل هذه النصوص وغيرها تتبين تأثيرات أسطورة العودة أو أرض المعاد والتمهيد للمسيح بجلاء، حيث تم توظيفها من أجل غايات سياسية مدروسة بعناية، كما تعكس هذه المقتطفات اللاهوتية المهجنة سياسياً مدى الرغبة والقدرة على الفتك بالآخر وسلبه كل ما يملك من مال وأرض وشرف من أجل تلك النهايات التي يتم تلبيسها بأغطية دينية خيالية لا وجود لها إلا في عقول المتعصبين لكنها تطغي بشعبيتها الهوجاء حينما يقرر السياسيين ذلك.

وقد ذكر محمد الدبش في هذا السياق أن مصطلح “مدينة على جبل” (City Upon the Hill) أسطورة تأسست عليها الثقافة الأمريكية وتعود إلى منتصف القرن السابع عشر عندما أخبر جون وينثروب (John Winthrop) مجموعة من البروتستانت البيوريتانيين (التطهريين) الذين كان يقودهم إلى العالم الجديد بأنهم في رحلة “لم يباركها الرب فحسب، بل إنه يشارك فيها”، وأضاف: “إننا سنجد رب إسرائيل بيننا عندما سيتمكن العشرة منا من منازلة ألف من أعدائنا، وعندها سيعطينا مجده وأبهته، وعندها يتوجب علينا أن نجعل من نيو إنغلاند (New England) مدينة على جبل” (الدبش، 2017).

يقابل جون وينثروب على الطرف الآخر وليام بلاكستون (William Blackstone)، وهو من أبرز الشخصيات الأمريكية الوثيقة الصلة بالكنيسة البروتستانتية والداعمة لفكرة عودة اليهود إلى فلسطين كمتطلب ضرورة لتمهيد عودة المسيح، فعمل جاهداً من أجل فكرة استيطان اليهود في فلسطين حيث أصدر كتاباً بعنوان “عيسى قادم” الذي ذاع صيته بين السياسيين والقساوسة في الولايات المتحدة، كما أنه تواصل مع الرئيس بنيامين هاريسون (Benjamin Harrison) لإقناعه بضرورة دعم فكرته (عناب، 2001، ص. 30).

لقد أصبحت فكرة مدينة صهيون أو أرض الميعاد تراود الحلم الأمريكي الذي ما لبث أن يراه يتحقق على يد آرثر بلفور (Arthur Belfour)، فتمحور على الفور بشكل عملي لتحويل الأسطورة من كونها مجرد خياليات تفسيرية إلى تطبيق لما ورد في الكتاب المقدس لأرض أورشليم التي يمتلكها اليهود وفقاً لنصوص مبتورة ومشوهة، ولم يكن ذلك التحول مجرد استغناء عن الفكرة القديمة حول “مدينة على جبل” بل امتداداً جغرافياً بين هذه المدينة إلى القدس من أجل بسط السيطرة الزمانية والمكانية السياسية عليها بغلاف ديني.

واستناداً إلى المقاربة الزمانية والمكانية “الزمكانية”، انتشرت العديد من المؤسسات المتطرفة عرقياً ودينياً من الغرب الأمريكي إلى شرقها تحت غطاء من الهيئات المدنية غير الحكومية التي تحظى بنشاط شعبي موسع وبحضور سياسي فاعل وضاغط على الإدارة الأمريكية (زكاء الله، 2007، ص. 107-112)، ولعل في طليعة تلك المنظمات مؤسسة الأغلبية الأخلاقية ومقرها واشنطن ومنظمة اتحاد الحرية التابعتين إلى كنيسة شارع توماس المعمدانية التي يترأسها جيري فولويل (Jerry Falwell).

يتمتع جيري فولويل بنشاطات دينية واسعة حيث قام بتأسيس شبكة مؤسسات كبيرة ومتنوعة الاختصاصات كالمدارس الابتدائية والثانوية وجامعة الحرية (Liberty University)، وشركة طيران باسم خطوط الرب الجوية (The Lords Airline)، وبرامج إعلامية منها برنامج ساعة من إنجيل الماضي التليفزيوني (Old-Time Gospel Hour)، ويضاف إلى ذلك حلقات جيري فولويل على الهواء الإذاعية وغيرها من برامج كثيرة تمتد إلى 392 محطة مرئية علاوة على إصدار الكثير من المطبوعات كالرسائل الخاصة التي تربو على 100 مليون رسالة يبعث بها سنوياً.

من جانب آخر، يشرف فولويل على إصدار تقرير الأغلبية الأخلاقية الشهري الذي يبلغ عدد المشتركين به أكثر من مليونين ونصف أغلبهم من السياسيين ورجال الأعمال وغيرهم من النشطاء على الساحة الإعلامية والاجتماعية، كما يتحرك علناً في دعم إرهاب الدولة في إسرائيل لدرجة الرذيلة السياسية أحياناً وإن تعارضت مع السياسة المعلنة للولايات المتحدة الأمريكية، فعندما قامت القوات الإسرائيلية بقتل المدنيين اللبنانيين في يوليو 1981 وراح نتيجة ذلك نحو 200 من المدنيين أعلن فولويل مباركته لرئيس الوزراء مناحيم بيغن وتشجيعه لما وصفه بإبهاج روحه لارتكاب تلك المذابح، بل أن تماديه جعله يقر ذات مرة بأنه صهيوني وأن حدود إسرائيل يجب أن تمتد إلى كل الأرض الموعودة بما في ذلك سوريا وتركيا والسعودية والعراق ومصر والسودان ولبنان والأردن وحتى الكويت، ولم يخفي فولويل ابتهاجه وفخره بذلك القتل بل باركه من خلال برنامجه ساعة من الإنجيل في عام 1982 بعيد الغزو الإسرائيلي للبنان، ودعا في سبيل تحقيق ذلك إلى جمع التبرعات دعماً للكيان الصهيوني لأغراض كثيرة منها تأسيس بعض المنظمات المتطرفة مثل اليمين الإسرائيلي الجديد بقيادة أفيغدور إسكين (Avigdor Eskin)، المتطرف الصهيوني من أصل روسي الذي يحرض على قتل جميع العرب والمسلمين ونفيهم من أراضيهم وهدم منازلهم.

ويبلغ دعم الإرهاب ذروته في نشاطات بات روبنسون (Pat Robinson)، ذلك القس الشهير في الولايات المتحدة، الذي يمتلك أحد أكبر محطات الإعلام باسم شبكة الإذاعة المسيحية (Christian Broadcasting Network, CBN)، ويعلن روبنسون خلال برامجه المشهور نادي السبعمائة (700 Club) بأن إسرائيل هي أمة الله المفضلة ويؤيد احتلالها للأراضي العربية على الرغم من معارضة بلاده لذلك رسمياً، ولم يتردد روبسون إطلاقاً في تأييد كل ما تقوم به إسرائيل ضد الفلسطينيين لأنها إرادة الرب بالنسبة له، بل أنه طغى في تماديه حينما قام بامتلاك وإدارة قناة تلفزيونية بالجنوب اللبناني المحتل وأطلق عليها اسم نجمة الأمل، داعياً الحكومة الأمريكية بشكل صريح ومباشر إلى دعم إسرائيل وتشجيعها لمواصلة غزوها للبنان إلى الحد الذي تراه ضرورياً لأمنها، إذ يرى روبسون في سياق تحليله للغزو الصهيوني أنه نقطة تحول لإلحاق الهزيمة بيأجوج (روسيا) ومأجوج (العرب)، كما لا يخفي دعمه المالي الكبير للكيان الصهيوني في بناء المستعمرات ونفي العرب من ما يحصل عليه من ريع التبرعات الخيرية في الولايات المتحدة (الحسن، 1990، ص. 170).

أيضاً، تعد رعوية المغامرة الكبرى (High Adventure Ministry) في الولايات المتحدة الأمريكية التي أسسها الكهنوتي المعروف جورج أوتيس سميث (George Otis Smith) مثالاً آخر على تجسيد الالتزام بأمن الكيان الصهيوني تأسيساً على ما تزعمه من تنبؤات توراتية، فقد أنشأت الرعوية بدورها إذاعة صوت الأمل على الأراضي اللبنانية في الجنوب إبان الاحتلال الإسرائيلي لترويج الدعاية للصهاينة وسب المسلمين ودينهم في المقابل وذلك من خلال التبرعات المعفاة من دافعي الضرائب الأمريكيين، كما قامت هذه المنظمة بافتتاح محطة تلفزة بالجنوب اللبناني أسمتها بمحطة الشرق الأوسط، بل أقدمت بإصرار على إعادة بناء المحطة المذكورة مجدداً بعدما استهدفتها المقاومة اللبنانية ونسفت مبانيها وتم توظيف حوالي مائة أصولي أمريكي فيها تعبيراً عن دعمها الإعلامي لصالح الكيان الصهيوني.

في هذا السياق تبرز إحدى القواسم المشتركة الجديدة مع الحالة اليهودية وعقيدة الرجل الأبيض تجاه الهنود الحمر، حيث صنفت عملية تفجير المحطة التلفزيونية الدعائية لإسرائيل من قبل المقاومة اللبنانية بالعمل الإرهابي مثلما كان يتم وصف أنشطة مقاومة الهنود الحمر للاحتلال والانتهاكات التي قام بها المهاجرون الأوائل والبريطانيون والأمريكيون بعد إعلان استقلال دولتهم.

أما ما يسمى بالسفارة المسيحية الدولية – القدس التي تأسست عام 1980، فتكفي الإشارة أنها تأتي في صدارة المنظمات الدينية الأمريكية المحرضة جهاراً على الاحتلال الكامل للقدس، وإلى جانب جمعها للأموال الداعمة للإرهاب قامت تلك السفارة بحملة واسعة للتبرع بالدم دعماً للجيش الإسرائيلي خلال اجتياحه للبنان وقتله المدنيين الأبرياء، وذلك إبرازاً للبعد العقائدي في الصراع الإسرائيلي العربي.

وعلى العكس من إدانة الحكومة الأمريكية لهذه النشاطات الداعمة للإرهاب قام الكونغرس مرات عديدة بدعوة أعضاء هذه المنظمة بصفتهم إلى جلسات استماع للاستفادة من رأيهم فيما يتعلق بالصراع العربي-الصهيوني، كما تقوم هذه المنظمة بترتيب زيارات ميدانية لنشطاء أصوليين مسيحيين إلى المستوطنات في الأراضي المحتلة كالضفة الغربية وقطاع غزة لإقناعهم بأهمية التوسع الصهيوني من خلال تبرعاتهم التي ستمهد لظهور المسيح (ع)، حيث قامت فعلياً بإنشاء صندوق دولي برأس مال يبلغ مائة مليون دولار للاستثمار داخل إسرائيل على أن يعطي أولوياته للثقافة والسياحة، والأهم من ذلك المساهمة المباشرة في بناء المستوطنات التي تعتبر ضرباً من ضروب الإرهاب الرسمي المقنن والمبرمج والمنظور أمام وسائل الاعلام العالمية، وذلك على عكس ما كان عليه الوضع إبان الفتك بالهنود الحمر حيث تم تصويرها لاحقاً عبر أفلام الهوليوود.

وتستمر قائمة الأمثلة لتشمل مؤسسة جبل المعبد ذات الفروع واللجان العنكبوتية الكثيرة التي تشترك في نفس نشاطات سابقاتها، إلا أنها تتفرد عنهم بالدفاع المستميت عن المعتقلين الصهاينة الذين أتلفوا المسجد الأقصى باعتبارهم “أبناء إسرائيل المخلصين” وبتمويل مباشر من كبار الرأسماليين ممن تخصص تبرعاتهم السنوية بالملايين لدعم أعمال الصهاينة وممارستهم الإجرامية في تخريب المعالم والآثار الإسلامية وتشريد الآلاف من العوائل وانتزاع الأشجار وإهلاك الحرث والنسل، وتسهيلاً للانسياب الحر للتبرعات فقد تأسس المصرف المسيحي- الأمريكي لأجل إسرائيل كوسيط مالي لنقل التبرعات وشراء الأراضي وبناء المستوطنات، وقد جمعت المنظمة في عام 1984 حوالي مائة مليون دولار لبناء مستوطنات في منظمة الجليل علاوة على الملايين الأخرى لتهديد الأراضي المحتلة بما في ذلك الضفة الغربية.

ولولا مقتضيات الاختصار لكانت الأمثلة أكثر لتشمل منظمة المائدة المستديرة الدينية التي يترأسها القس إدوارد ماك أتير، ومؤتمر القيادة المسيحية الوطنية لأجل إسرائيل التي أسسها الأصولي الصهيوني فرانكلين ليتيل، ومنظمة مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل بقيادة القس الكاثوليكي ديفيد لويس، إضافة إلى العديد من الشخصيات والمؤسسات الإعلامية وحتى الأكاديمية والبحثية التي تدعو علناً لدعم الكيان الصهيوني وتشجع أعماله الإرهابية ضد الأبرياء في الأراضي المحتلة ولبنان وغيرهما من الدول العربية، وإن كانت تلك الأعمال مدانة من قبل الحكومة الأمريكية نفسها أو حتى السلطة الإسرائيلية ظاهرياً (الحسن، 1990، ص. 43-50).

كما يتعين معرفة أنه لا خلاف بين الثقافة السياسية التي تتبناها المؤسسات والشخصيات الأمريكية غير الحكومية مثلما تمت الإشارة إليه مع التوجهات الرسمية للحكومة الأمريكية متمثلة في معظم الرؤساء الذين توالوا على كرسي البيت الأبيض منذ إعلان قيام دولة الولايات المتحدة الأمريكية، وفي هذا الصدد شرح يوسف حداد (2004) في مؤلفه “هل لليهود حق ديني أو تاريخي في فلسطين” كيف تعاطف رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية منذ الرئيس جورج واشنطن (1789-1797) وحتى الرئيس بيل كلينتون (1992-2000) مع اليهود بدءً بحقهم في إقامة دولتهم المستقلة مروراً بمباركة قيامها رسمياً عام 1948 من جانب واحد وانتهاءً بالالتزام الاستراتيجي بالدفاع عن أمنها ووجودها في إطار المصلحة القومية الأمريكية في مقابل تجاهل الحقوق الفلسطينية القانونية والسياسية والأخلاقية، مبيناً أن الرئيس الثاني للولايات المتحدة، جون آدمز (1797-1801) (John Adams) كان من أوائل من دعا بصراحة تامة إلى إقامة دولة مستقلة لليهود حينما كتب رسالة لصحفي صهيوني يدعى مانويل نوح قائلاً: “أتمنى أن أرى ثانية أمة يهودية مستقلة في يهوذا” في إشارة إلى مملكة يهوذا المزعوم موقعها ضمن ما يعرف بالأراضي الفلسطينية اليوم وفقاً للتاريخ اليهودي المشكوك في صحته (حداد، 2004، ص. 395)، وذلك دلالة واضحة على رسوخ مسألة العودة لاحتلال فلسطين في عقلية النخبة الحاكمة التي كانت قائمة على أسس دينية وعقائدية بالتزامن مع نكران مجرد رقصة طقسية للهنود الحمر ومعاقبتهم عليها لأنها تدعو لذات الحق.

كما استشهد تقرير موقع عرب 48 بما ذكره الرئيس الأمريكي توماس وودرو ويلسون (1913-1921) (Woodrow Wilson) قبل أشهر من وعد بلفور في عام 1917، والذي أعلن من خلاله دعم بريطانيا لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين انطلاقاً من “حق كل شخص في اختيار السيادة التي يحيا في ظلها” بمثابة الضوء الأخضر لقيام الدولة اليهودية، مؤكداً في خطابه أمام الكونغرس في فبراير 1918 بأنه “يجب احترام التطلعات الوطنية وأن يتم حكم الشعوب بموافقتهم (موقع عرب 48، نوفمبر 08، 2016).

