تم النشر في:

مجلة السياسة الدولية، السنة 32، العدد 124، أبريل 1996 (ص. 60-67)

الباحث:

د. حسن عبدالله جوهر – قسم العلوم السياسية – جامعة الكويت

المقدمة

شهدت أدبيات السياسة الدولية المعاصرة زيادة كبيرة وملحوظة من حيث الكم والنوع في الأبحاث الخاصة بقضايا وشؤون التعاون الدولي وذلك منذ السنوات الأولى من عقد الثمانينات، بل وتعاظمت قناعات الكثير من علماء السياسة الدولية بانتشار ظاهرة التعاون الدولي لتغمر مساحات واسعة من صور العلاقات الدولية الثنائية والمتعددة الأطراف في أعقاب انتهاء عهد الحرب الباردة، فقد ظهرت مدرسة جديدة من منظري العلاقات السياسية الدولية تدفعهم الرغبة في تفسير أنماط التعاون المستمر على الصعيد الكوني سيّما بعد بروز بوادر انحسار الهيمنة الأمريكية في عهد الرئيسين جيرالد فورد Gerald Ford وجيمي كارتر Jimmy Carter، وبفضل بعض الابتكارات المنهجية المؤثرة التي حققتها، ظهرت تلك المدرسة الجديدة لتتحدى الفكرة التقليدية والجوهرية لأكبر وأهم مدرسة علمية في حقل السياسة الدولية؛ وبالتحديد “المدرسة الواقعية Realist  School” القائلة بأن مجمل الشؤون الدولية والعلاقات المتبادلة بين وحدات المنظومة الدولية تقوم على فلسفة الصراع إلى حدٍ كبير.

ويستند الانتصار الكبير الذي يدعيه أصحاب هذه المدرسة الجديدة والتي بدأت تُعرف بمدرسة الليبرالية المؤسسية الجديدة Neoliberal Institutional School على توضيح إمكانية التعاون الدولي على الرغم من الطبيعة الفوضوية للنظام العالمي (Grieco، 1988، ص 492-3)، مستخدمين في ذلك الفرضية الأساسية للنظرية الواقعية التي تعتبر الدول القومية ـ المشغوفة بتحقيق مصالحها الذاتية المتعارضة مع مصالح الآخرين ـ الأطراف الرئيسية الفاعلة في المنتظم الدولي، وقد أوضح علماء هذه المدرسة المنافسة للمدرسة الكلاسيكية، من خلال تحليل “محنة السجين المتكررة Iterated Prisoner’s Dilemmas” و”نماذج انهيار السوق Models of Market Failure”، أنه بإمكان الدول القومية تقوية أنماط التعاون فيما بينها وتعزيز نتائج هذا التعاون وذلك عن طريق خلق أنظمة وإجراءات خاصة لمعاقبة الغش ولتقليل تكاليف نقل المعلمات ولتسهيل عقد الصفقات في علاقاتها البينية المتبادلة (Keohane، 1984، ص 107)، ولعل الأهم من ذلك والمدهش من المنظور التحليلي هو أن استخدام أصحاب هذه النظرية الجديدة لافتراضات المدرسة الواقعية Realist Assumptions من جهة، والاختيار العقلاني Rational Choice من جهة ثانية، ومنهجية نظرية اللعبة Theoretic-Game Approach من جهة ثالثة قد يجسّد للبعض تحقّق بشير النجاح في إمكانية تفسير الظواهر المتناقضة لكل من الصراع والتعاون من خلال الرجوع إلى أداة منطقية واحدة (Jervis، 1988، ص 319).

في الواقع، وعلى الرغم من إمكانية قبول رأي أنصار مدرسة الليبرالية المؤسسية الجديدة القائل بأن دراساتهم الخاصة بالتعاون الدولي قد اقتربت كثيراً إلى بعض مضامين وفرضيات دراسات الصراع الدولي إلاّ أن هذا الشكل من التقارب لا يعدو في مجمله اشتراك في الأساليب السطحية فقط، ففي الوقت الذي قد تتقارب فيه الاستخدامات المنهجية للمدرسة الواقعية والمدرسة الليبرالية المؤسسية الجديدة، لا يزال كلا النموذجين يرتكزان على مفاهيم فلسفية مختلفة بشكل أساسي حول طبيعة العالم (كانتور، 1989، ص 100-104؛ بدوي، 1977، ص 32-59)، فمن جهة، ينظر علماء النظرية الواقعية إلى النظام الدولي كعالمٌ هوبزي Hobbesian World الذي يؤدي غياب سلطة مهيمنة رئيسية فيه إلى استشراء حالة عدم الشعور بالأمن والخوف الدائم، ومن جهة أخرى، تبدو الليبرالية المؤسسية الجديدة قائمة على النظرة السميثية Smithian View أو النظرة البنثامية Benthamite View للعالم، والـذي يمكن للناس في ظله التعاون من أجل تحقيق المكاسب المتبادلة Mutual Gains، وبالنتيجة، فأن أي تكامل بين هذين المنهجين كما قد يظهران الآن سوف يمر بوقت عصيب لاجتياز اختبار الترابط المنطقي.

أن مثل هذه المشكلة في الحقيقة تمثّل عائق أساسي أمام قدرتنا على تحسين فهمنا لميكانزمات التعاون الدولي، وبالتالي، فأنه ما لم نتمكّن من القيام بعمل تكاملي حقيقي بين دراسات التعاون والصراع، فإن فهمنا لقضايا التعاون الدولي سوف يبقى قاصراً ومحدوداً، كما سوف نخطئ بصفة خاصة في اكتشاف التفاعل الأساسي بين هذين العالمين المتناقضين، ولذلك، فان المأزق الخطير الذي وقع فيه مؤيدو النظرية الليبرالية المؤسسية الجديدة عند تفسير ظواهر التعاون العالمي ـ وكما يبدو حالياً ـ لا يكمن في تمسّكهم بـ “بفرضيات واقعية مبالغ فيها”، ولكن في اعتمادهم على مفاهيم ليبرالية لا يمكن أن تتوافق مع المنظور الواقعي لعالم الصراع وانعدام الأمان، وبالنتيجة، فأن الطريقة المثلى لفهم ظاهرة التعاون الدولي في إطار الرؤية الواقعية لعالم الصراع، وبقدر أكبر من الدقة، تكمن في الدراسة هذا الموضوع بشكل متناغم ومنسجم مع مفاهيم الصراع والفوضوية التي تنطلق منها المدرسة الواقعية نفسها.