ومن الغريب أن يأتي هذا التحول السياسي المأدلج دينياً في الدعم المطلق للدولة اليهودية وتبرير كل مظاهر التنكيل والإبادة بحق الشعب الأصيل على أرضها ليصل إلى الحد بلغه دونالد ترامب في الاعتراف رسمياً وعملياً بالقدس كعاصمة لإسرائيل ومنحها المزيد من الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد التحذيرات المبكرة للرؤساء الأمريكيون الأوائل من مخاطر الهيمنة اليهودية على الحياة الأمريكية، وكان على رأس هؤلاء الرئيس جورج واشنطن (1789-1797) الذي قال عن اليهود في عام 1788 (أبو علم، 2014):

“أن اليهود يعملون ضدنا بسلاح أمضى من سلاح جيوش الأعداء، أنهم أخطر من هذه الجيوش مائة مرة على حريتنا، وعلى قضيتنا الكبرى التي ندافع عنها جميعاً، ومن المؤسف أن ولاياتنا لم تطردهم منذ زمن بعيد، كما تطرد أوبئة المجتمع الفتاكة، وذلك لأنهم ألدّ أعداء السعادة والحياة الذين عرفتهم أمريكا (ص. 117)

كما عبّر الزعيم الأمريكي بنيامين فرانكلين (Benjamin Franklin) الذي يعد من أهم وأبرز مؤسسي الولايات المتحدة الأمريكية (1706-1790) عن عدة مواقف متشددة تجاه اليهود وإن طالها التشكيك، إذا ينسب أنه خاطب مؤتمر إعلان الدستور الأمريكي في فيلادلفيا عام 1789 قائلاً (موقع صحيفة البيان الإماراتية، نوفمبر 25، 2000):

هناك خطر عظيم يهدد الولايات المتحدة الأمريكية، ذلك هو الخطر اليهودي.. حيثما استقر اليهود نجدهم يوهنون من عزيمة الشعب، ويزعزعون الخلق التجاري الشريف، إنهم يكونون حكومة داخل الحكومة، وحينما يجدون معارضة من أحد، فأنهم يعملون على خنق الأمة مالياً.. منذ 1700 سنة وهم يندبون مصيرهم.. لا لشيء إلا لادعائهم أنهم طردوا من الوطن الأم (فلسطين).. إذا لم يمنع اليهود من الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية بموجب الدستور، ففي أقل من 100 سنة سوف يتدفقون على البلاد بأعداد ضخمة كالجراد تجعلهم يحكموننا ويدمروننا، وإذا لم يمنع اليهود من الهجرة فإنه لن تمضي أكثر من 200 سنة ليصبح أبناؤنا عمالاً في الحقول لتوفير الغذاء لليهود الذين سيجلسون في البيوت المالية مرفهين يفركون أيديهم في غبطة

وقد أبدى بعض المسؤولين الأمريكيين المعاصرين امتعاضهم من وجود مؤامرات يهودية خطيرة على أمريكا ومنهم رئيس الأركان السابق الجنرال جورج براون الذي اتهم اليهود وإسرائيل بممارسة النفوذ الضاغط في الولايات المتحدة بسبب سيطرتهم على مصادر الإعلام، كما قال السيناتور ميرفن دايمالي “أنني لو كنت عضواً في الكنيست لتوفرت لي حرية نقد إسرائيل أكثر مما تتوفر لي الآن كعضو في الكونجرس”، وبدوره حذر وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر من انهيار عملية التسوية في الشرق الأوسط وفقدان الولايات المتحدة مصداقيتها نتيجة محاباة الإدارة المفرطة لإسرائيل على حساب المصالح الأمريكية وهيمنة حسابات الانتخابات الرئاسية على السياسة الخارجية (موقع صحيفة البيان الإماراتية، نوفمبر 25، 2000).

كما برزت مؤخراً في عدد من مراكز الدراسات السياسية والاستراتيجية الأمريكية تساؤلات عديدة حول جدوى الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل وما هو المطلوب من الولايات المتحدة لضمان أمنها: هل إسرائيل في حدود التقسيم الدولي عام 1949 أم إسرائيل بعد عدوانها عام 1967 أم حدود إسرائيل الكبرى التي يطالب بها حزب الليكود من النيل الى الفرات؟ وما هي المساعدة الاستراتيجية التي يمكن أن تقدمها إسرائيل للولايات المتحدة في المقابل إذا ما نشب صراع دولي في منطقة الشرق الأوسط بعد أن أثبتت حرب الخليج الثانية أن اسرائيل كانت عبئاً على الاستراتيجية الأمريكية وليست عونا لها؟ إلى جانب التساؤلات عن سلبيات أخرى تعاني منها الولايات المتحدة كعمليات التجسس التي تمارسها إسرائيل ضد الأمن الأمريكي والتي انعكست في قضية سفير أمريكا في إسرائيل مارتن أنديك، والسفير الأمريكي في البحرين رونالد نيومان، ومن قبلهما رئيس المخابرات المركزية الأمريكية جون دويتش وجوناثان بولارد الضابط بالمخابرات البحرية الأمريكية، ناهيك عن الانتهاكات الإسرائيلية للقوانين الأمريكية ببيعها معدات وأسلحة أمريكية متطورة كنظام باتريوت الصاروخي ونظام الإنذار المبكر الطائر (فالكون) للصين، ولعل غير ذلك من المواقف التي تبقى في إطار محدود إعلامياً وسياسياً، ولا تتمكن من مجاراة الانحياز الواضح لكبريات مؤسسات القرار والنخب السياسية الأمريكية للجانب اليهودي بكل ما تحمله أيديولوجيته القائمة على العنصرية وممارساتها القمعية، والتي اختزل سرها حاخام ولاية نيويورك مردخاي واكسام قائلاً (موقع صحيفة البيان الإماراتية، نوفمبر 25، 2000):

ليست هناك مؤامرة بقدر ما هناك عمل جاد ودعم مالي جبار من كل يهود العالم للمرشح الأمريكي للرئاسة الذي يدعم قضايا اليهود، ويتبنى أفكارهم، حتى لو لم يكن شخصياً مقتنعاً بتلك القضايا والأفكار

ولذلك، فأن المقاربة المنظمة للتصفية الجسدية في الحالة الفلسطينية يكون جائزاً كما كانت مبررة حالة القضاء على الهنود الحمر طالما أنها تقوم على تلك المزاعم التي كونت الثقافة السياسية والمنهج السلوكي لمعظم رؤساء الولايات المتحدة وصناع القرار في مؤسسات العليا منذ نشأت الدولة الأمريكية، وليس مستغرباً جداً الدعم الأمريكي الواسع للكيان الصهيوني في مشاريعه الاستيطانية وبكافة الوسائل المتاحة لكونها تمثل ببساطة تجربة زمانية جديدة في مكان آخر، فقد كانت عقيدة الإبادة والتصفية بحق المواطنين الفلسطينيين التي باركتها الحكومات الأمريكية المتعاقبة منذ بداياتها راسخة في العقلية اليهودية قبل أن تتخذ المؤسسة الحاكمة في إسرائيل إجراءاتها على أرض الواقع بعيد الهجرة الكبيرة التي حدثت بين عامي 1947-1948.

كما برزت خلال تاريخ الاستحواذ الصهيوني للأراضي الفلسطينية والعربية وتشريد شعوبها شخصيات لا يمكن تجاوزها كونها تجسد تلك العقيدة الاستعلائية، حيث لعبت تلك النخبة دوراً أيديولوجياً وعملياً في برمجة فلسفة الاستحواذ والاستيلاء، فبالإضافة إلى بن غوريون وجولدا مائير وموشى ديان واسحق شامير وشمعون بيريز وأرييل شارون وبنيامين نتنياهو، تواجد خلف المسرح رموز ربما لا يعرفها العامة من الناس ممن كان لهم دور كبير في هذا التاريخ الأسود.

ومن بين هؤلاء يوسف وتيز (Yosef Weitz) الذي وفد إلى أرض فلسطين سنة 1908 مهاجراً إليها من روسيا وعمل فيما يسمى بالصندوق القومي اليهودي الذي أسسته المنظمة الصهيونية العالمية في عام 1918، حيث قام أيضاً بتنفيذ متبنياته العقائدية للاستحواذ على أراضي الفلسطينيين تزامناً مع تصريحاته المعلنة والمتكررة حول خططه المستقبلية في هذا الشأن، ومن أخطرها حق الاستحواذ لأراضي الفلسطينيين، إذ قال ذات مرة “يجب أن يكون واضحاً لنا أنه لا يوجد في فلسطين مكان لهذين الشعبين” (فيشباخ، 2013، ص. 20)، وأضاف في مكان آخر “أن الكفاح من أجل الأرض.. يعني ببساطة ما يلي: تحرير الأرض من أيدي الغرباء ومن براثن الإهمال، وهو كفاح من أجل إعمارها بالمستوطنات” (فيشباخ، 2013، ص. 94)، وليس غريباً أن يتشابه هذا الصندوق بنظيره الذي أسسته الحكومة الأمريكية في عام 1818 باسم صندوق التمدين كما تمت الإشارة إليه سابقاً.

لقد كان وتيز يمازج بين الواقعية السياسية التي تعنى فرض الواقع لدى السياسيين الإسرائيليين مع القواعد والمباني العقائدية لإضفاء الصفة الدينية والشرعية عليها، فعلى سبيل المثال عندما صرح وزير خارجية الحكومة الإسرائيلية المؤقتة موشيه شرتوك في عام 1948 عن الفرصة التاريخية لتشريد الفلسطينيين قائلاً “لن تتكرر الفرص التي يتيحها الوضع الحالي (فرار اللاجئين) للوصول إلى حل دائم وجذري لأصعب مشكلة في الدولة اليهودية وهي فرصة تحبس الأنفاس”، أجابه وتيز من على الضفة الأخرى بالقول (فيشباخ، 2013):

في البداية علينا أن نعترف بأن فرار العرب كان خطوة إيجابية، إنه معجزة تساوى في عظمتها الخروج من مصر، لا أستطيع أن أتخيل كيف كنا سنتمكن من بناء الدولة وتوفير الاستقرار فيها لو بقي العرب…. لقد جاء فرارهم هدية من السماء، وعلينا ألا نقلل من قيمته (ص. 21)

كما انتهى وتيز في مذكراته حول ما سماه بفرار اللاجئين الفلسطينيين أنه “يمثل ثورة كاملة، وإن الدولة عازمة على مصادرة أراضيهم، وأنه سيعمل على تحقيق ذلك عندما يكون القتال دائراً” (فيشباخ، 2013، ص. 20)، ولا شك من أن أحلامه قد تحققت حتى لو عارضت الحكومة الإسرائيلية توجهاته المتعصبة تكتيكياً.

ففي عام 1948 وخلال ذروة التهجير القسري، اقترح ويتز ما سماه بـ “لجنة الترحيل” التي تمنع إسرائيل بمقتضاها الفلسطينيين من حق العودة لأراضيهم التي فروا منها، ولكنه لم يحصل على الموافقة الرسمية رغم قبول بن غوريون الشخصي للفكرة، وعلى الرغم من أن الأخير لم يتحمس لتوجهات ويتز التعصبية لتدمير المزيد من القرى، إلا أن ويتز أسس تلك اللجنة بمعية عدد من المساعدين الخبراء بالأراضي العربية فشرع في تدمير ثمانية قرى فلسطينية من خلال لجنته الخاصة، في إجراء مشابه لرحلة الدموع سالفة الذكر التي قام بها الأمريكيون لتهجير المواطنتين الأصليين قسراً، وشملت قرى المغار، فجة، بيار عدس، بيت دجن، مسكة، السميرية، صبارين، والبطيمات (فيشباخ، 2013، ص. 26-28).

أما على صعيد المسوغات القانونية، فقد توالت عمليات الاستيلاء والاستحواذ والضم بشكل حثيث وعلى عدة مراحل بغطاء من منظومة قانونية مشابه لنظريتها الأمريكية سالفة الذكر، كما هو مبين في الجدول (7)، كما شرَّعت السلطة الإسرائيلية مجموعة كبيرة ومعقدة ومتداخلة من القوانين التي ساهمت في محصلتها النهائية على انتزاع الأراضي الفلسطينية.

وقد بدأت الحكومة الإسرائيلية في مستهل عهدها بتبني مجموعة من القوانين التي أقرتها قوى الانتداب البريطانية كمرحلة انتقالية كونها تمثل قاعدة التجريد من الحقوق الفلسطينية وفقاً لوعد بلفور (شاهين، 2016)، وشملت تلك التشريعات قانون أراضي الموات لسنة 1921، قانون الغابات لسنة 1926، قانون تسوية الأراضي لسنة 1928، قانون الأراضي – الاستملاك للمنفعة العامة لسنة 1943، وقانون أنظمة الطوارئ لسنة 1945، كما قامت حكومة الاحتلال بإضافة تشريعات جديدة وتعديل ما سبقها بما يتلاءم مع المرحلة الجديدة، خاصة في فترة تأسيس الدولة ما بين عامي 1948-1951، ومن أهم القوانين التي تم إقرارها من أجل استكمال الاستيلاء على أراضي المواطنين الأصليين قانون الأملاك المتروكة لعام 1948، قانون المناطق المتروكة لعام 1948، قانون أنظمة الطوارئ لعام 1948، قانون أنظمة الطوارئ (أو قانون أملاك الغائبين) لعام 1948، قانون أنظمة الطوارئ (زراعة الأراضي البور) لعام 1949، قانون أموال الغائبين لعام 1950، وقانون سلطة التعمير والإنشاء لعام 1950.

وبطبيعة الحال استمرت الدولة اليهودية في سن حزمة تشريعات إضافية بعد احتلالها للقدس عام 1967 كمدخل قانوني لضمها بشكل كلي (عناب، 2001، ص. 69-80)، ومن أمثلة ذلك قانون ضمن القدس إدارياً وقضائياً لسنة 1967، قانون التنظيمات القضائية والإدارية لسنة 1967، قانون الإشراف على التعليم لسنة 1967، قانون أملاك الغائبين لسنة 1967، قانون أراضي الدولة المسجلة لعام 1967، قانون استرجاع اليهود لعقاراتهم لسنة 1968، قانون أملاك الغائبين (التعويضات) لسنة 1973، قانون ضم مدينة القدس لسنة 1980.

جاءت هذه السلسلة من القوانين وغيرها في سياق متصل لعمليات الاستيلاء المبرمجة، فمجموعة تشريعات الانتداب مثّلت قاعدة تمهيدية لبرنامج الاستيلاء ولكن وفقاً لظروف الوضع السياسي العام السائد في المنطقة خلال فترة الحربين العالميين الأولى والثانية، حيث كانت الهجرة اليهودية خلال تلك المرحلة في بدايتها، ولم يكن هؤلاء المهاجرين يشكلون رقماً سكانياً من شأنه أن يكون كياناً قادراً على شن الحروب.

ولما كان الوضع الدولي مستعراً، خاصة بين الدولة العثمانية وحليفهم الألماني من جهة والإمبراطورية البريطانية من جهة أخرى، كان لزاماً على الأخيرة التخلص من العثمانيين أولاً مما دفع بريطانيا إلى عقد التحالفات مع بعض الزعامات العربية كالشريف حسين في مكة وبقية الزعامات التي تحالف مع بريطانيا حينها، ولم يكن التصريح متاحاً بمكنون الخطة الاستعمارية لزرع الكيان الصهيوني، فاكتفت تلك القوانين بتحديد الاحداثيات لواقع جديد يتم التخطيط له، الأمر الذي دخل حيّز التنفيذ بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة.

جدول (7) التشريعات الأمريكية لتمكين الاستيلاء على الأراضي الخاضعة للقبائل الهندية والاستحواذ على ثرواتها وإلغاء هويتها (1818-2017)

التشريعاتالسنواتالأهداف
قانون “أراضي الموات”1921التمهيد لتجريد الحقوق الفلسطينية وفقاً لوعد بلفور.
قانون “الغابات”1926التمهيد لتجريد الحقوق الفلسطينية وفقاً لوعد بلفور.
قانون “تسوية الأراضي”1928التمهيد لتجريد الحقوق الفلسطينية وفقاً لوعد بلفور.
قانون “الأراضي – الاستملاك للمنفعة العامة”1943التمهيد لتجريد الحقوق الفلسطينية وفقاً لوعد بلفور.
قانون “أنظمة الطوارئ”1945التمهيد لتجريد الحقوق الفلسطينية وفقاً لوعد بلفور.
قانون “الأملاك المتروكة”1948الاستيلاء على أراضي المواطنين الأصليين.
قانون “المناطق المتروكة”1948الاستيلاء على أراضي المواطنين الأصليين.
قانون “أنظمة الطوارئ”1948الاستيلاء على أراضي المواطنين الأصليين.
قانون “أملاك الغائبين”1948الاستيلاء على أراضي المواطنين الأصليين
قانون “أنظمة الطوارئ لزراعة الأراضي البور”1949الاستيلاء على أراضي المواطنين الأصليين.
قانون “أموال الغائبين”1950الاستيلاء على أراضي المواطنين الأصليين.
قانون “سلطة التعمير والإنشاء”1950الاستيلاء على أراضي المواطنين الأصليين.
قانون “ضم القدس إدارياً وقضائياً”1967مدخل قانوني لضم القدس بشكل كلي.
قانون “التنظيمات القضائية والإدارية”1967مدخل قانوني لضم القدس بشكل كلي.
قانون “الإشراف على التعليم”1967مدخل قانوني لضم القدس بشكل كلي.
قانون “أملاك الغائبين”1967مدخل قانوني لضم القدس بشكل كلي.
قانون “استرجاع اليهود لعقاراتهم”1968مدخل قانوني لضم القدس بشكل كلي.
قانون “أراضي الدولة المسجلة”1971مدخل قانوني لضم القدس بشكل كلي.
قانون “أملاك الغائبين أو التعويضات”1973مدخل قانوني لضم القدس بشكل كلي.
قانون “ضم مدينة القدس”1980مدخل قانوني لضم القدس بشكل كلي.
قانون “المناطق المحتلة أو المناطق المتروكة1948حسم متطلبات الاستحواذ تحت مظلة القانون عملياً.
قانون “الطوارئ”1948منح وزير الزراعة صلاحية الاستيلاء على أي أرض يعتبرها لم تزرع.
قانون “أموال الغائبين”1948حق الدولة في مصادرة الأرض المتروكة بسبب غياب صاحبها.
قانون “استملاك الأراضي عبر التعويض”1953منح السلطات الحق في استدخال الأراضي وفق ما تعتبره ضرورة لأغراض التنمية والتوطين والأمن.
قانون “التنظيم”2017شرعنة جميع الاستيلاءات التي قام بها الإسرائيليون في الأراضي الفلسطينية منذ عام 1948.

 

– المصدر: من إعداد المؤلفين.

 

مكنّت حزمة القوانين تلك الحكومة الإسرائيلية من السيطرة على معظم الأراضي الفلسطينية وتأجير بعضها أو بيعها للصندوق القومي اليهودي الذي يترأسه يوسف ويتز المشار إليه آنفاً (فيشباخ، ص. 34-43)، وبذلك ينعقد وجه التشابه مجدداً في استخدام حراب القوانين في الاستيلاء على أراضي الغير بين الحالتين الأمريكية والصهيونية ضد الهنود الحمر والفلسطينيين، ففي كلتا الحالتين كان اللجوء إلى تلك التشريعات الصادرة بمهر البرلمانات المنتخبة عنصرياً كواجهة لوجه الاستيلاء والاغتصاب والسلب القبيح الذي تجلى بوضوح في التجربتين، وقد استخدمت الديمقراطية كمسحوق تجميلي لإخفاء بثور الشر المزروعة في أعماق العقلية المتعصبة والاستعلائية تحت غطاء الدولة المدنية والعلمانية من أجل تحمل المسؤولية التاريخية لتطوير الأمم انطلاقاً من قصيدة عبء الرجل الأبيض (The White Man Burden).

كما توالى إقرار المزيد من القوانين الإسرائيلية وبشكل متسارع منذ عام 2018 دون أي اعتبار للقرارات الصادرة من الأمم المتحدة وفي إطار القانون الدولي الجنائي والإنساني، فوفقاً لتقرير منظمة حقوق الإنسان لعام 2018، تحت بند أحداث فلسطين وإسرائيل، تم هدم أكثر من 381 منزلاً لمواطنين فلسطينيين وتشريد 588 منهم من أجل أن يقيم محلهم مستعمرين جدد، وأضاف التقرير بأن الفترة من الأول من يناير وحتى السادس من نوفمبر من عام 2017 شهدت مقتل 62 فلسطينياً على يد قوات الأمن الإسرائيلية، بينهم 14 طفلاً، وأصابت 3,494 آخرين على الأقل في الضفة الغربية وقطاع غزة، كما سجنت السلطات الإسرائيلية 6,154 نزيلاً على أساس أمني (منظمة حقوق الإنسان، التقرير العالمي 2018).

ومن ناحية أخرى، أفاد تقرير للأمم المتحدة لعام 2015 بأن المعلومات التي سجلتها وقدمتها مفوّضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان قد أظهرت مقتل 2,256 فلسطينياً بينهم 1,563 من المدنيين بما فيهم 538 طفلاً (ويبيسونو، تقرير الأمم المتحدة، 2015، ص. 4)، وخلص التقرير إلى تشريد أكثر من نصف مليون نسمة من الفلسطينيين وعدم وصول الخدمات الصحية والمياه لأكثر من 450 ألف منهم في وصف مأساوي للعمليات التي تقوم بها القوات الإسرائيلية بحجة البحث عن “إرهابيين”.

وفي تقرير مماثل للأمم المتحدة حول تبعات الجدار الفاصل الذي بنته إسرائيل على طول حدودها مع الأراضي الفلسطينية انتهى بالقول بأن 85% من هذا الحائط يقع في الضفة الغربية من الجانب الفلسطيني، علاوة على أنه سيعزل حوالي 9.5% من أراضيه، ويشير التقرير كذلك إلى خطورة ومأساوية الوضع الذي يتوالى على الفلسطينيين سنة بعد أخرى حيث “يتزايد تفتيت الضفة الغربية بما في ذلك القدس الشرقية بواسطة توليفة من السياسيات والممارسات تشمل على سبيل الذكر وليس الحصر: الجدار، وإنشاء مناطق التماس، ونقاط تفتيش، وتقييد تقسيم الأراضي والتخطيط، وهدم المنازل والإجلاء القسري (لا سيما في حالة جماعات البدو الموجودة في المنطقة جيم)، وسحب حقوق الإقامة، وتحويل مساحات شاسعة من الضفة الغربية إلى مناطق عسكرية مغلقة أو محميات طبيعية، وانتزاع الأراضي من أصحابها لتحويلها إلى أراضي زراعية تابعة للمستوطنين أو مناطق صناعية” (فولك، تقرير الأمم المتحدة حول حالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، 2014، ص. 11).

وفي نفس السنة شرّع الكنيست الإسرائيلي قانوناً جديداً تحت مسمى “قانون التنظيم”، وهو تشريع مشابه لقانون إعادة التنظيم الذي أقره الكونغرس الأمريكي ضد الهنود الحمر، تم بموجبه شرعنة جميع الاستيلاءات التي قام بها الإسرائيليون في الأراضي الفلسطينية دون مراعاة لحكم المحكمة الإسرائيلية العليا التي قضت بعدم شرعية ذلك القانون، فما بين عامي 2017-2018 فقط استولت إسرائيل على أراضي فلسطينية شاسعة في القدس وبنت عليها 2000 وحدة سكنية بصورة غير مشروعة، إلى جانب توفير خدمات الأمن والتعليم والإسكان لحوالي 607 ألف مستوطن يقيمون على أراضي فلسطينية مختلفة أخرى (منظمة حقوق الإنسان، التقرير العالمي 2018).

  1. التصفية عبر مسوغات عقيدة التميز العرقي (شعب الله المختار):

لم يعد بالإمكان استخدام المنهج العلمي والانثروبولوجي التقليدي القديم في تبرير سحق الغير وسلب حقوقه الإنسانية كما كان في الحالة الامريكية ضد الهنود الحمر وذلك لسببين، يتمثل أولهما في تطور العلوم الجينية والطبية التي تنسف أحجية تفوق جنس على الآخر من حيث الطبيعة البشرية الأساسية، ثانياً بفضل تنامي النظام القانوني والحقوقي الإنساني العالمي خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أصبح قبول مثل تلك المبررات صعباً أن لم يكن مستحيلاً سيما على خلفية التجربة النازية مع اليهود وغيرهم من الأجناس البشرية، وعلاوة على ما سبق فإن مسار الحقوق المدنية في الولايات المتحدة الأمريكية وموجة التحرر العالمي لشعوب العالم التي اجتاحت مجتمعات العالم الثالث صعبت البواح بالتفوق العرقي لأي من يكون، ورغم ذلك لا تزال الآلة الصهاينة تروج لفكرة التفوق من خلال عقيدة “شعب الله المختار”، ومع تباين التفسيرات الدينية اليهودية إزاء هذه المقولة بين متعصب لها وآخر منفتح إلا أن الجميع لا ينكرها كحقيقة دينية في إطار الديانة اليهودية السائدة اليوم.

لقد مثّلت هذه المقولة منصة انطلاق أيديولوجية وفكرية للكثير من الصهاينة الذين أتوا إلى فلسطين مهاجرين بقصد احتلالها، كما إنها شكّلت إطاراً جامعاً لحق العودة وسلب الآخر وتبرير الاستيطان وعملت في الوقت نفسه كمحرك عاطفي للكثير من يهود العالم الذين يدينون بالولاء أو حتى إيلاء العاطفة للكيان الصهيوني، وقد تم تثبيت تلك المقولة التمييزية فعلياً في أغلبية العقل الصهيوني، ففي استطلاع حديث أجرته صحيفة هاريتز (Haaretz) الإسرائيلية في 6 يناير 2019، أكد 56% من المستطلعين اليهود في الكيان الصهيوني أنهم يعتقدون بأنهم شعب الله المختار، بينما رفضها 32%، ولم يجب على ذلك 12% من المشاركين، كما تبين وفقاً للصحيفة أن 79% من الذين أيدوا تلك المقولة مصنفين إنهم من اليمين المتطرف (Levy, 2019).

كما بلغت عقلية التعصّب أذهان بعض المشتغلين في علوم الطب والوراثة والجينات فسعوا لإثبات تلك مقولة التميز العرقي بطريقة علمية مبتكرة، فأصدر هاري أوستر (Harry Ostrer)، أستاذ علم الوراثة في كلية ألبرت أينشتاين الطبية بجامعة نيويورك، كتاباً بعنوان “الوراثة: تاريخ جيني للشعب اليهودي”، لإثبات أن اليهود مختلفون عرقياً ولهم سمات جينية متشابه مما يمزيهم “جينياً” عن الغير (Entine, 2012)، وأدعى أوستر أن اليهود الأشكناز الذين فحص جيناتهم ينسبون إلى يهودا في فلسطين أي “أرض الميعاد”، مضيفاً أن اليهود يعدون من أذكياء العالم المميزين إذ يفوق معدل ذكائهم الآخرين بدرجات كبيرة وفق اختبار حاصل الذكاء (IQ) (Intelligence Quotient )، كما أشار أن اليهود الذين يشكلون 3% فقط من الشعب الأمريكي بحسب اعتقاده حققوا أكثر من 25% من جوائز نوبل التي فاز بها العلماء في الولايات المتحدة منذ عام 1950، إلى جانب شغلهم 20% من مجموع المدراء التنفيذيون بالبلاد وما نسبته 22% من إجمالي طلاب الجامعات الأمريكية المتميزة (Ivy Universities) (Entine, 2012).

أن مثل هذه الادعاءات اليهودية، باسم الدين تارة وباسم العلم تارة أخرى، والمسنودة باستطلاعات الرأي العام، تؤكد الاتجاه العام لتبني أو تبرير إرادة التصفية، بيد أنها مشكوك في مصداقيتها العلمية، فعلى سبيل المثال فنّد المؤرخ جمال حمدان (1967) صلة اليهود بالشرق الأوسط مستبعداً أنهم يمثلون قومية وتوصل إلى أن 95% من اليهود الأشكناز المعاصرين ليسوا من أحفاد من خرجوا من فلسطين بل ينتمون إلى إمبراطورية الخزر التترية الواقعة بين البحر الأسود وبحر قزوين، وأكدّ الباحث في علم الجينات إيران إيلهاك (Eran Elhaik)، وهو أيضاً مواطن أمريكي يهودي، في دراسة نشرتها مجلة بيولوجيا الجينوم والتطور الإلكترونية العلمية (Genome Biology and Evolution)، رداً على ادعاءات هاري أوستر حول انتماء يهود الأشكناز للمنطقة وقد اعتنقوا الديانة اليهودية مؤخراً في القرن الثامن ميلادي وهاجروا إلى أوربا الشرقية في القرنين الثاني والثالث عشر (Rubin, 2013)، كما أضاف ريتا روبن (Rita Rubin) بأن نظرية أوستر تمنح سلطة العلم للرواية الصهيونية بانتماء أصل اليهود لفلسطين فقط كمسوغ لحق العودة واستعادة الاستملاك، ومن ثم تبرير كل إجراءات الاحتلال من خلال التحكم في الأرض (Rubin, 2013).

بدورها، أعدت نادية أبو الحاج (Nadia Abu El-Haj) دارسة ثرية جمعت في طياتها مجموعة كبيرة من الأدبيات التي تتناول ما أطلق عليه بتاريخ الجينات ونجحت في ربط الأفكار القديمة بالحديثة، حيث ناقشت خلالها العديد من النظريات والتصورات بما في ذلك الدراسات التي أجريت حول العرق اليهودي والمحاولات الكثيرة التي تمت في هذا الاتجاه لأثبات خصوصية الجنس اليهودي في مقابل الآراء المعارضة لهذ الاتجاه، وانتهت في إحدى نتائج دراستها إلى وضوح العلاقة العضوية بين دراسة تاريخ الجينات وقوة المعرفة والسياسة (Abu El-Haj, 2012, p. 34).

بعيداً عن السجال العلمي، وبغض النظر عما إذا كان اليهود يعودون إلى جنس أو عرق واحد، فأن السؤال الأهم يجب أن يوجه حول علاقة ذلك بالتميز العرقي أو ارتباطه بحق العودة وسحق الآخر واحتلال أرضه، الأمر الذي لم يجب علماء الجينات عليه ولربما لا يهمهم ذلك أكثر من محاولة تقديم الإسناد إلى مفهوم أرض الميعاد التي احتلوها وشردوا أهاليها، فلم يوضح هاري أوستر مثلاً العلاقة بين التميز والذكاء وانتشار اليهود في المراكز والشركات والجامعات الأمريكية الرائدة وحق العودة، وهل تلك المراكز لها علاقة بطبيعة العرق أم أن العوامل والظروف البيئية هي التي أثرت في ذلك التقدم على افتراض صحة البيانات التي قدمها.

فمن المعروف أن اليهود في الولايات المتحدة بل أغلب دول العالم يعملون في المجالات الاقتصادية التي منحتهم مراكز متقدمة في السياسة والإعلام بسبب امتلاكهم لتلك المؤسسات، ومن دواعي المنطق أيضاً أن تحرص الأقليات في المجتمعات ذات النزعة الفئوية أو العرقية دائماً على تحقيق التميز لأنه السبيل الوحيد للتنافس مع الأغلبية التي تتمسك بمفاصل الدولة، فقد عانى اليهود في فترات تاريخية كثيرة خاصة في القرون الوسطى في أوربا من الاضطهاد والاستهداف العرقي مما جعلهم يطرقون أبواب التميز الذي حقق لهم موروثاً كبيراً في الجامعات ومن ثم العمل في القطاعات الاقتصادية والمصرفية، خاصة في مجال الذهب والمجوهرات، وأخيراً التركيز على التخصصات المهنية الفريدة كالطب والمحاماة ذات المردود المادي الكبير وحاجة عوام الناس الملحة إليها، مما منحهم قوة مضافة على بقية فئات المجتمع.

وبعيداً عن طبيعة الجدل حول مسألة التميز السياسي والاقتصادي والإعلامي لليهود في الكثير من الدول، فذلك لا يجعل منهم عرق متميز باختيار من الرب لكي يمتلكون إجازة حق سلب الآخر أرضه وأملاكه، وعلى افتراض أن اليهود أصلهم من فلسطين وتم تشريدهم من قبل المسلمين وغيرهم من أراضيهم كتبرير لمسألة عودتهم، فالسؤال المستحق في هذا المقام هل ينطبق هذا التبرير على الهنود الحمر أيضاً وهم دون أي شك من كانوا يسكنون الأراضي التي تعرف اليوم بالولايات المتحدة الأمريكية؟ بطبيعة الحال، لن يتم الحصول على جواب لمثل هذا السؤال إطلاقاً، والسبب لا يمكن أن تخرج الإجابة من عقلية التفوق للرجل الأبيض دون غيره من البشر، فهو الذي تقع على عاتقه مسؤولية تحضير وتمدين الآخرين حتى لو استدعى الأمر سلب أملاكهم وقتلهم وتشريدهم ومسح ثقافتهم.

رابعاً: مقاربات زمانية ومكانية (عبر تاريخية وجغرافية)

ومستوى التحليل الثقافي للعلاقات الدولية

في الاستعراض السابق تمت مناقشة ومقارنة تجربتين في مكانين وزمانين مختلفين تمثلتا في تجربة الهنود الحمر مع المستوطنين الأوربيين فيما يعرف اليوم بالولايات المتحدة الأمريكية وتجربة الفلسطينيين والمهاجرين اليهود فيما يعرف بالأراضي الفلسطينية، حيث امتدت التجربة الأولى من بداية اكتشاف الرجل الأبيض الأوربي للعالم الجديد بوصول كرستوفر كولومبس إلى جزر الأنتيل في 10 أكتوبر 1498 وحتى نهاية آخر المواجهات الرسمية بين الهنود الحمر وحكومة الولايات المتحدة الأمريكية في 20 مارس 1923 التي عرفت باسم أحد زعماء الهنود الحمر حيث أطلق عليها (Posey War)، في حين تجسدت التجربة الثانية في هجرة اليهود من الشتات وخاصة أوربا إلى فلسطين التي بدأت منذ مطلع القرن العشرين ولا زالت مستمرة إلى الوقت الراهن، حيث يبقى مسرح الصراع مفتوحاً على الرغم من تعدد فصول مشاهده الطويلة التي تشارف على قرابة قرن من الزمان، ويستعرض الجدول (8) أوجه التشابه والاختلاف بين الثابت والمتغير في الأبعاد الفكرية والسياسية والإجراءات العملية للاستيطان والاستحواذ والإبادة الجماعية في تجربتي الشعب الفلسطيني وقبائل الهنود الحمر، ليكون أساساً لمناقشة المقاربات الزمانية والمكانية ومستوى التحليل الثقافي لكل منهما في هذا الجزء من الدراسة.