وانطلاقاً من العرض السابق، سوف تركّز هذه الدراسة على التحقّق من الفرضيتين الرئيسيتين التاليتين:

  1. لا تتوافق المنهجية العلمية للمدرسة الليبرالية المؤسسية الجديدة في تفسير ظواهر التعاون الدولي مع الفرضيات الأساسية للمدرسة الواقعية في حقل العلاقات الدولية.
  2. يمكن تفسير ظواهر التعاون الدولي في إطار الفلسفة الكلية للمدرسة الواقعية.

وتكمن أهمية هذه الدراسة في ضرورة الكشف عن الغموض والوهم الذي بدأ يساور بعض المتخصصين في نظريات السياسة الدولية حول تقارب المنهجية العلمية لكل من المدرسة الواقعية والمدرسة الليبرالية الجديدة، أو حتى التقاء الفرضيات الأساسية التي تنطلق منها كل من المدرستين في تفسير ظواهر التعاون الدولي كما  يزعم أنصار المدرسة الليبرالية الجديدة، كما تسعى هذه الدراسة إلى إثبات جدارة المدرسة الواقعية في تفسير ظواهر التعاون الدولي المعاصر دون المساس بالفرضيات الفلسفية أو المنهجية العلمية لهذه المدرسة القائمة على أساس مفهوم الصراع  واللانظم في المعترك الدولي، وبمعنى أخر، يجب الفصل بين النتائج  المتشابهة في تحليل ظواهر السياسة الدولية في كل من المدرستين المتعارضتين من خلال إعادة  رسم الحدود النظرية والمنهجية لكل منهما، وسوف تعتمد الدراسة على منهج التحليل النقدي المقارن Critical Comparative Analysis في تقييم مفاهيم الأساس الفلسفية لكل من المدرستين موضوع الدراسة ومدى انسجامها مع النتائج التي تحاول كل منها التوصل إليها في تفسير أنماط التعاون الدولي.

وتنقسم الدراسة إلى ثلاثة أجزاء رئيسية بالإضافة إلى الخاتمة، يحاول الجزء الأول إعادة استعراض الاختلاف الأساسي بين المدرسة الواقعية والمدرسة الليبرالية المؤسسية الجديدة خصوصاً فيما يتعلق بمفاهيم الدولة العقلانية والمصلحة القومية والطبيعية الفوضوية للعالم، وفي الجزء الثاني سوف يتم التحقّق من صحة الفرضية الأولى في عدم توافق المنهجية العلمية للمدرسة الليبرالية المؤسسية الجديدة في تفسير ظواهر التعاون الدولي مع الفرضيات الأساسية للمدرسة الواقعية في حقل العلاقات الدولية، ويحاول هذا الجزء أن يثبت بأن كتابات أنصار التعاون الدولي الحديث من المدرسة الليبرالية ليست قائمة على أساس فرضيات المدرسة الواقعية، وإنما على نفس منطلقات الفلسفة المثالية للنظرية الليبرالية الكلاسيكية وهي نظرة تتعارض كلية مع المنظور الواقعي في عالم السياسة الدولية، ويهتم الجزء الثالث بإثبات الفرضية الثانية في محاولة جديدة لإعادة توجيه نظريات التعاون الدولي الجديدة بشكل يتناسب مع مفاهيم الأساس للمدرسة الواقعية مدعماً ببعض الأمثلة والتطبيقات العلمية لظواهر التعاون الدولي في ظل ظروف دولية مختلفة، وتختتم الدراسة بطرح مفهوم الواقعية ذات البعد الإنساني كنموذج جديد قادر على تحفيز البحث العلمي باتجاه نظريات أكثر تكاملاً في العلاقات الدولية قادرة على حل التناقضات الظاهرية في ظواهر السياسة الدولية.

الاختلاف الأساسي بين الواقعية والليبرالية الجديدة

كما تم ذكره آنفاً، هناك مفهوم خاطئ وشائع في نفس الوقت يسود معظم النقاش عن النظرية الليبرالية المؤسسية الجديدة، ويدور هذا المفهوم الخاطئ حول الفكرة القائلة بأن المنهجية العلمية لهذه المدرسة، ومن ثَمَّ النتائج التي تتوصل إليها في تفسير التعاون الدولي تتوافق مع الفرضيات الأساسية للمدرسة الواقعية، ويعود السبب الأساسي وراء هذا الاعتقاد إلى حقيقة قبول المنظرين الليبراليين المؤسسيين الجدد بالفرضية القائلة بأن الدولة العقلانية ذات المصالح الذاتية Rational Self-interested State هي الفاعل الرئيسي في السياسة الدولية، متـفقين بذلك مع أنصار المدرسة الواقعية، وخلافاً لنظرة زملائهم من الليبراليين التقليديين الذين يعيرون أهمية أكبر لقواعد الأخلاق والمثل والقانون الدولي والمنظمات الإقليمية والعالمية كمرتكزات ومحفزات لنتائج التفاعلات الدولية (Krasner، 1983، ص 7؛ Keohane، 1989، ص 36)، وتبعاً لهذا الاعتقاد، فقد أدّعى هؤلاء المنظرون تحقيق نصرٍ عظيمٍ في توضيح وتفسير إمكانية قيام التعاون بين الدول القومية متناقضة المصالح والأولويات حتى في ظل العالم الكئيب الذي تتبناه النظرية الواقعية، وتعتبر تعليقات روبرت كوهين Robert Keohane، الذي يعد من أقطاب المدرسة الليبرالية المؤسسية الجديدة ومؤسسيها الأوائل، في هذا الصدد نموذجية، يقول كوهين (1984) في كتابه الشهير “بعد الهيمنة After Hegemony“:

“أن تبني فرضية الأنانية العقلانية Rational Egoism يضع النقاش في هذا الكتاب على نفس أساس النظريات الواقعية، ويكمن النقاش هنا أن أهمية النسق الدولية International Regimes لا تعتمد على تهريب الفرضيات الخاصة بالإيثار واللاعقلانية، أنني حين أبدأ بنفس المقدمات المنطقية لمثل هذه الحوافز، فأني أسعى إلى إظهار أن تشاؤم الواقعية عن التعاون الذي يزيد الرفاهية أمر مبالغ فيه”، (p.29)

وبالمثل يكتب أحد المدافعين الآخرين عن المدرسة الليبرالية المؤسسية الجديدة، تشالرز ليبسون (1984) Charles Lipson، بأن استخدام لاعبين توجههم المصلحة الذاتية وزيادة المنفعة للحد الأقصى في نموذج “محنة السجين Prisoner’s Dilemmas” يعتبر “افتراضاً موازياً وبشكل واضح للمفهوم الواقعي عن الدول ذات السيادة في السياسة الدولية”. (ص 2)

ولكن إذا تمعنّا عن قرب أكثر في تعريف المصلحة الذاتية الذي يستخدمه أصحاب نظرية الليبرالية المؤسسية الجديدة، يصبح من الواضح أن أوجه التشابه بينها وبين النظرية الواقعية سطحية فقط، فعلى سبيل المثال، فأن “الأنانية العقلانية Rational Egoism” بالنسبة لروبرت كوهين Robert Keohane تعني أن الدول القومية تهتم فقط برفاهيتها الخاصة، ويقول كوهين (1984) في هذا الخصوص: “تكون الوظائف النفعية للدول مستقلة عن بعضها البعض: فـالدول لا تحـقق مـكسب أو خسارة فقـط بسبب مكاسب وخسائر الآخرين” (ص 27).

إذاً، يمكن القول بأن فرضية المصلحة الذاتية هي التي  تسمح منظري الليبرالية المؤسسية الجديدة من أمثال روبرت كوهين وتشالرز ليبسون وغيرهما باستخدام نماذج محنة السجين وانهيار السوق من أجل إظهار أن الأنماط والنسق الدولية International Regimes يمكن أن تكون ذات نفع للدول، إذ أن كلا النموذجين يتضمن قاسم مشترك في التعاون الذي يمكن تبريره فقط بهذا التعريف الليبرالي للمصلحة الذاتية، يعلّق آرثر شتاين (1983) Arthur Stien في هذا الخصوص:

“أن افتراض وجود أزمات للمصالح المشتركة والكراهيات المشتركة هو الذي يعمل على ظهور نسق تفترض بأن ممثلي المصلحة الذاتية Self-interested Actors يكون لديها أشياء مشتركة بالفعل، هذه وجهة نظر ليبرالية إلى حدٍ كبير، وليست احتكارية (تجارية)، عن المصلحة الذاتية؛ وتوحي بأن الممثلين يركزون على عوائدهم ويقـارنون النتائـج المختلفة مع الأخذ بالاعتبار تعظيم مكاسبهم الخاصة إلى الحد الأقصى”، (ص 134)

من الفقرة السابقة نجد أن آرثر شتاين، سواءً كان قاصداً أم لا، قد بيّن بوضوح الاختلاف الرئيسي بين النموذجين الواقعـي والليبرالـي المؤسسي الجديد، فبينما يركّز النموذج الأول على وجهة نظـر تجارية ـ احتكارية، يقوم النموذج الثاني على وجهة نظر ليبرالية للمصلحة الذاتية، ومن أجل توضيح هذا  الاختلاف الجوهري بين المدرستين بصورة أفضل، يكون من الأهمية بمكان تقييم النظرة الفلسفية لكل منهما فيما يتعلق بطبيعة النظام الدولي والدوافع المحفزة لسلوكيات الوحدات السياسية داخل هذا النظام.

فمن جهة، تستند المدرسة الواقعية إلى الاعتقاد بأن الطبيعة الفوضوية للنظام الدولي تجعل الدول القومية قلقة بشأن أمنها وسلطتها الذاتية بشكل مستمر (بدران، 1994، ص 33-38)، وبالنتيجة، يرى الواقعيون أن تركيز اهتمام هذه الدول يكون بشكل أساسي بمركزها النسبي من ناحية القوة داخل النظام العالمي، وأن مثل هذا الاهتمام لا يسمح لها بطبيعة الحال إلى السعي مغمضة العين نحو تحقيق المكاسب المطلقة، وبدلاً من ذلك، ينبغي على هذه الدول أن توجه انتباهها إلى المكاسب النسبية التي يحققها الآخرون، يقول جوزيف جريكو (1990) Joseph Grieco في بيان هذا المعنى:

“القدرات وبصفة خاصة، مقدارها ونوعيتها مقارنة بالآخرين، هي الأساس المطلق لأمن واستقلال الدولة في إطار المساعدة الذاتية للفوضى الدولية، ونتيجة لذلك، يجد الواقعيون أن الهدف الأساسي للدول في أية علاقة ليس الحصول على أعلى مكسبٍ أو ربحٍ فردي، بل منع الآخرين من تحقيق تقدم في قدراتهم النسبية بدلاً من ذلك”، (ص 39)

وهكذا، يشير جريكو إلى أن الوظيفة النفعية للدولة يجب أن تأخذ في الاعتبار ليس فقط ربحها المطلق في أي مشروع تعاوني Cooperative Venture، بل أيضاً الفرق بين الربح الذي تجنيه من هذا المشروع من ناحية والربح الذي يحققه شركاؤها من نفس المشروع من ناحية أخرى، وعند القيام بمثل هذا التعديل، فأن لعبة محنة السجين التي تعتبر أساس النماذج الليبرالية الجديدة سوف تصبح تحت ظروف معينة لعبة الفشل التام A Game of Deadlock، وسوف يصبح التعاون في هذه الحالة مستحيلاً.

ولكي نتجنب التعثر في لعبة لغة الاصطلاحات النظرية، يكون من المهم العودة إلى الوراء قليلاً والتذكر بأن الفرق الأساسي بين الواقعية والليبرالية الجديدة أعمق من مجرد الخلاف حول عدد المصطلحات التي ينبغي تضمينها في وظيفة الدولة النفعية، وفي الحقيقة، فأن الاختلاف بين هاتين المدرستين يبدأ من مستوى القاعدة الأساسية لانطلاق كل منهما، وبمعنى أدق، فأن هذين النموذجين يقومان على نظريتين للعالم مختلفتين بشكل جوهري، ففي ظل النموذج الواقعي، يقترب النظام الدولي بشكل كبير من حالة الطبيعة كما يبينها توماس هوبز (1651/1958) Thomas Hobbes، حيث أن غياب السلطة المهيمنة يؤدي إلى ما يسميه هذا الفيلسوف الإنجليزي في كتابه الأشهر “التنين Leviathan” بحالة حرب “كل إنسان ضد كل إنسـان War of every man Against every man” (الجزء 1، الفصل 13، ص 186)، وهذا قد لا يعني بالضرورة أن يكون الناس دائماً في حالة حرب ولكن يعني أن احتمال نشوب العنف بينهم يظل قائماً على الدوام، يضيف توماس هوبز (1651/1958) في هذا الخصوص:

“كما طبيعة الطقس السيّئ لا تكمن في هطول المطر مرة أو مرتين، بل الميْل  إلى عدة أيام متوالية: كذلك الحال بالنسبة لطبيعة الحرب التي لا تتكوّن من القتال الفعلي بل في الإتجاه المعروف نحوها، ففي كافة الأوقات ليس هناك ما يؤكد العكس”، (الجزء 1، الفصل 13، ص 186)

ولعل هو بالضبط ما كان يقصده كينيث والتز (1979) Kenneth Waltz عندما كتب قائلاً: “في السياسة الدولية أن القوة تخدم Force Serves، ليس فقط بصفـة الخيار الأخير، بل بصفة الخيار الأول والدائم” (ص 113)، ونتيجة لهذا الاعتقاد، يرى أنصار المدرسة الواقعية أن الدولة تعيش في حالة دائمة من الخوف وانعدام الأمان، وتكون قلقة دائماً من احتمال قيام الآخرين بتهديد بقائها، وهكذا، فأن الدول في نظرهم يجب أن تحترس دائماً من خطط الأعداء المحتملين، ويجب تبعاً لذلك أن تنتبه  إلى  نتائج التوزيع لأي تبادل أو مشروع تعاوني.