في كلتا التجربتين، وبتطابق ملفت انفرد الجانب المسيطر بتطويع ثلاثة أدوات رئيسية في الصراع تمثلت في التالي:

  1. التفسيرات الدينية والأيديولوجية الأحادية المدفوعة سياسياً.
  2. المسوغات القانونية المبرمجة التي تمايلت على مسرح الأحداث لكي تمثل دور دولة المؤسسات المدنية الحديثة والديمقراطية.
  3. التعليل العلمي لحق السيطرة وتبرير الواقع غير المقبول لسلوكيات المسيطر إسناداً لغايات الاستحواذ عبر قوة محايدة أو موضوعية، ومثال ذلك التفسيرات الأنثروبولوجية والطبية التي استفردت بها مؤسسات وشخصيات في كل من الولايات المتحدة والكيان الصهيوني من أجل إثبات الخصوصية العرقية أو الدينية للمسيطر.

والسؤال الذي يطرح نفسه، هل كانت تلك المتشابهات على الرغم من اختلاف الزمان والمكان وليدة الصدفة؟ بطبيعة الحال يستطيع أن يذهب أحدهم إلى تلك الفرضية لأثبات الصدفة، لكنها لن تصمد أمام التطابق الفوقي الذي لحم التجربتين في تحالف استراتيجي عبر الواقع منذ قرابة سبعين سنة، فالتحالف الصهيو-أمريكي الذي فرض نفسه منذ تأسيس دولة إسرائيل عام 1948 بشكل رسمي، والتآلف غير الرسمي مع المئات من المؤسسات الدينية والاستشراقية والسياسية منذ بداية الحركة الصهيونية، كلها تشير إلى أن التجربتين متصلتين عضوياً “وجينياً” في مكنون جسد سياسي واحد، ويمكن تفسير هذا الاتحاد العضوي في إطار مستوى التحليل الثقافي الذي طالما ابتعد عنه المتخصصون في العلاقات الدولية.

جدول (8) الثوابت والمتغير في الأبعاد الفكرية والسياسية والإجراءات العملية للاستيطان والاستحواذ والإبادة الجماعية في تجربتي الشعب الفلسطيني وقبائل الهنود الحمر

الثوابتالمتغيرات
حالة الهنود الحمرالحالة الفلسطينية
1. البعد الزماني للتجربة– القرن الـ 15.– القرن الـ 20.
2. البعد المكاني للتجربة– أمريكا الشمالية.– الشرق الأوسط (آسيا).
3. الهجرة
أ- قرار الهجرة– قرار ذاتي (اكتشاف العالم الجديد).– قرار دولي (بريطاني فرنسي).
ب- دواعي الهجرة والاستيطان– التفسير اللاهوتي في الديانة المسيحية.

– التفوق العنصري لبناء أرض السعادة.

– التفسير اللاهوتي في الديانة اليهودية.

– الوعد الإلهي بالعودة إلى الأرض المقدسة.

ج- نوعية الهجرة– تدفقات بشرية كبيرة متواصلة.

– أوربية غربية المنشأ.

– عرقية الأنجلو سكسون المسيحيين.

– أعداد صغيرة متواصلة.

– أوربية شرقية وآسيوية المنشأ.

– عرقيات مختلفة من اليهود.

د- استقبال المهاجرين– استقبال إيجابي وترحيب في البداية من قبل السكان الأصليين.– الرفض المسبق والمواجهة من قبل السكان الأصليين.
4. الإبادة والتصفية والتهجير
أ- فلسفة الإبادة والتصفية– مسوغات قانونية في إطار عرقي.– مسوغات دينية في إطار عنصري.
ب- منهجية الإبادة– التغيير الديمغرافي المنظم.

– حروب التصفية الجسدية الأحادية.

– التهجير القسري داخل حدود الدولة.

– طمس الهوية الحضارية التاريخية.

– الدمج القسري في هوية المواطنة.

– التغيير الديمغرافي المنظم.

– حروب التصفية الجسدية المشتركة.

– التهجير القسري خارج حدود الدولة.

– العزل العنصري للسكان الأصليين.

– تهويد الآثار والمقدسات.

ج- إعلان الدولة– إعلان قيام دولة الولايات المتحدة عام 1776 إثر إنهاء الحرب الأهلية والثورة على الاستعمار البريطاني.

– انعدام تأثير الهنود الحمر كأقلية تمثل 1% من السكان.

– إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948 من طرف واحد إثر التمرد على الانتداب البريطاني.

– الأقلية اليهودية بنسبة 32% من السكان تعلن السيطرة على الحكم.

د- التجنيس– التجنيس الكلي (المواطنة الأمريكية).– التجنيس الجزئي المحدود (عرب إسرائيل).
هـ – الحكم الذاتي– منع محاولات قيام الحكم الذاتي.– فرض الحكم الذاتي المحدود (فك الارتباط) تحت الحصار (غزة).
5. الاستيطان والاستيلاء
أ- المسوغات القانونية– قوانين الاستحواذ على أراضي السكان الأصليين.

– قوانين مصادرة أراضي القبائل الأصلية.

– قوانين استدخال مناطق القبائل الأصلية بغرض التطوير والتنمية.

– قوانين الاستحواذ على أراضي الفلسطينيين.

– قوانين تمكين المستوطنين تحت مبررات إرجاع الحقوق التاريخية.

– قوانين استدخال المناطق من منطلقات دينية مقدسة.

ب- المسوغات العلمية– مبررات أيكولوجية بتخلف الشعوب الهندية وضرورة صهرها في الحضارة الغربية.– مبررات علمية دينية بالمحافظة على نقاء اليهود عبر الفصل العنصري للعرب والمسلمين.

 

– المصدر: إعداد المؤلفين.

لقد نال العرب، والفلسطينيون تحديداً، تصفية حقيقة تزيد بكثير عما شهده اليهود إبان النازية في ألمانيا، ولكن وفقاً للقاموس الصهيو-أمريكي فقد تم رفض تصنيف القتل الجماعي لغير اليهود بالإبادة، فالإبادة الجماعية (Genocide) اقتصرت فقط على اليهود دون الهنود الحمر أو الفلسطينيين أو حتى غيرهم للحيلولة دون إعطاء الشرعية للسكان الأصليين نفس المطالبات والمكانة التي أعطيت لليهود، ومن ذلك الأرض الموعودة في فلسطين.

وتسري تطبيقات هذه السياسة بوضوح حتى تجاه الإبادات الجماعية الأخرى التي ارتكبها النازيون إبان الحرب العالمية الثانية، حيث يسرد وارد شرشيل وجيم وول (Ward Churchill & Jim Wall) في كتابهما “مسألة صغيرة من الإبادة الجماعية” (A Little Matter of Genocide) كيف تم نكران إطلاق مفردة إبادة على أية فئة دون اليهود، كالتصفية الشاملة التي قام بها النازيون ضد الغجر (Gypsies) وراح ضحيتها أكثر من مليون نسمة، والإبادة الجماعية بحق السلافيين (Slavs) التي قضى فيها ما بين 15.5 إلى 19.5 مليون إنسان، متجاوزين في ذلك بأضعاف مضاعفة أعلى التقديرات الرقمية المزعومة للستة ملايين يهودي ممن أبيدوا على يد هتلر (Churchill, 1997, 49)، ولا شك أن الإبادة الجماعية التي تلاحق الفلسطينيين منذ علم 1948 تحصل على ذات التغطية التي وقعت للشعوب الأخرى بما في ذلك ما حصل للمواطنين الأصليين في أمريكا الشمالية.

يتبين من هذه المقاربة نوعية التصفية وتطبيقات الإبادة وطرق الاستيلاء المتشابهة في مختلف الجوانب الأيديولوجية والقانونية على النحو الذي سيتم شرحه بمزيد من التفصيل لاحقاً، لكن المفارقة الوحيدة تتجسد في عدم التصريح العلني بتفوق الجنس اليهودي على الجنس العربي إلا في حدود النقاء العرقي الذي يتم ادعائه، ونتيجة لتطور العلوم الطبية والدراسات الجينية بالتوازي مع تقدم النظام الحقوقي العالمي الذي يرفض منطق تفوق عرق على آخر، لم يعد بالإمكان طرح هذا الامتياز بتلك الصراحة السائدة في أدبيات الصراع مع الهنود الحمر كما استعرضها بعض علماء الأنثروبولوجيا وفق ما تم بيانه سابقاً، ورغم ذلك لا تزال عقيدة “شعب الله المختار” تراود الصهاينة ظاهراً وباطناً في تعاملهم مع الآخر، وبوجه خاص مع العرب والفلسطينيين.

هذه العقيدة الاستعلائية التي يصدح بها البعض إلى الآن ويعتنقها تصريحاً وليس تلميحاً، لا تزال في تموضعها الجوهري في السلوك السياسي الذي تتبعه المؤسسات الصهيونية وإن تظاهرت بالديمقراطية تارة والعلمانية تارة أخرى، ولعل من أهم الشواهد الواقعية على ذلك ما ترجمتها السلطات الإسرائيلية في القوانين التي استصدرتها ونفذتها بتعسف، دون أي اعتبار للقواعد والمعايير الإنسانية والدولية، من قبيل التشريد والاستيلاء على الأراضي بالقوة والسلب المنظم للممتلكات والترحيل القسري وهدم البيوت والمنشآت حتى أصبحت من الملامح العامة للسلوك الإسرائيلي الفعلي تجاه المواطنين العرب الأصليين في فلسطين.

وعلى الرغم من عشرات القرارات الدولية التي صدرت من الأمم المتحدة ممثلة بمجلس الأمن والجمعية العامة واللجان العديدة المنبثقة منهما، بل حتى تلك التي حظيت بموافقة الولايات المتحدة دون أن تستخدم حق الفيتو مثل عدم مشروعية الاستيطان وحق العودة وغيرها المتصلة بمنع تغيير معالم مدينة القدس، إلا أن الأخيرة قد تجاهلت تلك القرارات وساندت بكل قوتها العسكرية والسياسية والاقتصادية والمعنوية الكيان الصهيوني في مسار القتل والتهميش والاقصاء الديمغرافي المبرمج ضد الفلسطينيين، ويتجلى ذلك كوضوح الشمس في رابعة النهار حين اعتبر مفتخراً الرئيس الأمريكي دونالد ترامب القدس عاصمة للكيان الصهيوني وتلاه بالاعتراف بضم هضبة الجولان السورية المحتلة لذلك الكيان متجاوزاً القانون الدولي وجميع معاهداتها والتزاماتها بما في ذلك قرارات مجلس الأمن التي صوتت عليها الولايات المتحدة مرات عدة وفي مقدمتها قرار مجلس الأمن رقم 479 لسنة 1981 الذي يعتبر جميع قرارات فرض الولاية القانونية الصهيونية للجولان المحتل بمثابة إجراءات باطلة ولا أثر قانوني لها، ولعل هذا السلوك يذكرنا بالاتفاقيات والمعاهدات التي ناهزت الخمسمائة وثيقة أبرمتها حكومة الولايات المتحدة مع الهنود الحمر وكان مصيرها نفس التنكر والنسيان، بما في ذلك الأحكام القضائية التي أصدرتها المحاكم الأمريكية وأهملت الحكومة التي تتغنى بالمؤسساتية تنفيذها.

ولكي نعيد السؤال السابق بصيغة أخرى، هل يمكن عقد التشابه السياسي (Political Analogy) في حالتي الهنود الحمر والفلسطينيين بشكل يحاكي أدبيات الأنثروبولوجيا السياسية كما تم الإتيان على ذلك في صدر الدراسة؟

على الرغم من قلة الدراسات التي تتناول هذا الموضوع إلا أن البعض منها قد تعرض إلى ذلك بشكل عام أو خاص أو إلى جزئيات من هذا التشابه في حين أنكرها آخرون، فعلى سبيل المثال انطلق وليام أبروزي (William Abruzzi)، في دراسته المعنونة “الاستعمار والمقاومة في أمريكا الشمالية وفلسطين”، من فرضية أساسية مفادها أن التشابه بين الفلسطينيين والهنود الحمر هو نتاج من تشابه العمليات الأيكولوجية والاجتماعية الكامنة خلف السلوك البشري (Abruzzi, 2003)، كما ذهب إلى ذات النتيجة ستيفن سالايتا (Steven Salaita)، في دراسة عنوانها “الدراسات الأمريكية الهندية والتضامن الفلسطيني”، إذ عقد مقارنة بين الفلسطينيين والهنود الحمر من حيث تشابه ظروف المعيشة والاستهداف والظلم الجماعي (Salaita, 2017, p. 23-24).

 وعلى الجانب الآخر، عارض هذه المقارنة، وإن كانوا من الأقلية، رايان بيلاروز (Ryan Bellerose)، الذي أنتقد في دراسة بعنوان “لا تخلطوا بين معارك السكان الأصليين مع حقوق الفلسطينيين”، محاولات التشبيه بين الهنود الحمر والفلسطينيين، وذلك لأن الهنود الحمر هم مواطنين أصليين يمتلكون الأرض التي استولى عليها المهاجر الأبيض من أوربا بينما فلسطين هي بالأساس أرض يمتلكها اليهود، وقد تم طردهم منها أساساً من قبل الرومان ثم العرب، وبناءً على ذلك فهم المواطنين السابقين والعرب هم المحتلون، وقد رجعت الأرض إلى ملاكها الأصليين (Bellerose, 2014)، ومن المعروف أن بيلاروز هو أحد النشطاء في قضايا حقوق الهنود الحمر ولكنه في ذات الوقت مناصر للكيان الصهيوني حيث أسس منظمة باسم اتحاد كالجاري مع إسرائيل (CUWI) (Calgary United With Israel)، فلا غرابة أن يتبنى هذا الرأي غير المنصف تاريخياً وعلمياً.

وتجدر الإشارة إلى أن ستيفن سالايتا الذي اضطلع في البحوث والدراسات المقارنة التي تتناول الشعوب الأصلية قد قام بعقد أوجه المقاربة في الأنثروبولوجيا السياسية بين التجربتين، ففي أحد مؤلفاته أجرى سالايتا دراسة مقارنة بين الهنود الحمر والفلسطينيين من حيث إنهم تعرضوا إلى احتلال بمبررات متشابه، مؤكداً على أن تلك المقارنة كانت مستحقة جداً لأنها تستند على ما أطلق عليه بالتداخل الثقافي (Intercultural) الذي يجمع تجارب معظم الشعوب التي خضعت للاحتلال والاستعمار، وخلص الباحث إلى أن الاستعمار الأوربي لأراضي الهنود الحمر والإسرائيلي للأراضي الفلسطينيين قد تأسسا على فكرة الاستثناء والاختيار وبموجبها تم تبرير الاحتلال (Salaita, 2008, p. 2-3).

وفي دراسة أخرى، بيّن سلايتا الضغوط الشديدة حتى في الأوساط الأكاديمية الأمريكية لردع أي عمل علمي يعقد المقارنة بين تجرية الهنود الحمر بنظرائهم الفلسطينيين، وذلك لأن الصهيونية لا تود أن تجلس في كرسي التاريخ الأمريكي حتى لا توسم إسرائيل بأنها دولة مستعمرة، كما استعرض الباحث أهمية الدراسات المقارنة بين الهنود الحمر والدراسات الفلسطينية من منظور مساهمتهما في زيادة التضامن مع الفلسطينيين لتشابه الكثير من الوقائع بينهما، خاصة من حيث تماثل الصورة الذهنية للأساس الديني في كل من الدولتين الامريكية والإسرائيلية، ويتوسع سالايتا أكثر في هذا الطرح الاستدلالي على تحقق المقارنة الأنثروبولوجية السياسية بين التجربتين قيد البحث ضمن كتابه المعنون “إنهاء استعمار المواطنين الأصليين والفلسطينيين” (Salaita, 2016, p. 14).