وعلى الجانب الآخر، يبدو أن أصحاب نظرية الليبرالية المؤسسية الجديدة يعتمدون على نظرة حميدة للنظام الدولي بقدر أكبر، فعلى الرغم من ابتعاد الليبرالية الجديدة عن بعض افتراضات الليبرالية التقليدية (Keohane، 1989، ص 8) إلاّ أنها بقيت مع ذلك مخلصة لجذورها في النظرية الاقتصادية الكلاسيكية، وفي مثل هذا العالم، كما يعبر عنه كل من آدم سميث Adam Smith، مؤسس علم الاقتصاد الكلاسيكي، والفيلسوف الإنجليزي جيريمي بنثام Jeremy Bentham، لا يكون التركيز منصباً على الصراع، بل على التكافل والمكاسب المتبادلة (Crane & Amawi، 1991، ص7) ، وعلى الرغم من أن الليبراليين الجدد ليسوا مثاليين لحد الاعتقاد بفكرة “انسجام المصالح Harmony of Interests” بصورة كاملة (Carr، 1964، ص 207)، إلاّ أن تركيزهم على المكاسب المطلقة أكثر من المكاسب النسبية يوجه ضربة قوية لهذا المفهوم، فبالنسبة لهؤلاء، فأن العائق الرئيسي للتعاون الدولي لا يكمن في نشوب أي صراع أساسي بين الدول القومية ولكن في الظروف البنيوية Structural Conditions المحيطة بالعلاقة الثنائية السائدة بينها، تماماً مثل هؤلاء المحتجزين في محنة السجين، تلك الظروف التي تمنع هذه الدول أو المحتزين من تحقيق نتائج مثالية، بالإضافة إلى ذلك، فأن تلك المشاكل لها صعوبتها الخاصة في السياسة الدولية، حيث تعني الفوضى عدم وجود سلطة قادرة على تطبيق الاتفاقيات التعاقدية بين الدول بالقوة، ويضيف ليبسون (1984) Lipson في هذا الشأن:

“تلك الأدوات القانونية شائعة على المستوى المحلي ولكن نادرة على المستوى الدولي، وبالفعل، فأن غياب الضمانات التي يمكن الاعتماد عليها هي خاصية أساسية للعلاقات الدولية وعائق رئيسي أمام إبرام المعاهدات والعقود والاتفاقيات”، (ص 4)

فالاختلاف الرئيسي بين الواقعيين والليبراليين الجدد، إذاً، يتركّز في فهم كل فريق لنتائج الفوضى التي يقوم على أساسها النظام العالمي، فبالنسبة للواقعيين، فأن الفوضى تعني أن ظواهر العنف تبقى احتمالاً دائماً ويجب الاحتراس منها بصفة مستمرة، أما بالنسبة لأنصار الليبرالية الجديدة فأن الفوضى تعني عدم وجود سلطة قادرة على تطبيق التعاقدات ومنع النتائج دون المثالية (مقلد، 1982، ص 52-53)، ونتيجة لذلك، فأن الهدف الرئيسي للدولة الواقعية يتمثل في الحفاظ على أو تعزيز مركزها من حيث القوة، بينما الهدف الرئيسي للدولة الليبرالية الجديدة هو إيجاد الحدود المثالية مع الدول الأخرى (مقلد، 1982، ص 287-288)، وهذا هو، في الحقيقة، الاختلاف الأساسي الذي يميّز طريقة منهجي الواقعية والليبرالية الجديدة للتعاون الدولي.

ورطة الليبرالية الجديدة: تفسير الصراع في عالم المكاسب المطلقة

يفترض أن يتضح من المناقشة الآنفة أن الكتابات الحديثة عن التعاون الدولي ليست قائمة على فرضيات المدرسة الواقعية، بل تقوم بدلاً من ذلك على أساس نظريتها الليبرالية الخاصة (الكلاسيكية) إلى العالم، وهي نظرة غير متوافقة في حقيقة الأمر مع وجهة نظر علماء الواقعية، وفي هذا الجزء سوف نبيّن أن لأية نظريات التعاون القائمة على فرضيات الليبرالية الجديدة تواجه صعوبات تحليلية مهمة قد تعيق فهم دور حقيقة التعاون في السياسة الدولية بشكل متكامل ومنطقي، وفي المقابل، سوف نستعرض كيف يمكن للمنهج الواقعي أن يسلط الضوء على المسائل التي لم توف حقها من التركيز والاهتمام حالياً من قبل كتاب الليبرالية الجديدة رغم أنها قد تساهم في خلق نظرية متكاملة وأكثر صدقاً للعلاقات الدولية.

أن المشكلة الرئيسية التي تواجه الكتابات الليبرالية في معالجة موضوع التعاون الدولي تكمن في عدم قدرتها على التصالح المنطقي مع طبيعة العالم القائمة على أساس الصراع بين الدول، وأن معظم رواد الليبرالية الجديدة لديهم الرغبة في الاعتراف بوجود نطاق مهم من نشاط الدولة، سيما في إطار البعد العسكري الإقليمي، والذي تكون محصلة التفاعلات في ظله إما صفرية Zero-Sum أو ذات مجموع ثابت Constant-Sum، فعلى سبيل المثال، يقول جيرفيس (1983) Jervis في هذا الصدد بأنه طالما “يتم اختبار القوة العسكرية في حالات الصدام بين الدول، فأنها (القوة العسكرية) نسبية وليست مطلقة” (ص 175)، كيف يمكن، إذاً، لليبرالية الجديدة التوفيق والجمع بين حقيقة استخدام القوة وتركيزها في نفس الوقت على المكاسب المطلقة؟

لعل الإجابة الأكثر شيوعاً في هذا الصدد تكمن في افتراض وجود فجوة أساسية بين الأمن العسكري من جهة، والمجالات السياسية ـ الاقتصادية من جهة أخرى، مع اعتبار قضية المكاسب النسبية تنطبق فقط على الأمن العسكري، وبذلك تكون لدى علماء الليبرالية الجديدة الرغبة في التخلص من بعض تفسيرات القوة في مجال الأمن بغية إدعاء نفوذ مهم في مجال الشؤون السياسية الاقتصادية، ولعل مـن أكثر الأمثلـة وضـوحاً فيما يتعلق بهذا النوع من تقسيم مجالات القوة يمكن العثور عليه في كتاب ريتشارد روزكرانس (1986) Riched Rosecrance “نشوء الدولة التجارية Rise of  the Trading State“، في هذا الكتاب يقسّم روزكرانس النظام العالمي على نحو واضح إلى “عالمين” هما: العالم العسكري الإقليمي والعالم التجاري، ويضع روزكرانس قواعد مختلفة للغاية تحكم طبيعية التفاعلات في كل من هذين العالمين كما يطرح في نفس الوقت مناهج نظرية متباينة لفهم كل منهمـا (Rosecrance، 1986، ص 2).

في الواقع، يعتبر هذا الأسلوب في تقسيم النظام العالمي إلى عوالم أمنية واقتصادية وسياسية أو غيرها منهجاً غير مقنعٍ ومصطنعٍ في الوقت نفسه، وقد اكتشف أصحاب النظرية الاقتصادية ـ الاحتكارية خلال ثلاثة قرون مضت بأنه من المستحيل الفصل بين شؤون الدولة الاقتصادية وقضاياها العسكرية، فبدون الثروة الاقتصادية لا يمكن للكثير من الدول بناء قوة عسكرية فاعلة ومعتبرة، بالمثل، فأنه بدون البنية العسكرية القوية لا يمكن تحصيل ثروات اقتصادية كبيرة، وبمعنى آخر، تعتبر كل من القوة العسكرية والقوة الاقتصادية أساساً للحصول على الأخرى ومكملة لها ضمن علاقة اعتماد متبادل بينهما، بل أن هنالك انسجام مهم بين الأهداف الاقتصادية والأهداف العسكرية على المدى الطويل (Viner، 1948، ص 10)، وهذه العلاقة ليست فقط بديهية، ولكن يعززها أيضاً الدليل التجريبي، فقد استنتج بول كندي (1987) Paul Kennedy  في كتابه المفصل عن تاريخ أوربا في الخمسمائة سنة الأخيرة وجود:

“علاقة عرضية (سببية) بين التحولات التي وقعت على مر الزمن في الموازين الاقتصادية العامة والإنتاجية والوضع الذي تحتله القوة الفردية في النظام العالم ،،، والسجل التاريخي يوحي بوجود صلة واضحة على المدى الطويل بين النشوء والسقوط الاقتصادي لقوة عظمى فردية ونموها وانحسارها كقوة عسكرية هامة (أو إمبراطورية عالمية)”. (ص xxii)

هنالك، إذاً، إمكانية قوية لتحويل مصادر القوة بين العوالم الأمنية والاقتصادية، وعلى افتراض أن تلك هي القضية، فكيف يمكن لليبراليين الجدد قبول أهمية المكاسب النسبية في تطبيقات المجال الأمني ورفضها في المجال الاقتصادي؟

إضافة إلى ذلك، تعاني الليبرالية الجديدة من مشكلة أخرى تتعلق بالصراع داخل العالم الاقتصادي نفسه، وهو المجال الذي تدعي فيه السيطرة والتفوق، وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى كتاب روبرت غيلبين Robert Gilpin عن الاقتصاد السياسي للعلاقات الدولية (1987) The Political Economy of International Relations  المفعم بالأمثلة والتطبيقات العملية فيما يخص الصراع على تقسيم المكاسب الاقتصادية، فالنزاع القائم حالياً على تجارة الخدمات، مثلاً، لا يتعلق بكيفية التوصل إلى نتيجة مثالية تحصل فيها كل دولة على منفعة معينة بشكل مطلق، ولكن وبكل وضوح تتحدد نتيجته في تعيين من يكسب أكثر، ونفس هذا الصراع، من جهة نظر الدول النامية، يحدّد عما إذا كانت تبعيتها الاقتصادية للعالم الصناعي ستكون هي النتيجة الصافية (ص 200-201)، وبالمثل، يوضح جوزيف جريكو J، Grirco في كتابه “التعاون بين الأمم (1990) Cooperation Among Nations” وبشكل أكثر إقناعاً بأن نجاح جهود تخفيض الحواجز غير الجمركية قد اعتمدت بشكل كبير على النتائج التوزيعية  لتلك الجهود (الفصل 7).

بالنتيجة، إذاً، يمكن أن نخلص إلى القول بأن نظريات الليبرالية الجديدة بتركيزها على المكاسب المطلقة، لا يمكن أن تفسر مثل هذه الظواهر الخلافية والاختلافية في عالم السياسة الدولية، طالما أن جذور الصراع في تلك القضايا تتمثل في اهتمامات الدول بالمكاسب النسبية.

تركيبة واقعية جديدة

يتبيّن من العرض السابق أن محاولات أصحاب النظرية الليبرالية الجديدة لتفسير التعاون الدولي تعاني من خطأين مهمين وجسيمين، فمن ناحية، تركّز هذه المدرسة على الفصل غير الشرعي للعالم الأمني والعالم الاقتصادي بهدف تبرير التركيز على المكاسب المطلقة، ومن ناحية ثانية، وبسبب الاقتصار في الأساس على المكاسب المطلقة، فأن نظريتهم عن التعاون لا يمكن أن تضع في نفس الوقت حساباً للصراع، حتى داخل العالم الاقتصادي.

ومن هذا المنطلق، نفترض في هذا الجزء من الدراسة بأن الطريقة الوحيدة للتغلب على مثل تلك المشكلات تكمن في إعادة توجيه نظرية التعاون بحيث ترتكز على أساس واقعي بحت، وأن القيام بمثل هذا العمل لا يساعدنا فقط على فهم طبيعة التعاون بين الدول بشكل أفضل، بل سيساهم أيضاً في إيجاد نظرية أكثر تكاملاً للعلاقات الدولية.