يشمل التشابه الكبير بين الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني بداية نشأة كل منهما على أساس الأسطورة الدينية المتصورة عن أرض الميعاد (The Promised Land) والحق الإلهي في الاستيلاء من زاوية البعد الديني، مروراً بتأسيس نظام علماني ديمقراطي يقوم بإصدار مجموعة من القوانين باسم المدنية والمؤسسية لاستهداف حق الغير في أرضه ووجوده وحقوقه، علاوة على الهندسة الأيديولوجية “المعمدة” علمياً باختلاف الأجناس وتفوق أحدها على الآخر كما في نموذج الولايات المتحدة الأمريكية، أو من أجل تكوين حق تاريخي في حالة الكيان الصهيوني، وانتهاءً بالاستخدام المفرط للأداة العسكرية لتكريس الأمر الواقع وفقاً للأسطورة الدينية، وأن كل ذلك لا يمكن أن يكون منفكاً عن بعضه البعض حتى لو اختلف المكان والزمان، فالبعد “الزمكاني” الذي يعتبر ركناً أساسياً في فهم ظاهرة العلاقات الدولية وانتقالها من زمن لآخر أو من مكان لآخر وفق قانون جدلية المصلحة والقوة هو الذي يجعلنا نجنح إلى وجود السببية والمقاربة في كلا الحالتين.

فلا مندوحة من أن مقاربة الأنثروبولوجيا السياسية مستحقة وثابتة، خاصة في سياق تشابك الثقافة الدينية والسياسية التي أسست لقيام الكيانين الأمريكي والصهيوني، ناهيك عن التداخل الاستراتيجي في بناء النظام المؤسسي الداخلي ومخرجاته القانونية التي انعكست على المواطنين الأصليين في أمريكا الشمالية والشعب الفلسطيني على حدٍ سواء.

كما أن التشابك الاستراتيجي الذي ساد العلاقات بين إسرائيل وأمريكا قد تعزز مع مرور الوقت بفضل الجذور الثقافية التي اختمرت في الفلسفة السياسية الرسمية للنظامين، وبناءً على هذا الأساس فإن أحد المداخل المهمة في التحليل السياسي لتلك المقاربة في إطار العلاقات الدولية لا بد أن يكون منطلقاً من مفهوم “مستوى التحليل الثقافي”.

أن فهم ظواهر العلاقات الدولية، وفق منظور مدرسة الواقعية الجديدة التي عبرت عنها أطروحات كينيث والتز (Kenneth Waltz)، في كتابيه الشهيرين “الرجل والدولة والحرب” (1959) ثم “نظرية العلاقات الدولية” (1979)، لربما يساعدنا في تفسير العلاقة “الزمكانية” التي جمعت التجربتين الهندية والفلسطينية على أساس فوقي قائم على منهجية مستويات التحليل السياسي الذي قدمه مجموعة من علماء العلاقات الدولية وعلى رأسهم ديفيد سنجر (David Singer)، ففي غمرة السجال الدائر بين علماء العلاقات الدولية، وتحديداً بين المدرسة الواقعية والواقعية الجديدة، برز التباين جلياً حول تحديد المستوى الأنسب للتحليل في فهم أحداث ووقائع العلاقات الدولية، حيث قسم ديفيد سنجر مستويات التحليل إلى مستوين رئيسيين هما مستوى تحليل الدولة ومستوى تحليل النظام الدولي، ورجّح سنجر المستوى الأول باعتباره الأقرب لشرح وفهم التفاصيل بينما يذهب المستوى الثاني إلى طرح قوانين عامة لا تعالج دقائق الأمور المهمة لاستيعاب طبيعة العلاقات الدولية المتغيرة (Singer, 1961, p. 80-85).

في المقابل، طرح كينيث والتز (Kenneth Waltz) ثلاثة مستويات للتحليل السياسي، تتدرج من مستوى تحليل الفرد ثم مستوى تحليل الدولة وتنتهي بالمستوى المنظومي أو العالمي، وبعد مناقشة مستفيضة لهذا التقسيم الثلاثي خلص والتز إلى نتيجة مؤداها بأن المستوى الذي يمكن أن يعطي تفسيراً علمياً منتظماً على شكل قواعد عامة من شأنها تشكيل نواة لنظرية شاملة للعلاقات الدولية هو المستوى المنظومي أو العالمي (Waltz, 1959).

وعلى جانب آخر، ظهر رأي أكثر حداثة بيد أنه أقل شهرة من سابقيه تحت مسمى مدرسة “كوبنهاجن” (Copenhagen School) التي ترى أن مستوى التحليل المؤسس على ديناميكية الحركة الإقليمية بين دول تجمعها خصائص جغرافية واقتصادية محددة قد يكون الإطار الأنسب لفهم ظواهر الواقع الدولي خاصة بعد انهيار نظام القطبية الثنائية والحرب الباردة (Soltani, Naji & Amiri, 2014, p. 168-170)، ويضيف أنصار هذه المدرسة بأن مستوى تحليل الدولة لا يمكن أن يعالج شرح حركة الدول وسياستها الخارجية باعتبار أنها تعمل ضمن وحدات سياسية محاذية لها قد تكون ذات طبيعة يسودها الصراع أو التعاون أو التحالف أو التنافر، كما أن مستوى التحليل المنظومي لم يعد قادراً على شرح الكثير من النتائج العالمية سيما بعد انتهاء الحرب الباردة وتغير النظام الدولي من معادلة (3+2) المكونة من الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة كقوى عظمى مهيمنة (Superpowers) إلى جانب الصين واليابان ودول الاتحاد الأوربي كدول عظمى (Great powers)، باتجاه نظام دولي جديد وفق نموذج (4+1) المتمثل بالولايات المتحدة كدولة عظمى مهيمنة إضافة إلى كل من روسيا والصين واليابان ودول الاتحاد الأوربي كدول عظمى.

يبدو جلياً إذاً، بأن التغييرات في النظام الدولي، إلى جانب القصور التنظيري لمستويات التحليل، لا تزال محل جدل كبير بين منظري العلاقات الدولية، وبالتالي ورغم من الاتفاق بينهم على أن هناك عدة مستويات للتحليل يمكن من خلالها النظر إلى ظواهر العلاقات الدولية ومناقشتها بشكل منطقي يرقى إلى الشرح العلمي وفق الأصول الموضوعية لأسس نظرية العلاقات الدولية، إلا أن السجال لا يزال محتدماً حول المستوى الأكثر دقة لتفسير ظواهر السياسية العالمية، وفي هذا الصدد لا يمكن لأي من المستويات الأربع (الفردي، الدولة، الإقليمي، المنظومي) المطروحة أن يقدم شرحاً متكاملاً لتماثل الحالتين الأمريكية والإسرائيلية في تعاملهم مع الهنود الحمر والفلسطينيين من جانب، والتحالف الاستراتيجي القريب إلى التطابق في السلوك السياسي إزاء كلا من الحالتين على مستوى العلاقات الدولية من جانب آخر، وعليه فإن هذه الدراسة تقترح إضافة منظور جديد للتحليل السياسي يمكن تعريفه بمستوى التحليل الثقافي (Cultural Level of Analysis).

يرتكز مستوى التحليل الثقافي أساساً على البعد المعرفي والنسق الإيديولوجي الذي يضم مجموعة كيانات سياسية لا تقع بالضرورة في حيز جغرافي واحد أو حتى متقارب ولا في زمن مشترك أيضاً، كما يمكن القول أن البعد الثقافي في هذا المستوى من التحليل يقع بين المستوين المنظومي والإقليمي للتحليل من حيث الدرجة، لكنه في نفس الوقت يخترقهما ليجمع بين أطرافهما كيانات متقاربة من حيث ثقافتها السياسية التي يمكن أن تكون بدورها ذات منشأ انثروبولوجي يتجسد عملياً في بنية النظام السياسي وسلوكه على الصعيدين الداخلي والخارجي، الأمر الذي استوجب الاستعانة بالمنهج التاريخي السياسي الانثروبولوجي المقارن في هذه الدراسة مثلما تم شرحه في المقدمة.

وكما تمت الإشارة إليه، يسعى هذا النموذج التعددي للمنهج المقارن إلى شرح السلوك والأنماط السياسية المتشابهة في ظاهرها من خلال الكشف عن شبكة العلاقات الخلفية لها، والتي تتشابك في مقاربات دينية وفلسفية وعرقية لتشكل في مجملها ثقافة سياسية واحدة، ومثلما عرّف جورج بالانديه في كتابه “الانثروبولوجيا السياسية”، فأن هذا الحقل المعرفي من شأنه أن يكون “أداة اكتشاف ودراسة شتى المؤسسات والممارسات التي تحقق حكم الناس فضلاً على أنها أداة اكتشاف لنظم التفكير والرموز التي تستند إليها” (بالانديه، 2007، ص. 17)، كما يجادل بالانديه بأن الانثروبولوجيا السياسية تبحث في النظم المقارنة التي تنتج استراتيجيات متشابهة أو متنافرة عبر نسج العلاقة الجدلية بين “السلطة والمقدس”، وقد عبر عن ذلك بالقول أن كتابه يهدف إلى تناول

علاقة السلطة بالبنى الأساسية التي تقدم لها ركيزتها الأولى وبنماذج التدرج الاجتماعي التي تجعل هذه العلاقة ضرورية بالطقوس التي تحقق تجذرها في المقدس وتتدخل في استراتيجياتها (ص. 13)

وفي شرحه للتداخل بين السلطة والمقدس والاستفادة منه في كل النظم السياسية بغض النظر عن شكلها الأيديولوجي، يضيف بالانديه (2007):

لا يمكن إنكار تداخل المقدس والسياسي في هذه الحالات، وهو تداخل بقي ظاهراً في المجتمعات المعلمنة التي لم تكن السلطة فيها أبداً خالية من محتواها الديني الذي يبقى حاضراً، مختصراً، ومكتوماً…. من طبيعة السلطة نفسها أن تحتفظ بشكل ظاهر أو مقنع بدين حقيقي سياسي (ص. 128)

لذلك فإن مفهوم القوة المستمدة من الله تبقى هي القوة التي تسمح للإنسان بالسيطرة مستغلاً جميع الوسائل التي تبيحها تلك الغاية، ولكن على السلطة التي تود القيام بذلك أن تقوم بعملية تسويق لتلك الإرادة الإلهية بأشكال مختلفة وفقاً لمؤسساتها وبيئتها السياسية بغض النظر عن شكلها العلماني الخارجي، وهو ما تم بالفعل في نشأة التكوين في كل من الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني، مما قد يستدعي حقن الثقافة الدينية بالتنشئة السياسية والمبنيات الأيديولوجية للمؤسسات الرسمية وغير الرسمية على حدٍ سواء لتحقيق ما أطلق عليه الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي (Antonio Gramsci) “الهيمنة الثقافية”، حيث أنه بعد أن يتشكل النظام السياسي يتم احتوائه بسيل من القوانين التي تتسق مع غاية السيطرة والتهميش والاغتصاب ولكن عبر ما يطلق عليه بالمؤسسات المدنية، وهذه المؤسسات التي نشأت في تلك البيئة لا يمكن أن تنتج علاقات سياسية متساوية أو متكافئة في حين أن تحديها من أي طرف وخاصة الذي وقع عليه التهميش والاغتصاب سيكون بمثابة “انقلاب غير مدني أو غير حضاري”.

بمعنى آخر، فأن المقدس والسلطة السياسية مرتبطتان بنيوياً مما يمهد لنشوء علاقة استراتيجية بينهما، وفي هذا السياق استشهد بالانديه بمجموعة من الدراسات على بعض الشعوب والقبائل في أفريقيا، فاستنتج أن الارتباط الوثيق بين البنى المقدسة والسلطة السياسية من شأنه أن يحقق للسياسيين بسط النفوذ والهيمنة الفكرية على المجتمع وصيرورته، وملاك ذلك أنه في ظل العلاقة بين السلطة والمقدس تترتب الأسطورة التي تنبثق منها البديهيات والمسلّمات وتتحول إلى حقائق ومقولات عليا مقبولة حتى لو لم تكن معقولة، أي أن الأسطورة في هذه الحالة تكون بمثابة “الميثاق الاجتماعي” وفق تعبير بالانديه مستعيراً الوصف الذي أطلقه برونيسلو مالينوسكي (Bronislaw Malinowski) على ذلك الميثاق بالقول أنه “أداة امتياز بالسلطة والملكية” (بالانديه، 2007، ص. 148)، ولذا فأن النظام السياسي والنخب التي تسيطر عليه وتوفر له الأطر القانونية والتشريعية هي التي تقرر الحق والفضيلة والأخلاق السياسية التي ترسّخ بدورها في المحصلة النهائية للسلطة تملكها أو تسيدها على المقدس فيكون بذلك مجرد وسيلة لتحقيق الغاية السياسية.

بناءً على ذلك، يمكن القول أيضاً أن الأسطورة المقدسة التي أوجدت كل من أمريكا والكيان الصهيوني قد لعبت دوراً محورياً ليس في تبرير قهر الآخر وسلبه حقوقه الأصيلة في الأرض، وإنما كذريعة لصناعة أي مستقبل وفق الإجراء السياسي المفضل، ويتمثل ذلك بإحدى الطرائق الاستراتيجية المبنية على المقدس المسيَّس الذي لا يقبل النقاش ولا حتى التفكير بكونه مقبولاً ومتفقاً مع أصله الأسطوري فلن يكون بمقدور أحد أن يخضعه لمنطق المعقول، ولعل أحد أوجه ذلك التداخل بين المقدس والسياسي هو الذي تجسد مؤخراً في قرار الإدارة الأمريكية رسمياً في اعتبار القدس عاصمة للكيان الصهيوني على الرغم من إدانتها لاحتلال هذه المدينة في عام 1967 والتوافق مع المجتمع الدولي عبر قرار مجلس الأمن رقم (242) الذي يدعو إسرائيل صراحة للانسحاب من الأراضي المحتلة بما فيها القدس وعدم إقامة أي مستعمرات فيها، علاوة على حزمة قرارات دولية أخرى متوالية تصب في ذات المغزى وهو عدم الاعتراف بالإجراءات الإسرائيلية في القدس كالقرار رقم 253 لسنة 1968، والقرار رقم 2253 لسنة 1971، والقرار رقم 465 لسنة 1980، والقرار رقم 476 لسنة 1980، والقرار رقم 478 لسنة 1980، والقرار رقم 2234 لسنة 2016، بالإضافة الى قرارات كثيرة مشابهة لها في المضمون قد صدرت من الجمعية العامة للأمم المتحدة (الدعجة، 2018).

وعلى الرغم من أن تلك القرارات قد كانت بموافقة الولايات المتحدة الأمريكية مما يفترض أن يكون ضابطاً أساسا لسلوكها السياسي الدولي، إلا أن تغليب المصلحة الاستراتيجية المدفوعة بحوافز الأسطورة الدينية المتطرفة التي تشكّل حيّزاً كبيراً في شخصيتي بنيامين نتنياهو ودونالد ترامب هي التي أولدت تلك القرارات الاستحواذية دون أدنى مراعاة للمجتمع الدولي ولمعايير “الدول المتحضرة التي يدعون إليها خصومهم”.

وبالعودة مرة أخرى إلى بالانديه (2007) نجده ينتهي إلى القول:

علينا أن نلاحظ أيضاً أن الأنثروبولوجيا السياسية تحث، وبطريقة أكثر انتقاداً، على تفحص أنساق الأيديولوجيا التي بواسطتها تعبر المجتمعات التقليدية عن نفسها وتبرر نظامها الخاص (ص. 227-228)

والجدير ذكره هنا أن اختلاط المقدس بالسياسي وبالسلطة ليس محدوداً بالقبائل الأفريقية أو بمجتمعات العالم الثالث التقليدية، بل أن هذه الأنثروبولوجيا السياسية التي تقوم وفق هذا الأساس وتصدر استراتيجياتها بناءً عليه تشمل أيضاً النظم الأخرى التي تدعي الحداثة والديمقراطية والمدنية، وإن تباينت الطرائق والأشكال والمسميات.

ولعل عدم شمول دراسة جورج بالانديه على المجتمعات والنظم الغربية وخاصة الديمقراطية يعد من المثالب المهمة وأحد أوجه القصور في أطروحته الخاصة بالأنثروبولوجيا السياسية، ولكن ذلك لا يشكل انتقاصاً لقيمة كتابه، لأن ما استعرضه كان محدوداً في نطاق مجتمعي معيّن وهو لا ينفي اشتمال المجتمعات الأخرى بذات القواعد النظرية السلوكية الناتجة منها.

بناءً على ما سبق، يمكن القول بأن توظيف المنهج الأنثروبولوجي السياسي يمكن أن يكشف عن أهمية النظر إلى مستوى التحليل الثقافي كإطار جديد يساعد في فهم العديد من الظواهر العالمية خاصة في فترة ما أطلق عليه صامويل هنتجتون (Samuel Huntington) صراع الحضارات (The Clash of Civilizations) (Huntington, 1993, p. 22-23).