ولعل التساؤل الرئيسي الذي يطرح نفسه في هذا الصدد يدور حول ماهية شكل نظرية التعاون الواقعية، وعلى الرغم من أن هذه الدراسة لا ترمي بالضرورة إلى ابتكار نموذج مفصل ومتكامل للتعاون الدولي، إلا أنه من الممكن طرح جملة من الخصائص الأساسية المتعلقة بهذه الظاهرة كرؤية مستحدثة لكيفية تذليل العقبات المهمة التي تواجه نظريات الليبرالية المؤسسية بثوبها الجديد، وفي هذا المقام، بالتحديد، نحاول التركيز على فكرتين أساسيتين ضمن إطار المنهج الواقعي ونظرته للعالم من أجل معالجة موضوع التعاون الدولي، وتتمثل الفكرة الأولى في ضرورة الاعتماد على المكاسب النسبية وليس المكاسب المطلقة في توضيح وتفسير ظواهر التعاون بين الدول على المستوى العالمي، وتكمن الفكرة الرئيسية الأخرى في أهمية إدراك إمكانية ممارسة لعبة الأدوار المتداخلة Nested Games بواسطة الدول القومية في علاقاتها التعاونية مع الآخرين، وبما أن هذا النوع من التحليل ينطلق من المعطيات الأساسية للمدرسة الواقعية، فأن تناول دور هذين العنصرين (المكاسب النسبية والأدوار المتداخلة) سوف يكون من خلال التركيز الدائم على التوزيع العالمي للقوة وتأثير ذلك على التوقعات الخاصة بنتائج التعاون.

على ضوء ما تم مناقشته حتى الآن، فليس من قبل المفاجأة أن تبدأ نظرية التعاون الواقعية من فرضية أساسية قوامها أن الدول تعني بالمكاسب النسبية، ولكي نستغل هذا المفهوم بالشكل الصحيح، وفي جميع الأحوال، يكون من المهم القيام بإدخال بعض التحسينات عليه، فعلى الرغم من أن الدول تقلق بلا شك من المكاسب النسبية التي من الممكن أن يحققها شركاؤها في أي مشروع تعاوني، فأنه من غير المعقول التوقع بأنها ستنظر إلى كافة الشركاء المحتملين بصورة متساوية، وبالتحديد، فأن الدولة التي يحتمل أن تكون قلقة من ناحية المكاسب النسبية عندما يكون شريكها في المشروع التعاوني منافساً قريباً وذلك بشكل أكبر من الحالة التي يكون فيها هذا الشريك أضعف بكثير من ناحية مقومات القوة، فعلى سبيل المثال، يمكن للولايات المتحدة بالطبع قبول بعض التخفيف في قوتها النسبية في مقابل كندا، بينما لا يمكن أن يكون نفس المقدار من التخفيف مقبولاً بالنسبة لها في مقابل الإتحاد السوفيتي السابق، وهكذا، ففي أية علاقة ثنائية فأن الدرجة التي يمكن أن تخلق عندها المكاسب النسبية مشكلة تعتمد بدرجة كبيرة على معدل قدرات الشركاء.

أن هذا التعديل البسيط بمفرده يحمل مضامين أساسية بالنسبة لفهمنا للعلاقات الدولية، أولاً وقبل كل شيء، فأنه يساعدنا على الإجابة على السؤال الذي لم تتطرق إليه الليبرالية الجديدة وهو: “أي الشركاء تتعاون معهم الدولة”؟ في عالم المكاسب المطلقة، فأن الإجابة على هذا السؤال تكون بالتأكيد: “الشركاء الذين يساعدونك على صنع أكبر كعكة”، وهكذا فأنه يمكن للولايات المتحدة وخصم لدود وقوي لها مثل الإتحاد السوفيتي السابق أن يتعاونا لتحقيق المكاسب المطلقة الضخمة لكليهما في ظل عالم الليبرالية الجديدة حتى لو كان توزيع المكاسب بينهما غير متساوٍ إلى حدٍ كبير، ولكن في إطار النموذج الواقعي الذي أوجزناه في هذه الدراسة، يمكننا أن نتوقع احتمال أكبر لحدوث التعاون بين الدول ذات القدرات النسبية غير المتساوية، بل أنه في مثل هذه الحالة فأنه كلما كان الفرق في القوة أكبر، كلما كان التعاون أسهل وأيسر، وهذا المفهوم في الحقيقة ينسجم مع نظريات الهيمنة المستقرة Hegemonic Stability حيث أن الطرف المهيمن Hegemon يكون متفوقاً بشكل كبير على شركائه المحتملين ويملي بذلك شروطه عليهم بالكامل (Keohane، 1991، ص 260-261؛ Wallerstein، 1991، ص 237).

ومن جهة أخرى، إذا أخذنا بالاعتبار مثل هذه العلاقة غير المتكافئة في إطار اصطلاحات نظرية المباريات وأجرينا تعديلاً في نموذج محنة السجين الأساسية لنأخذ المكاسب النسبية في الحسبان، فسوف نجد أنه كلما كانت الدول القومية أقرب لبعضها البعض في القدرات النسبية، كلما كان التفاعل بينها أكثر شبهاً بالطريق المسدود Deadlock، ولكن عندما نقوم بدراسة العلاقات الثنائية غير المتكافئة بشكل أكبر فأن اللعبة سوف تبقى في إطار نموذج محنة السجين التقليدية، وحتى في هذه الحالة سوف يظل منطق إكسلرود Axelrod ضربة بضربة Tit-for Tat قائماً، وسيكون التعاون بين الطرفين غير المتكافئين في درجات القوة ممكناً أيضاً (Axelrod، 1984، ص 193-195).

ولكي نعتبر هذه النظرية معقولة أكثر، فأننا نحتاج فقط إلى دراسة العلاقات بين الولايات المتحدة واليابان في العقود القليلة الأخيرة، فبعد الحرب العالمية الثانية، كانت اليابان أضعف بكثير من الولايات المتحدة، وقبلت الولايات المتحدة بسهولة نظاماً تجارياً يدعو إلى فتح أسواقها أمام البضائع اليابانية بينما سمح لليابان، في المقابل، بالاحتفاظ ببعض إجراءات الحماية الجمركية، ومع تطور اليابان المدهش في الثمانينيات وأوائل التسعينيات أصبح هذا النوع من التعاون التجاري بين البلدين أكثر صعوبة، وبدأت الولايات المتحدة تمارس مختلف أنواع الضغط السياسي والاقتصادي لدفع اليابان إلى إعادة فتح أسواقـها أمـام الصادرات الأمريكية (شريف، 1993، ص 39-40)، وفي نفس الوقت بدأت الولايات المتحدة في إقامة الحواجز الجمركية أمام الواردات اليابانية، فلا يبقى مجال للشك، إذاً، بأن تراجع قوة الولايات المتحدة النسبية في المقابل اليابان هو الذي أدى إلى تفاقم الصراع بين الدولتين (Thurow، 1992، الفصل 4،5)، بل ومن الطبيعي أن تشهد العلاقات التجارية بين القطبين الاقتصاديين العملاقين مزيداً من التوتر، وأن تهدد واشنطن بإعلان حرب تجارية على طوكيو في ظل استمرار العجز التجاري السنوي والتراكمي بين الجانبين لصالح اليابان، كما يمكن تفسير بدايات التوتر بين الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوربية ضمن نفس هذا الإطار التحليلي سيما في ظل تنامي القوة الاقتصادية في القارة الأوربية تحت مظلة الإتحاد الاقتصادي القاري المرتقب (أتالي،1991، ص 101-113).