والجدير بالذكر أن مفهوم الأمة في الإسلام قد يتقاطع أن لم يتشابه إلى حد كبير مع مستوى التحليل الثقافي المشار إليه وفق منطوق التحليل الانثروبولوجي السياسي الذي عبر عنه بلانديه، وقد ذهبت إلى ذلك أماني صالح (2010)، في دراستها “الأمة كمستوى للتحليل في العلاقات الدولية”، وشرحت مفهوم الأمة باعتباره معبراً عن مدلول لحركة جمعية مدفوعة بمختلجات ثقافية وحضارية واحدة تمثل لها انعكاساً في سلوك سياسي واحد، وقد عبرت عن ذلك المقصد بالقول:

ولا يتسم تاريخ الأمم بالثبات أو الركود بل بالحركة الدائبة والتغير المرتبط بالتحولات الطارئة على الأفكار والعقائد الجماعية، ويؤدي التغير الذي قد يطرأ على العقائد إلى تغير في تعريف حدود الجماعة ونطاق الانتماء واتجاه الولاء؛ ومن ثم التغير في بنية الأمة وحدودها، قد يتحقق ذلك من خلال تطورات داخلية كظهور عقائد فرعية: مثل الأثر الذي خلّفه ظهور المذاهب البروتستانتية على بنية النظام السياسي والاجتماعي والكنسي الأوروبي، والذي أدَّى إلى تقسيم أوروبا المسيحية الغربية التي عبرت عن نفسها بجلاء كأمةٍ واحدة في الحروب الصليبية إلى جماعتين عقيديتين، ثم لم تلبث أوروبا عبر عمليات معقدة ودامية استغرقت عقوداً من التفاعلات السياسية والفكرية التعاونية والصراعية أن وصلت إلى نظام عقيدي جديد للتعايش هو العلمانية بمختلف المدارس الفكرية المعبرة عنها (ص. 114)

إن مستوى التحليل الثقافي هو الوحيد من بين مستويات التحليل الذي يستطيع الانتقال مكانياً وزمانياً بحيث يمكن أن يشرح ظاهرتين سياسيتين قد وقعتا في منطقتين ووقتين مختلفين، ويكشف في الوقت نفسه عن الاتصال العضوي السياسي الذي يصل إلى الحد الاستراتيجي بين الفواعل الرئيسية في كلا الحدثين، مثلما هو الحال في الحالتين موضع الدراسة، كما يشرح مستوى التحليل الثقافي الحالة الراهنة للواقع الدولي التي تكتنفها أوجه الصراع الحضاري والأيديولوجي سواءً الذي تسود فيه المكونات الدينية والقومية أو الكنتينات الاقتصادية أو المجموعات السياسية عبر القومية المنتشرة على نطاق واسع في العالم وفق أشكال غير حكومية متعددة، حيث أن غالبية تلك الكيانات، حكومية كانت أو غير ذلك، تقف ضد مفهوم الدولة الحديثة الذي استقر عليه النظام العالمي بعد معاهدة وستفاليا (Treaty of Westphalia) عام 1648.

فإذا كان مفهوم الدولة القومية قد ثبت على ثلاثة قواعد تتمثل في الشعب والأرض والسيادة وفق مبادئ المساواة في المواطنة والجنوح في اتجاه النمط العلماني، فأن هناك تغييراً في نمط الدولة في الوقت الراهن حيث حلت المعايير الثقافية والحضارية كمعيار قوي في تفسير السلوك السياسي للكيانات السياسية مما أوجد حالة انتقالية للنسق الدولية سواءً كانت على شكل تحالفات أو تعاونيات أو غير ذلك، ولم تعد سيادة الدولة كالسابق تقوم في شكلها التقليدي على وجود سلطة تمثل الدولة الأمة (Nation State)، بل أصبحت تميل في اتجاهين: الأول يعود بمفهوم الدولة للقدم حيث كانت ترتكز على الهوية الحضارية أو الدينية، والآخر يقود إلى تكسير مفهوم السيادة لكي تضعف الدولة أمام إمبراطوريات الأموال والتجارة، وكلا الاتجاهين له خلفياته الفكرية والثقافية والأيديولوجية بشكل قد يبدو متضاداً، بينما يشتركان في تشكيل جبهة جديدة ضد مفهوم الدولة الوستفالية.

وبالتالي، فإن مفهوم الدولة قد يمتد جغرافياً وتاريخياً بمعنى الامتداد المكاني والزماني، الأمر الذي من شأنه أن يدفع ببلورة مفهوم جديد يختزل هذه الصورة، وهو الزمكانية، كمفهوم يشرح المقاربة بين الحالتين قيد البحث في هذه الدراسة ويكشف عن أسباب تلك المقاربة التي تستقر على ثقافة الأنثروبولوجيا السياسية التي تكتنف فواعلهما الرئيسيين وهما الولايات المتحدة ودولة إسرائيل.

ومن هنا تبقى فرضية أو حتى فكرة التحدي لوجود الأسطورة الدينية السياسية التي ساهمت في تكوين هذين الكيانين على حساب حقوق شعوب أخرى في غاية الصعوبة لأنها تغلفت بتركة ثقافية مسيطرة (Paradigm)، لا تتيح التفكير إلا من خلال مكونات أنثروبولوجية على شكل قوالب جامدة تشكل في محصلتها النهائية مقولات عامة بديهية لا تقبل إعادة التفكير فيها، حيث لا يمكن القبول بفكرة زوال الاحتلال الإسرائيلي أو استرجاع حقوق الهنود الحمر في أراضيهم المسلوبة، وهكذا بقية المواضيع الأخرى ذات الصلة مثل عودة اللاجئين أو استعادة أملاكهم أو استعادة القدس للفلسطينيين.

انطلاقاً مما سبق، خلصت الدراسة إلى مجموعة من المتغيرات المتشابهة بين الحالة الفلسطينية التي تبلورت صورتها بوضوح مع بدايات القرن العشرين وحالة الحمر التي سبقتها بحوالي أربعة قرون، رغم بعض الفوارق المهمة بين النموذجين التي قد تقود إلى استنتاجات مختلفة بشأن المألات السياسية المستقبلية لكل منهما.

وعلى ضوء ما جرى بيانه في القسمين الثالث والرابع من الدراسة فأن كلتا التجربتان استندتا على أيديولوجية التمييز العنصري المتمثلة في تفوق الرجل الأبيض والنظرة الدونية إلى الجنس الهندي باعتباره عائقاً أمام التطور والمدنية من جهة، وعقيدة شعب الله المختار المرتبطة بفكرة أرض الميعاد والمستمدة من الديانة اليهودية في الحالة الفلسطينية.

كما شهدت الحالتان الفلسطينية والأمريكية ظاهرة الهجرة الجماعية من منبعها الأوربي تحديداً كعنصر مشترك آخر، بيد أن تدفّق الهجرة الأوربية نحو العالم الجديد قدر بالملايين من البشر وشمل مزيجاً جامعاً من الأجناس والعرقيات والديانات المختلفة وإن كان ظاهراً فيها تفوق الأنجلو سكسون والديانة المسيحة التي تعتبر من أكثر الديانات العالمية وأوسعها انتشاراً، في مقابل أن الهجرة باتجاه الأراضي الفلسطينية كانت مقتصرة على أتباع العقيدة اليهودية التي تعتبر من أصغر الديانات من حيث العدد، الأمر الذي ترتب عليه سرعة تحقيق التغيير الديمغرافي في أمريكا حيث فاق جموع المهاجرين الأوربيين عدد الهنود الحمر في مدى قصير جداً، علاوة على التناقص المنظم للسكان الأصليين بسبب حروب الإبادة المصحوبة بانتشار الأمراض الفتاكة بين القبائل الهندية فحصدت أرواح الكثير منهم، بينما واجه اليهود صعوبة كبيرة في فرض هذا النوع من التغيير الديمغرافي على الأرض، وجاءت المفارقة بين التجربتين في إعلان المهاجرين البيض دولتهم المستقلة عام 1776 كأغلبية تشكّل ما نسبته 80% من مجموع السكان في حين أن دولة إسرائيل التي أعلن عن قيامها عام 1948 كانت تمثل الأقلية اليهودية ونسبتها 30% من مجموع السكان على أرض فلسطين (راجع الجدولين 1، 4).

بمعنى آخر، لم يتحقق لليهود ما أنجزه الأوربيون في أرض الميعاد لكل منهما، فرغم سياسة الإبادة والتهجير التي مارسها الفريقان هبط عدد الهنود الحمر أدنى مستوى له في سجلها التاريخي واستقر عند نسبة 1-2% من مجموع سكان الولايات المتحدة، مما يعني تلاشي أية آمال مستقبلية لعودتهم كأمة أو حتى أقلية مؤثرة في المجتمع الأمريكي.

على الطرف النقيض، استطاع الفلسطينيون ليس فقط المحافظة على وجودهم وهويتهم خارج وداخل أرضهم التاريخية بل ومقاومة التغيير الديمغرافي الذي بات يميل بقوة لصالحهم في المستقبل، إذ تبين المؤشرات السكانية كما رصدها الباحثين اليهود بأن الفلسطينيين قد أدركوا التوازن الديموغرافي مع اليهود منذ عام 2000، كما أن السيناريو المرعب الذي ينتظر اليهود بحسب وصف أمنون دنكنر سيكون في عام 2050 عندما يتناصف عرب 1948 فقط مجموع سكان إسرائيل (السهلي، 2004)، بينما سيتجاوز إجمالي عدد الفلسطينيين (26 مليون نسمة) ضعف مجموع السكان اليهود (10 مليون نسمة) مع منتصف القرن الحالي (أنظر الجدول 9).

يختلف متغير الإبادة أيضاً في الحالة الفلسطينية عنه في تجربة الهنود الحمر، فالمهاجرين من أوربا استندوا إلى طرق الإبادة الأحادية والجسدية في تصفية الهنود الحمر ونجحوا في تقليص أعداد هذا الجنس العرقي من 15 مليون إلى أقل من ربع مليون نسمة على مدى قرن ونصف من الزمن، واندثر بذلك التراث الحضاري للسكان الأصليين تمهيداً لاحتواء من تبقى منهم عبر سياسة التجنيس والتضمين (Inclusion)، بينما لجأ اليهود إلى منهجية الإبادة الجسدية والحضارية المتمثلة بالطرد والاستحواذ (Exclusion) على المكان ومن ثم تهويد ذلك المكان من خلال التحكم الأحادي في إعادة صناعة التراث والآثار والميراث، ولعل السبب في ذلك يعود جزئياً إلى عديل التكتيك المتبع في كلا الحالتين من قبل الجاني وفقاً للمتغير الإعلامي.

جدول (9) توقعات مختلفة لأعداد السكان اليهود والعرب في الأراضي الإسرائيلية والفلسطينية (2000-2050) (بالآلاف)

السنواتيهود إسرائيلعرب إسرائيلسكان إسرائيلالأراضي الفلسطينية مجموع الفلسطينيينالمجموع الإجمالي
2000      
أعلى التوقعات5,2011,1856,3863,0274,2099,410
التوقعات المتوسطة5,1681,1786,3462,9734,1519,319
أدنى التوقعات5,1351,1716,3062,6963,8679,002
2010      
أعلى التوقعات6,0651,5747,6394,4526,02612,091
التوقعات المتوسطة5,9801,5557,5354,1635,71811,698
أدنى التوقعات5,8101,5357,3463,2404,77510,586
2020      
أعلى التوقعات6,9022,0928,9946,5708,66215,564
التوقعات المتوسطة6,6971,9768,6735,6807,65614,353
أدنى التوقعات6,2961,8558,1513,9755,83012,126
2050      
أعلى التوقعات10,3914,41914,81021,65526,07436,465
التوقعات المتوسطة8,8703,12111,90111,56014,68123,461
أدنى التوقعات7,3232,0659,3886,0198,08415,407

 

– المصدر:

Pergola, Sergio Della. (2001, August). Demography in Israel/Palestine: Trends, Prospects, Policy Implications. Presented at IUSSP XXIV General Population Conference (S64) on Population Change and Political Transitions, Salvador de Bahia, Brazil (p. 17).

          

ففي حالة الهنود الحمر غاب كلياً النقل الإعلامي المصور والموثق لأحداثها الدامية التي توارث سردها النقل النصي القابل لمختلف أشكال التحوير والتزوير والإنكار، في حين صنع النقل الإعلامي المصور بعض الموانع لارتكاب مجازر “صلعاء” التي قد تكون أكثر وقعاً على القرار السياسي والرأي العام الشعبي والأممي.

لكن على الرغم من بعض سمات الاختلاف في هذه المتغيرات بين الحالتين الهندية والفلسطينية، إلا أن ثمة قواسم أساسية مشتركة قد تفسر مكنون التحالف المتجذر والعميق والمستمر بين الحكومة الأمريكية والدولة اليهودية في مواجهة التحديات المعاصرة والمستقبلية التي تلاحق الطرفين على خلفية الأيديولوجية العنصرية وسياساتها الرسمية ونتائجها العملية، تجاه الحالة الفلسطينية تحديداً.

فالتحالف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وإسرائيل منذ قيام الدولة اليهودية عام 1948 قد ارتبط بشكل وثيق بطبيعة التوجهات والتطبيقات الثنائية المتشابهة بينهما من حيث التفوق العنصري والمظلة الدينية لتبريره، الأمر الذي يؤكده وجود نفس المنظمات ذات الجذور الدينية واليمينية المتطرفة والنشطة بقوة في المجتمعين الأمريكي والإسرائيلي، والغطاء الحكومي الرسمي للممارسات القمعية على الأرض وحمايتها في الداخل الفلسطيني ورعايتها دولياً من قبل الإدارات الأمريكية المتعاقبة، لذلك باتت الولايات المتحدة الدولة الوحيدة في العالم المستمرة في تقديم الدعم اللامحدود لإسرائيل، والدفاع عن سياستها ضد الفلسطينيين والسائرة على نفس خطى النهج الأمريكي ضد الهنود الحمر.

ويمكن تفسير توجهات السياسة الأمريكية تجاه إسرائيل في إطار مستوى التحليل الثقافي لعقيدة الهيمنة والتوسع والاستحواذ، التي ما تزال متأصلة في مؤسسات صنع القرار وعقلية النخب السياسية في الولايات المتحدة (Mearsheimer & Walt, 2008)، وقد ترتفع وتيرتها وتطبيقاتها عند وصول اليمين الأمريكي إلى السلطة، وتتجلى الأمثلة على ذلك في إعلان (43) من أصل (79) فيتو أمريكي في مجلس الأمن الدولي منذ أولى جلساته عام 1946 لصالح إسرائيل ومنع إدانة جرائمهما المتكررة بحق الإنسانية، وكان آخرها تصويتها الأخير ضد مشروع القرار الذي يرفض إعلان الولايات المتحدة الأمريكية القدس “عاصمة لإسرائيل” ونقل سفارتها من تل أبيب إلى المدينة الفلسطينية المحتلة، ناهيك عن محورية إسرائيل في عصب الانتخابات الأمريكية خصوصاً على مستوى رئاسة البيت الأبيض.

ولعل من أهم تطبيقات السياسة الأمريكية في هذا الشأن السعي من أجل احتواء أي منظور مستقبلي قد يفضي إلى تفكيك المشروع الإسرائيلي القائم على نظرية التهويد العنصرية وبالتالي إضعاف وجوده هذا الكيان على الأراضي الفلسطينية، ويتمثل ذلك في محاولات تحييد المحيط الخارجي الحاضن للقضية الفلسطينية ومعظم شعبها المهجر عبر إلغاء حلم الدولة الفلسطينية، وتمثل إدارة الرئيس دونالد ترامب بصورة جلية أهم التطبيقات الراهنة لهذا التوجه من خلال ما يعرف بصفقة القرن الرامية إلى تطبيع العلاقات مع الجوار الجغرافي العربي كاستراتيجية ضامنة لأمن اسرائيل من خطر الإقليم أو ضغوطاته، إضافة إلى إعادة تموضع الدولة الفلسطينية على تخوم غزة وسيناء لتكون في حالة الإعلان عنها خارج إطار الادعاء الاسرائيلي في الأرض المقدسة.

كما أن الأطروحات الأمريكية المتعاقبة التي توارثتها الإدارات المتعاقبة والمشابهة لما يتبناه الكثير من المنظرين والساسة اليهود، والتي حملت عدة مسميات كالشرق الأوسط الجديد أو إعادة تقسيم المنطقة جراء تفكيك عدد من الدول العربية فيها كسورية والعراق والسودان وليبيا والسعودية واليمن، قد تأتي في سياق التبرير لتغيير الموقع الجغرافي للدولة الفلسطينية المرتقبة إن لم يكن إذابة الكيان الفلسطيني بين الحدود الجديدة لبعض الدول العربية الأخرى مثل الأردن ومصر على وجه التحديد.

ولهذا يمكن القول أن مستقبل الحالة الفلسطينية المحاصرة بعقيدة الهيمنة والتوسع والاستحواذ اليهودية مرهون إلى حد كبير بقوة ونفوذ الولايات المتحدة في إطار مفهوم التوازنات الدولية من جهة، واستمرار توغل الفكر اليميني المؤدلج دينياً في السياسة الداخلية الأمريكية من جهة أخرى، وكلا البعدين يحملان مؤشرات جديدة نحو التغيير.