وعلى النقيض من ذلك، فليس من محض المصادفة أن يصبح تعاون الولايات المتحدة مع الإتحاد السوفيتي قبيل تفكك هذه الدولة العظمى في نهاية عقد الثمانينيات ومطلع التسعينيات أكثر سهولة من فترات الذروة في عهد الحرب الباردة، وكذلك استمرار هذا التعاون الأمريكي مع جمهورية روسيا الاتحادية وبقية جمهوريات الإتحاد السوفيتي السابق النووية بعدما تآكلت قوة ذلك العملاق النووي بشكل أساسي وتراجعت قوة هذه الجمهوريات الجديدة النسبية في مقابل الولايات المتحدة، فحين لم يعد الإتحاد السوفيتي ذلك التهديد الإستراتيجي الكوني، أصبحت الولايات المتحدة أكثر رغبة في التعامل مع البقايا السياسية لذلك الغريم السابق.

ويتمثل العنصر الأساسي الثاني الذي يجب تضمينه في أية نظرية واقعية للتعاون الدولي في إدراك إمكانية الأدوار المتداخلة Nested Games، وباستخدام هذا المفهوم يمكننا التوصل إلى إيجاد علاقة واضحة بين عالمي الصراع والتعاون وتوضيح مدى اعتماد الأخير على الأول، ويقتضي منطق الأدوار المتداخلة لفهم سلوك طرف ما في مجموعة واحدة من التفاعلات أو العلاقات، ضرورة النظر إلى المحيط الذي يتم فيه أداء هذا الدور ككل، وبعبارة أخرى أدق، يجب الاهتمام بالتأثير المحتمل للأطراف الموجودة خارج إطار نشاط معين على الأطراف الذين يقومون بممارسة هذا النشاط أو الدور في الداخل (Tsebelis، 1990، ص 239-240)، ففي قضايا التعاون الدولي، مثلاً، فأننا نهتم برؤية كيفية تأثّر سلوك الدولة داخل كتلة ما بعلاقة هذه الكتلة ككل مع الدول الأخرى في الخارج، وأن المثال الذي يفرض نفسه هنا، بالطبع، هو نموذج العلاقات التي سادت بين القوى الغربية بعد الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية عهد الحرب الباردة مع مطلع هذا العقد، فعلى السطح الظاهري كانت تبدو رعاية الولايات المتحدة لترتيبات اقتصادية مثل الاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة “الغات GATT” ونظام بريتون وودز المصرفي Bretton Woods مخالفة بذلك مبادئ الواقعية الأساسية، حيث سمحت تلك الترتيبات لدول مثل اليابان وأوربا الغربية بتحقيق مكاسب نسبية ملحوظة على حساب الولايات المتحدة، ومع ذلك، فأننا نفترض أنه بإمكاننا فهم سلوك الولايات المتحدة تجاه تلك الدول فقط من خلال تحليله داخل إطار المحصلة الصفرية للعلاقات الأمريكية ـ السوفيتية.

فمع نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت الولايات المتحدة في وضع اقتصادي وسياسي وعسكري يمكّنها من تقوية حلفائها الغربيين بوسائل تسمح لهم “باللحاق بها Catch Up ” لاحقاً من جهة، أو أن تترك تلك الدول المنهكة من آثار الحرب المدمرة ضعيفة ومن ثمّ عرضة للضغط السوفيتي، وهكذا، لم يكن الخيار الأمريكي محصوراً بين التعاون الذي من الممكن أن تتكبد فيه خسائر نسبية أو عدم التعاون الذي من الممكن أن تحتفظ فيه بمركز القوة منفردة، ولكن كان ذلك الخيار مرتبطاً إما بالتعاون الذي يمكن أن يحقّق الحلفاء الضعفاء من خلاله مكاسب نسبية أو عدم التعاون الذي يمكن أن يحقق بسببه ألد منافسيها (الإتحاد السوفيتي) تلك المكاسب النسبية، وعلى أساس المنطق الذي أوجزناه فيما سبق، فلن يكون هنالك شك في رجاحة الخيار الذي يحقق أكبر مغزى من المنظور الواقعي، وقد تحقّق ذلك الخيار بالفعل واستمر طوال النصف الثاني من هذا القرن في ظل الحرب الباردة متمثلاً في إصرار الولايات المتحدة على احتواء النفوذ والمد الشيوعيين سياسياً وعسكرياً واقتصادياً ولو على حساب تعزيز قدرات دول أوربا الغربية في جميع تلك المجالات، ومن الشواهد المعاصرة التي تؤكد هذا التحليل من المنظور الواقعي بروز ملامح التوتر السياسي والاقتصادي بين الولايات المتحدة وحلفائها التقليدين في كل من أوربا الغربية واليابان بعيد سقوط الإتحاد السوفيتي كما أشرنا في الفقرات السابقة، وبذلك يمكننا أن نفهم نتيجة التعاون الوارد في مثال العلاقة بين الولايات المتحدة وحلفائها في الغرب فقط من خلال تحليله داخل إطار الصراع الأساسي المهيمن على علاقة القوتين العظمتين.

ولهذا، فأن الميزة الكبرى لهذا المنظور الواقعي في توضيح ظواهر التعاون الدولي تكمن في قدرة هذا النهج على إقامة صلة حقيقية بين مفهومي الصراع والتعاون ومن ثمّ شرح العلاقة الكلية بين عالم الصراع وعالم التعاون، وفي المقابل، فأن المدرسة الليبرالية المؤسسية الجديدة لا يمكنها إيجاد مثل هذه العلاقة دون الوقوع في الكثير من التناقضات المنطقية من جهة، أو عن طريق اللجوء إلى إدخال بعض التعديلات الخاصة على الأسس الجوهرية لفلسفة منهجها التحليلي من أجل تفسير جوانب محدودة فقط من ظواهر التعاون الدولي من جهة ثانية.