فعلى الصعيد العالمي تواجه الولايات المتحدة تحديات عدة في فرض نموذج القطبية الأحادية أمام تراجع التزاماتها وتدخلاتها العسكرية في غير منطقة من العالم في مقابل صعود قوى اقتصادية وعسكرية تحاول أن تستعيد نفوذها الدولي كما في حالة روسيا أو الباحثة عن مواطئ قدم لها في مواقع استراتيجية واقتصادية جديدة والمتمثل في زحف الصين نحو آسيا الوسطى والشرق الأوسط والقارة الأفريقية، بالإضافة إلى ما يشهده النظام العالمي من تحولات متسارعة ساعدت على بروز قوى إقليمية ودولية جديدة غير قانعة بدورها ومكانتها الأممية مثل إيران وتركيا وكوريا الشمالية ومحور البريكس (BRICS)، ويضاف إلى ذلك كله حالة الاضطراب والتعقيد اللذان يعصفان بالمشهد الدولي جراء تعاظم أدوار المنظمات الإرهابية وانتشارها الجغرافي العابر للحدود والقارات، في وقت لا يعتبر نموذج الإمبراطورية العالمية في طبيعة تكوين الأميركيين المتأرجحين تاريخياً ما بين العزلة والتدخلية، أو كما يصف ريتشارد هاس القوة الأمريكية العظمى بـ “البلد الذي يقال عنه “شرطي العالم” ليس إلا شريفاً متردداً”، الأمر الذي يضع على المحك المدى الزمني لاستمرار الولايات المتحدة في تحمل الكلفة السياسية لحماية إسرائيل على حساب مصالحها وبقية التزاماتها العالمية (جوهر والعزي، 2019، ص. 163-164).

أما على الصعيد الداخلي فيحمل التغيير الديمغرافي في الولايات المتحدة دلالات واضحة على تراجع البيض مقابل تنامي أعداد الأقليات الأثنية (راجع الجدول 1) التي تتفق في الغالب رغم تنوعها العرقي على مناهضة الفكر المتطرف لدى الرجل الأبيض خاصة إزاء القضايا الخارجية التي تتصدرها القضية الفلسطينية.

وكانت تجربة إدارة الرئيس باراك أوباما (2008-2016)، كنموذج لنتائج وصول الأقليات الأمريكية من خارج رحم اليمين الأنجلوسكسوني، ملفتة بالفعل حيث شهدت العلاقات الأمريكية الإسرائيلية فتوراً غير مسبوق، وتمت لأول مرة إدانة إنشاء المستوطنات الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية المحتلة في مجلس الأمن الدولي، كما توجهت الإدارة الأمريكية نحو تقليص الدعم العسكري لإسرائيل والدعوة إلى مشروع حل الدولتين مع تحييد القدس.

ومما يؤكد تأثير الديمغرافيا الداخلية على القرار السياسي ردة فعل اليمين الأمريكي فور استعادة البيت الأبيض على يد الرئيس دونالد ترامب (2017) وتبني سياسة منع تدفق المزيد من المهاجرين تحت شعار “أمريكا أولاً” مع طرد المقيمين بصفة غير شرعية منهم والاستماتة في بناء الجدار العازل على الحدود المكسيكية وحظر مجموعة من الجنسيات العربية والمسلمة من دخول الأراضي الأمريكية، وذلك في نسخة متطابقة ومشتركة مع السياسات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني والمتمثلة في عدم الاعتراف بحق العودة للاجئين الذي يبلغ عددهم 14 مليون نسمة من الخارج ومحاصرة من في الداخل منهم عبر الجدار العنصري الفاصل.

كنتيجة منطقية من المناقشة السابقة، يمكن القول بأن التجربة الفلسطينية بمعطياتها التاريخية سوف تختلف بالتأكيد في المستقبل عن تجربة الهنود الحمر التي اندثرت فعلياً، وهذا ما أفسح المجال أمام استمرار التكوين الأنثروبولوجي السياسي الأمريكي ليفرغ كل ما فيه من إرث استعماري وفكر الاستحواذ والتهجير والتغيير الحضاري، جنباً إلى جنب مع الدولة الصهيونية كشريك، على الفلسطينيين وليس الهنود الحمر.

الخاتمة

في هذه الدراسة تم مراجعة كل من تجربتي الهنود الحمر، وتعرضهم له من أبشع صور التصفية الجسدية وسلب للأراضي ومصادرة كامل موروثهم الحضاري، وما يمر به الفلسطينيون تحت نير الاحتلال والبطش والتهميش بعد عقود من القتل الجماعي والتهجير القسري ومحو لتراثهم التاريخي والثقافي، ولم تقف قيمة الدراسة على أساس أصالة موضوعها فحسب، بل اجتهادها في ربط جسور علمية، أفقية ورأسية، بين تخصصات وأدبيات بحثية مختلفة، فبينما مدت الدراسة وصل العلاقة بين تخصص النظم المقارنة بحقل العلاقات الدولية عمودياً ضمن إطار تخصص العلوم السياسية، فقد نسجت كذلك حبال الالتقاء بين تخصصي علم السياسة وعلوم الأنثروبولوجيا أفقياً، وعبر هذه التداخلات العلمية الممنهجة (Interdisciplinary Method) تم فتح أبواب السجال النظري لإيجاد آفاق جديدة للمقاربة التطبيقية بين التجربتين قيد البحث، وهو بحد ذاته يمثل قيمة علمية نأمل بأن يتم البناء عليها مستقبلاً.

على ضوء الأسئلة البحثية والفرضيات العلمية التي تم الاستناد إليها في المقدمة، خلصت الدراسة إلى جملة من الاستنتاجات لعل من أهمها ضرورة الدعوة إلى إعادة قراءة واستقراء الواقع السياسي في ضوء إحداثيات التاريخ، فالدارس للتاريخ يدرك بأن الأحداث الكبرى كانت على الدوام نتاجاً لأسباب تمثلت بفعل حوادث صغيرة، وهكذا ينعطف التاريخ ليغير مجراه البطيء أو السريع حياة أمم كثيرة ويفضي إلى سيناريوات جديدة تكتنفها الكثير من التركيبات السياسية والاجتماعية، فالانتفاضة التي تجرى على الأراضي المحتلة وطريقة التعامل معها من قبل حكومات تعاقب عليها رجال دخلوا إلى عالم السياسية عبر بوابة الديمقراطية وخرجوا منها بتركة إجرامية، سوف لن تتوقف بمجرد فعل سياسي شخصي ولو كان مصدره دولة عظمى تأسست على الأسطورة الدينية المختلقة.

برغم القواسم المشتركة المتعددة بين تجربتي الهنود الحمر والشعب الفلسطيني، سواءً في الدوافع الدينية وتفسيراتها الأيديولوجية الأحادية المسخرة لبلورة ثقافة الهيمنة والاستحواذ التي استهدف وجودهما بالإضافة إلى التشابه الكبير في التطبيقات العملية التي نالتهم عبر سنوات طويلة من التصفية الجسدية المنظمة والتهجير القسري للتمكين من أرضهم وفق مرئيات التفسير اللاهوتي لمفهوم أرض الميعاد في حالتيهما، إلا أن التجربة الفلسطينية نجحت في الإفلات من النتيجة المحتومة التي قضت تماماً على المكون الهندي على الأراضي الأمريكية، وهذه الحقيقة تمثل استنتاجاً آخر في هذه الدراسة مصداقاً لثبوت الفرضية الثانوية الثالثة فيها.

فعلى عكس سابقتها، سوف لن تنتهي القصة في الحالة الفلسطينية مثلما انتهت حقبة الهنود الحمر بإخماد نيرانها وسحق رجالها، وإن استمرت المساعي الإسرائيلية المدعومة أمريكياً في هذا الاتجاه، ويكمن السبب الرئيسي وراء ذلك في الموروث الحضاري العميق الذي يتمتع به الشعب الفلسطيني وامتداده المكاني والزماني الواسع في الوجدان الديني والعقائدي لدى عموم العرب والمسلمين، كما أن الانتفاضة الفلسطينية الحالية مستمدة بدورها من جذور دينية وثقافية قد تكون أشد قوة وصلابة من الأيديولوجية الصهيونية التي حاولت تهجين الديانتين اليهودية والمسيحة لموازاتها وتوسيع المدى العقائدي لتبرير حق السيطرة المطلق على الأرض الفلسطينية، ذلك أن العقيدة اليهودية المحدودة في عدد أتباعها وانتشارها بين الأمم الأخرى غير قادرة على فرض الغطاء الديني لوحدها أمام العقيدة الإسلامية الساحقة.

كما يفتح هذا الاستنتاج الأخير الباب أمام تطبيقات فلسفة المدرسة الواقعية الجديدة في العلاقات الدولية، حيث نجحت مقتضيات توازن القوى، وفي مقدمتها الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل والقائمة على أسس عقائدية متشابهة في تفسير مفهوم التفوق العرقي والاستحواذ، في تعويض نواقص متطلبات الهيمنة على الأرض ومن أهمها استمرار غلبة الميزان الديمغرافي لصالح الشعب الفلسطيني والمحيط الجغرافي الكبير الذي يحاصر الكيان الإسرائيلي ويبقيه كحالة شاذة في المنطقة، وأخيراً تمتع الفلسطينيين بحاضنة حضارية عملاقة في بعديها العربي والإسلامي، الأمر الذي وضع الأمن الوجودي لدولة إسرائيل في سلم أولويات السياسة الخارجية للولايات المتحدة وتعهداتها الدولية الثابتة منذ عام 1948.

هناك ما يدعو للاعتقاد بأن المقاومة الحالية للشعوب العربية والإسلامية ستكون بداية لانتفاضة كبرى قادمة، قد تكون من داخل الأراضي الفلسطينية أو من خارجها أو كلاهما معاً، ومثل هذا التصور لا يستند إلى مثاليات أو أماني بعيدة عن الواقع، بل ينبع من حقيقة مفادها أن للقدس شأن خاص لدى المسلمين والعرب ولن يتمكن من كان قطع أوصال هذه العلاقة الخاصة.

ولذلك، فإن تفاقم الأحداث في القدس والأرض المحتلة بالصورة المتراكمة التي نشهدها ستؤدي إلى تحريك الشعوب المعنية التي لم تتحرك حكوماتها، ولن ينتهي هذا المشهد بالأحداث التي تمر بها فلسطين، بل أن المراقب اليقظ يرى بداية انتفاضة أخرى تتفاعل في الشارع العربي والإسلامي جراء تراكمات الأولى، فسجل التاريخ الحديث حافل بالأمثلة على التداعيات السريعة والمتفاقمة باتجاه تطورات عالمية كبرى لأحداث فردية أو جزئية، حيث أدى اغتيال شخصية واحدة إلى تشغيل محركات الحرب العالمية الأولى كما تسبّب هجوم اليابانيين على بيرل هاربر بدخول الشعب الأمريكي وحكومته في الحرب العظمى فحققوا نصراً كونياً لم يسبق له مثيل.

ومن الأمثلة الحديثة على ذلك تفجّر أمواج الربيع العربي بكل تركته السياسية والأمنية وأبعاده الدولية المستمرة إلى اليوم بعد قيام الشاب التونسي محمد البوعزيزي بحرق نفسه كاحتجاج وطني، فهكذا يتحرك التاريخ من حدث إلى آخر، ومن الحرب قد تولد حروب أو استقرار، وكل ذلك في النهاية يعتمد على حركة وصيرورة الفواعل الرئيسيين في المعترك السياسي بشقيه المحلي والخارجي.

وأخيراً وليس آخراً، يتعين الإشارة إلى المفكر اليهودي بنيامين وولتر (Benjamin Walter) (1892-1940) وما ساقه في كتابه بعنوان “أطروحات حول مفهوم التاريخ” بعدما عانى الأمرين من تصاعد النازية في أيامه فانتحر يائساً من عبور حدود ألمانيا، فكتب حول مفهوم الدولة الاستثنائية التي تقوم استراتيجياتها على فكر الكارثة الذي يعد من أدبيات الفكر اليهود-المسيحي (بو منير، 2013 ، ص. 28-30).

والدولة الاستثنائية حسب رأي وولتر هي التي تقاوم إحداثيات قانون الزمن الطبيعية للوصول إلى الثبات والتقدم بواسطة أدوات تعسفية واستعلائية قد تتضارب مع ما هو مقبول إنسانياً، ولكي يدلل على نظريته درس الباحث النازية وصعودها فوجد أن هتلر أراد أن يقيم دولة استثنائية قائمة على القهر والتوسع والعنصرية ضد الآخر (Horton, 2010)، وحينذاك لم يخطر على بال أحد بأن انحدار ألمانيا سوف يبدأ من إيمانها بالاستثنائية إلا بنيامين وولتر الذي لم يشهد الأحداث الدراماتيكية التي عقبت تاريخ وفاته في عام 1940، لكنه تنبأ بها في أوج قمة البهرجة والعنفوان لحكومة هتلر وانتصاراته في المسرحين السياسي والعسكري.

خلال عمره القصير زمنياً، يريد الكيان الصهيوني أن يكرّر بناء الدولة الاستثنائية القائمة على الأسطورة والمستندة إلى مفهوم الكارثة التي تبرر من خلالها القتل والاحتلال والضم والاغتيال وهدم البيوت وتهجير الناس والانحراف بالقانون دون محاسبة، وعلى أساس أن تكون دولتها مستثناة من القاعدة التي تعارفت عليها الأمم، ولكن ذلك لن يدوم بفعل نحتها لذاتها مع مرور الوقت، فلا غرابة إذاً أن يكون تآكل الكيان الصهيوني منطلقاً من الداخل إلى الخارج وليس العكس، بل أن فعل العوامل الخارجية سيكون لاحقاً على مآسي الداخل التي تقوم بها الصهيونية بالأراضي المحتلة.

أن المشهد القائم قبل أربعمئة سنة في تجربة الهنود الحمر، وإن تشابهت منطلقاته الفلسفية وتطبيقاته العملية، بات يختلف تماماً في عصر العولمة وتفاصيلها المركبة والمتداخلة والمرتبطة بشبكة كونية من التكنولوجية الرقمية ووسائل الإعلام والتواصل البشري المعقد والمحاطة بكم هائل من المنظمات الأممية والأعراف الإنسانية الدولية والكيانات غير الحكومية النشطة عبر العالم، ويفترض أن تضع استحقاقات ذلك المزيد من القيود على معاودة إنجاز كامل لتجربة إبادة جماعية أخرى وأن تم بصمت وبمعزل عن المشهد العالمي القائم رغم محدودية تأثيرها المباشر.

أن الهيمنة الصهيونية بأسلوبها الحالي وبتأييد من الدولة العظمى يشبه إدخال جسم كبير في ممر ضيق لا يحتمل سوى إحدى نتيجتين، فإما أن يتم توسعة الطريق ليستوعب أفعال الاستثناء ضماناً لاستمرار التحكم والسيطرة ومستلزماتها من القتل بشكل مجرد من الإنسانية وتحويل المستهدفين إلى رقيق بعيداً عن إدراك الأبعاد الثقافية والدينية والسياسية الكامنة، وهو أمر خيالي لا يستقيم مع سنن التاريخ، أو أن يتم إقحام هذا الجسم بالممر الخشن الذي سينحته مع مرور الزمن ليتصاغر تدريجياً حتى يتلاشى تماماً، وهكذا تتراتب الأحداث بالمنطقة فمن الصغير ينبثق الكبير ومن الانتفاضة الصغرى ستشتعل يوماً الانتفاضة الكبرى، وقد يكون هذا السيناريو أملاً للبعض أو مدعاة للسخرية لدى البعض الآخر، لكنه بالتأكيد ينم عن أدراك لحتمية التاريخ لمن له بصيرة بواقع الأمم والنحل، كونها أحداثاً مرت بها كل من ألمانيا العظمى وروسيا البلشفية في العصر الحديث، كما طوت صفحاتها في قدم التاريخ مثل عاد وإرم ذات العماد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد، وغيرهم في الغابرين الذين ما لبثوا أن تحولوا إلى ركام لم ينعه إلا العتاة والطغاة والبغاة ممن حولوا أفراحهم إلى أتراح، بيد أن مآتم المظلومين والمسحوقين لا بد وأن تتحول إلى مسرات يوماً، ذلك أن للتاريخ حكمة وليس فيه استثناءات.

المراجع

المراجع العربية:

إبراهيم، نيرمين (2008). صعود النازية: ألمانيا بين الحربين العالميتين (سياسياً اجتماعياً اقتصاديا)ً. دمشق: دار صفحات للدراسات والنشر.

أبو ستة، إبراهيم (2004). اللاجئون الفلسطينيون بين التوطين والعودة. اُسترجعت في تاريخ 04 يناير، 2019 من (قناة الجزيرة https://www.aljazeera.net/specialfiles/pages/44c30c98-76c4-443f-a158-18a615f0a214).

أبو علم، عبدالله محمد (2014). قالوا… من فمك أدينك يا إسرائيل (الجزء الأول). عمان: دار الفلاح للنشر والتوزيع.

بالانديه، جورج (2007). الانثروبولوجيا السياسية (علي المصري، مترجم)، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع.

بو منير، كمال (2013، يونيو). فلسفة التاريخ في الأفق النقدي لفلتر بنيامين. الأكاديمية للدراسات الاجتماعية والإنسانية (جامعة الجزائر)، 10، 28-32.

جوهر، حسن والعزي، غسان (2019، يناير). التأثير المتبادل بين بنية النظام الدولي وسياسات القوى العظمى: إدارة الرئيس جورج بوش الابن نموذجاً. مجلة كلية الآداب: الإنسانيات والعلوم الاجتماعية (جامعة القاهرة)، 79(1)، 101-169.

حداد، يوسف (2004). هل لليهود حق ديني أو تاريخي في فلسطين (المجلد 1). بيروت: بيسان للنشر والتوزيع والإعلام.

الحسن، يوسف (1990). البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الصهيوني دراسة في الحركة المسيحية الأصولية: دراسة في الحركة المسيحية الأصولية الأمريكية (ط. 1). بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.

حمدان، جمال (1967). اليهود أنثروبولوجيا. القاهرة: مؤسسة دار الهلال.

خليفة، أحمد، عايد، خالد، شوفاني، إلياس، عبدالهادي، فوز، غانم، أسعد، قهوجي، رياض، وآخرون. (2004). إسرائيل.. دليل عام 2004. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية.

خليل، نبيل (2006). أمريكا بين الهنود والعرب. بيروت: دار الفارابي.

داود، سليمان داود (2013، أكتوبر 03). المذابح الإسرائيلية في فلسطين. اُسترجعت في تاريخ 02 يناير، 2019 من (قناة الجزيرة https://www.aljazeera.net/specialfiles/pages/185c0c9b-8c24-4b14-b62a-ae88c42bc9e0).

الدبش، محمد (2017، ديسمبر 17). ترمب وأسطورة مدينة على جبل. اُسترجعت في تاريخ 26 ديسمبر، 2018 من (قناة الجزيرة https://blogs.aljazeera.net/blogs/2017/12/17/).

الدعجة، هايل (2018). القرارات الدولية بشأن القدس. اُسترجعت في تاريخ 06 مايو، 2019 من (صحيفة عمون الإلكترونية https://www.ammonnews.net/article/349033).

زكاء الله، محمد عارف (2007). الدين والسياسة في أمريكا: صعود المسيحيين الإنجيليين وأثرهم (أمل عيتاني، مترجم)، بيروت: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

سليمان، ميخائيل (1987). صورة العرب في عقول الأمريكيين. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.

السهلي، نبيل (2004). فلسطين.. أرض وشعب: منذ مؤتمر بال وحتى 2002. دمشق: اتحاد الكتاب العربي.

سيراكوسا، جوزيف (2015). الدبلوماسية (كوثر محمود محمد ، مترجم)، القاهرة: دار الشروق.

الشاتري، فوشيه (2001). الاستيطان الصليبي في فلسطين (قاسم عبده قاسم، مترجم)، القاهرة: دار الشروق.

شاهين، أحمد لطفي (2016، مارس 16). دور القوانين الإسرائيلية في مصادرة الأراضي الفلسطينية. اُسترجعت في تاريخ 04 يناير، 2019 من (دنيا الوطن https://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2016/03/16/397459.html).

شكري، محمد فؤاد (2017). ألمانيا النازية: دراسة في التاريخ الأوربي المعاصر. القاهرة: مؤسسة هنداوي سي آي سي.

شو، مارتن (2017). الإبادة الجماعية: مفهومها، جذورها وتطورها وأين حدثت؟ (محيي الدين حميدي، مترجم)، الرياض: العبيكان للنشر.

صالح، أماني (2010، ديسمبر). الأمة كمستوى للتحليل في العلاقات الدولية. مجلة المسلم المعاصر، 137-138، 105-158.

عزام، إسماعيل (2014). أشهر مجازر إسرائيل… عقود التقتيل المستمر لأبناء فلسطين. اُسترجعت في تاريخ 03 يناير، 2019 من (هسبريس https://m.hespress.com/international/236494.html).

العكش، منير (2002). أمريكا والإبادات الجماعية: حق التضحية بالآخر. لندن: دار رياض الريس للكتب والنشر.

العكش، منير (2009). أمريكا والإبادات الثقافية:  لعنة كنعان الإنجليزية. لندن: دار رياض الريس للكتب والنشر.

العكش، منير (2012). أمريكا والإبادات الجنسية. لندن: دار رياض الريس للكتب والنشر.

العكش، منير (2015). دولة فلسطينية للهنود الحمر. لندن: دار رياض الريس للكتب والنشر.

عناب، محمد رشيد (2001). الاستيطان الصهيوني في القدس: 1967-1993. فلسطين: بيت المقدس للنشر والتوزيع.

فولك، ريشارد (2014). تقرير المقرر الخاص المعني بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، مجلس حقوق الإنسان، الدورة الخامسة والعشرون، البند 7 من جدول الاعمال: حالة حقوق الإنسان في فلسطين والأراضي العربية المحتلة. اُسترجعت في تاريخ 04 يناير، 2019 من (https://reliefweb.int/sites/reliefweb.int/files/resources/A-HRC-25-67_ar.pdf).

فيشباخ، مايكل (2013). سجلات السلب: أملاك اللاجئين الفلسطينيين والصراع العربي- الإسرائيلي (سميح حمودة، مترجم)، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية.

منظمة حقوق الإنسان (2018). التقرير العالمي 2018، إسرائيل وفلسطين: أحداث 2017. اُسترجعت في تاريخ 03 يناير، 2019 من (Human Rights Watch https://www.hrw.org/ar/world-report/2018/country-chapters/313128).

موقع المعرفة الالكتروني (2015). ديموغرافيا فلسطين. اُسترجعت في تاريخ 25 يوليو، 2019 من (https://www.marefa.org).

موقع صحيفة البيان الإماراتية الالكتروني (2000، نوفمبر 25). درس وتحذير من رؤساء أمريكا السابقين من النفوذ اليهودي. اُسترجعت في تاريخ 25 يوليو، 2019 من (https://www.albayan.ae/opinions/2000-11-25-1.1098022).

موقع عرب 48 الالكتروني (2016، نوفمبر 08). تاريخ رؤساء أميركا.. السياسة تدوس حقوق الإنسان. اُسترجعت في تاريخ 25 يوليو، 2019 من (https://www.arab48.com).

ويبيسونو، ماكاريم (2015). تقرير المقرر الخاص المعني بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، مجلس حقوق الإنسان، الدورة الخامسة والعشرون، البند 7 من جدول الاعمال: حالة حقوق الإنسان في فلسطين والأراضي العربية المحتلة. اُسترجعت في تاريخ 04 يناير، 2019 من (https://www.refworld.org/cgi-bin/texis/vtx/rwmain/opendocpdf.pdf?reldoc=y&docid=54febaf74).

المراجع الأجنبية:

Abruzzi, William. (2003). Colonization and Resistance in North America and Palestine: Similar Historical Processes. Retrieved February 18th, 2019 from (http://www.drabruzzi.com/iindians_and_palestinian.htm).

Abu El-Haj, Nadia. (2012). The Genealogical Science: The Search for Jewish Origins and the Politics of Epistemology. Chicago: University of Chicago Press.

Adams, Charles. (1877). Memories of John Quincy Adams, Comprising Portion of His Diary From 1795 to 1848 (Vol. 7). Philadelphia: J. B. Lippincot & Co.

Bellerose, Rayan. (2014, January, 11). Don’t Mix Indigenous Fight With Palestinian Rights. Retrieved February 18th, 2019 from Indian Country Today (https://newsmaven.io/indiancountrytoday/archive/don-t-mix-indigenous-fight-with-palestinian-rights-ZW7cD8KF9kWxOkWNjsnRlQ).

Brown, Dee. (1972). Bury My Heart At Wounded Knee: An American History Of The American West. New York: Bantam Book.

Buck, Stephanie. (2016, November, 09). These Native Americans Were Murdered Just for Dancing. Retrieved October 09th, 2018 from Soulbelly, multimedia keepsakes for preserving community history (https://timeline.com/ghost-dance-wounded-knee-71926e23cf3b).

Campbell, John. (2016). Morning in South Africa. New York: Rowman & Littlefield Publishers.

Carbaugh, Joshua. (2017, April 26). The Indian Removal Act: A Legal Deception. Retrieved November 22th, 2018 from USFSP Honors Program Theses(https://digital.usfsp.edu/cgi/viewcontent.cgi?article=1188&context=honorstheses).

Churchill, Ward & Morris, Glenn. (1992). Key Indian Laws and Cases. In M. Annette Jaimes (Ed.), The State of Native American: Genocide, Colonization, and Resistance (pp. 13-21). Boston, MA: South End Press.

Churchill, Ward & Wall, Jim Vader. (1997). A Little Matter of Genocide: Holocaust and Denial in Americans, 1492 to the Present. San Francisco: City Lights Bookstore.

Cole, Charles. (1992). Lion of the Forest: James Finley. Lexington, KY: The University Press of Kentucky.

DeFelice, Beth. (2015). Indian Treaties: A Bibliography. Law Library Journal, 107(2), 241-258.

Deloria, Vine. (1985). Behind the Trial of Broken Treaties: An Indian Declaration of Independence. Austin: University of Texas Press.

Deloria, Vine. (1992). Trouble in High Places: Erosion of American Indian Rights to Religious Freedom in the United States. In M. Annette Jaimes (Ed.), The State of Native American: Genocide, Colonization, and Resistance (pp. 267-290). Boston, MA: South End Press.

Dippie, Brian. (1982). The Vanishing American: White Attitudes and U.S. Indian Policy. Lawrence, KS: University Press of Kansas.

Dunbar-Ortiz, Roxanne. (2004). The Grid of History, Cowboys and Indians. In John Bellamy Foster & Robert McChesney (Eds.), Pox Americana (pp. 31-47). London: Pluto Press.

Entine, Jon. (2012). DNA Links Prove Jews Are a ‘Race,’ Says Genetics Expert. Retrieved January 08th, 2019 from Haaretz (https://www.haaretz.com/jewish/dna-links-prove-jews-are-a-race-says-genetics-expert-1.5220113).

Finkelman, Paul & Garrison, Tim Alan. (2008). Encyclopaedia of United States Indian Policy and Law. Thousand Oaks, CA: Sage Publications.

Fixico, Donald. (2017). A Native Nations Perspective on the War of 1812. Retrieved August 22th, 2018 from (http://www.piquashawnee.com/apps/blog/show/44751355-a-native-nations-perspective-on-the-war-of-1812-pbs-org).

Gobineau, Arthur. (1915). The Inequality of Human Races. London: William Heinemann.

Horton, Scott. (2010). Benjamin-History and the State of Exception. Retrieved January 08th, 2019 from Harpers Magazine (https://harpers.org/blog/2010/05/benjamin-history-and-the-state-of-exception/).

Huntington, Samuel. (1993, Summer). The Clash of Civilizations? Foreign Affairs, 72 (3), 22-49.

Jahoda, Gloria. (1975). The Trail of Tears: The Story of the American Indian Removal 1813-1855. New York: Wings Books.

Jaimes, M. Annette. (1992). Sand Creek: The Morning After. In M. Annette Jaimes (Ed.), The State of Native American: Genocide, Colonization, and Resistance (pp. 1-12). Boston, MA: South End Press.

Josephy, Alvin. (1995). 500 Nations: An Illustrated History of North America Indians. London: Hutchinson and Pimilco.

Levy, Gideon. (2019, January 06). 79 Percent of Right-wingers Believe Jews Are the Chosen People. Are You for Real? Retrieved February 08th, 2019 from Haaretz (https://www.haaretz.com/opinion/.premium-79-percent-of-right-wingers-believe-jews-are-the-chosen-people-are-you-for-real-1.6471893).

Mearsheimer‏, John & Walt, Stephen. (2008). The Israel Lobby and U.S. Foreign Policy. London: Penguin Books.

Mohawk, John. (1992). Looking for Columbus: Thoughts on the Past, Present and Future of Humanity. In M. Annette Jaimes (Ed.), The State of Native American: Genocide, Colonization, and Resistance (pp. 439-444). Boston, MA: South End Press.

Morton, Samuel George. (1839). Comparative View of the Skulls of Various Aboriginal Nations of North and South America. Philadelphia: J. Dobson.

O’Brien, Sharon. (1993). American Indian Tribal Governments. Norman, OK: University of Oklahoma press.

Ostrer, Harry. (2012). Legacy: A Genetic History of the Jewish People. Oxford: Oxford University Press.

Pergola, Sergio Della. (2001, August). Demography in Israel/Palestine: Trends, Prospects, Policy Implications. Presented at IUSSP XXIV General Population Conference (S64) on Population Change and Political Transitions, Salvador de Bahia, Brazil.

Prucha, Francis. (1997). American Indian Treaties: The History Of Political Anomaly. Berkeley and Los Angles: University of California Press.

Rabinovich,  Itamar & Reinharz, Jehuda. (Eds.). (2008). Israel in the Middle East: Documents and Readings on Society, Politics, and Foreign Relations, Pre-1948 to the Present. Waltham, MA: Brandeis University Press.

Rabinovich, Itamar & Reinharz, Jehuda (Ed.). (2008). Israel in the Middle East: Documents and Readings on Society, Politics, and Foreign Relations, Pre-1948 to the Present. Waltham, MA: Brandeis University Press.

Rubin, Rita. (2013). ‘Jews a Race’ Genetic Theory Comes Under Fierce Attach By DNA Expert. Retrieved January 08th, 2019 from (https://forward.com/news/israel/175912/jews-a-race-genetic-theory-comes-under-fierce-atta/).

Russell, Thornton. (1987). American Indian Holocaust and Survival: A Population History Since 1492. Norman, OK: University of Oklahoma press.

Salaita, Steven. (2008). The Ethics of Intercultural Approaches to Indigenous Studies: Conjoining Natives and Palestinians in Context. International Journal of Critical Indigenous Studies, 1(1), 2-12.

Salaita, Steven. (2016). Inter/Nationalism: Decolonizing Native America and Palestine. Minneapolis: University of Minnesota Press.

Salaita, Steven. (2017). American Indian Studies and Palestine Solidarity: The Importance of Impetuous Definitions. Decolonization: Indignity, Education & Society, 6(1), 1-28.

Sha’aban, Fuad. (1991). Islam and the Arab in Early American Thought: The Roots of Orientalism in America. Durham, NC: The Acorn Presss.

Singer, J. David. (1961, October). The Level-of-Analysis Problem in International Relations. World Politics, 14(1), 77-92.

Skelton, William. (1976, July). Army Officers’ Attitudes Toward Indians, 1830-1860. North West Quarterly, 67(3), 113-124.

Soltani, Fakhreddin, Naji, Saeid & Amiri, Reza Ekhtiari. (2014). Levels of Analysis in International Relations and Regional Security Complex Theory. Journal of Public Administration and Governance, 4(4), 166-171.

Spirling, Arthur. (2011, December). US Treaty Making with American Indians: Institutional Change and Relative Power, 1784–1911. American Journal of Political Science, 56(1), 84-97.

Starkey, Armstrong. (1998). European And Native American Warfare 1675-1815. Norman, OK: University of Oklahoma press.

Stiffarm, Lenore & Lane Jr., Phil. (1992). The Demography of Native North America: A Question of American Indian Survival. In M. Annette Jaimes (Ed.), The State of Native American: Genocide, Colonization, and Resistance (pp. 23-54). Boston, MA: South End Press.

The Institute for Government Research, Washington, D.C. (1928). The Problem of Indian Administration: Report of a Survey made at the request of Honorable Hubert Work, Secretary of the Interior, and submitted to him, February 21, 1928. Baltimore, MD: The Johns Hopkins Press.

Thornton, Russell. (1987). American Indian Holocaust and Survival: A Population History Since 1492. Norman, OK: University of Oklahoma press.

Thornton, Russell. (2005, Fall-Winter). Native American Demographic and Tribal Survival into the Twenty-first Century. American Studies, 46(3/4), 23-38.

Vecsey, Christopher. (1986). Traditional Ojibwa Religion and Its Historical Changes. Philadelphia: The American Philosophical Society.

Waltz, Kenneth. (1959). Man, the State, and War. New York: Colombia University press.

Waltz, Kenneth. (1979). Theory of International Politics. New York: Random House.