الخلاصة: “الواقعية ذات البعد الإنساني”

إلى حدٍ ما، فأن أطروحة الجزء الأخير من هذه الدراسة هو بالضبط ما كان يعتقد مؤسس المدرسة الليبرالية المؤسسية الجديدة، روبرت كوهين Robert Keohane، أنه يقوم به في كتابه الشهير “بعد الهيمنة (1984) After Hegemony وهو خلق نظرية الليبرالية للتعاون الدولي على أرضية واقعية بحتة، لقد أخطأ كوهين في هذه المهمة، لسبب بسيط، وهو أن نموذجه كان يحتوي على افتراض لا يتوافق بشكل واضح مع النظرة العالمية للواقعية، وهو الافتراض القتل بأن الدول القومية تسعى فقط من أجل زيادة مكاسبها الفردية، ولقد بيّنا خلال هذه الدراسة بأن هذا المنظور الليبرالي الجديد يحد في الواقع من فهمنا للتعاون الدولي لا يمتلك القدرة على الانسجام المنطقي مع حقيقة الصراع بين الدول في كل من الشؤون الاقتصادية والأمنية، وفي المقابل، فقد اقترحنا طريقة بديلة يمكن من خلالها استخدام المبادئ الواقعية نفسها في تفسير السلوك التعاوني بين الدول وصياغة التوقعات الناتجة عنه، وهذا المنهج المقترح لا يقتصر على مساعدتنا في إيجاد حلقة مشتركة لدراسة الصراع والتعاون معاً فحسب، بل أيضاً يمنحنا القدرة على النظر إلى داخل عناصر التعاون الدولي نفسها، تلك العناصر التي شوشتها النظرية الليبرالية الجديدة، ونتيجة لذلك، فأن هذا النموذج الواقعي لتفسير التعاون الدولي، والذي يمكن أن نطلق عليه اصطلاح “الواقعية ذات البعد الإنساني” (كناية عن إمكانية تحقيق التعاون في ظل الصراع)، يمكن أن نعتبره خطوة إيجابية نحو تحسين وتطوير نظريات السياسية الدولية الحديثة.

وهكذا فأن المشكلة الخاصة بنظرية التعاون الدولي كما تبرز الآن لا ترتكز على “افتراضات واقعية مبالغ فيها”، بل ترتكز على فرضيات ليبرالية جديدة غير مناسبة في هذا الإطار، وإذا كنا نسعى حقاً لفهم آليات التعاون الدولي، فيجب علينا بالتحديد أن نتوجه إلى المدرسة الواقعية في حقل السياسة الدولية.

———————————————————————————————–

المراجع

المراجع العربية

جاك أتالي

1991   آفاق المستقبل: أحدث وأدق استشراف للسياسات المتصارعة على الساحة الدولية في مستهل القرن الحادي والعشرين. (نقله إلى العربية محمد زكريا إسماعيل). بيروت: دار العلم للملايين.

ودودة بدران

1994   الرؤى المختلفة للنظام العالمي الجديد. في محمد السيد سليم (تحرير)، النظام العالمي الجديد (ص. 23-59). القاهرة: مركز البحوث والدراسات السياسية، جامعة القاهرة.

محمد طه بدوي

1977    مدخل إلى علم العلاقات الدولية. القاهرة: المكتب المصري الحديث.

حسين شريف

1993    التحدي الياباني في التسعينات: دراسة تحليلية للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية. القاهرة: مكتبة مدبولي.

روبرت كانتور

1989   السياسة الدولية المعاصرة. (ترجمة أحمد ظاهر). عمّان: مركز الكتب الأردني.

إسماعيل صبري مقلد

1982    السياسة الدولية: دراسة تحليلية مقارنة. الكويت: جامعة الكويت.

المراجع الأجنبية

Axelord, Robert

1984 The Evolution of Cooperation. New York: Basic Books.

Carr, Edward

1964 The Twenty Years’ Crisis 1919-1939. (2nd ed.). Princeton. New York: Harper and Row.

Cox, Robert W.

1992, April Multilateralism and World Order. Review of International Studies, 18 (2), 163-180.

Crane, George & Amawi, Abla (Eds.)

1991 The Theoretical Evolution of International Political Economy. New York & Oxford: Oxford University Press.

Gilpin, Robert

1987 The Political Economy of International Relations. Princeton, New Jersey: Princeton University press.

Grieco, Joseph

1988, Summer Anarchy and the Limits of Cooperation: A Realist Critique of the Newest Liberal Institutionalism. International Organization, 42 (3), 485-508.

Grieco, Joseph

1990 Cooperation Among Nations: Europe, America and Non- Tariff Barriers to Trade. Ithaca, New York: Cornell University Press.

Hobbes, Thomas

1651/1958 Leviathan. Indianapolis, IN: Bobbs-Merrill.

Jervis, Robert

1983 Security Regimes. In Stephen D. Krasner (Ed.), International Regimes (pp. 173-94). Ithaca, New York: Cornell University Press.

Jervis, Robert

1988, April  Realism, Game Theory, and Cooperation. World Politics, 40 (3), 317-349.

Kennedy, Paul

1987 The Rise Fall of the Great Powers: Economic Change and Military Conflict from 1500-2000. New York: Vintage Books.

Keohane, Robert O.

1984 After Hegemony: Cooperation and Discord in the World Political Economy. Princeton, New Jersey: Princeton University Press.

Keohane, Robert O.

1989 International Institutions and State Power: Essays in International Relations Theory. Boulder, CO: Westview Press.

Keohane, Robert O.

1991 The Theory of Hegemonic Stability and Change in International Economic Regimes, 1967-1977. In George Crane and Abla Amawi (Eds.), The Theoretical Evolution of International Political Economy (pp. 245-62). New York & Oxford : Oxford University Press.

Krasner, Stephen D. (Ed.)

1983 International Regimes. Ithaca, New York: Cornell University Press.

Lipson, Charles

1984, October International Cooperation in Economic and Security Affairs. World Politics,  37 (1), 1-23 .

Oye, Kenneth A.

1985, October Explaining Cooperation Under Anarchy: Hypotheses and Strategies. World Politics, 38 (1) 1-24.

Rosecrance, Richard

1986 The Rise of the Trading State: Commerce and Conquest in the Modern World. New York: Basic Books.

Stein, Arthur A.

1983 Coordination and Collaboration: Regimes in an Anarchic World. In Stephen D. Krasner (Ed.), International Regimes (pp. 115-40). Ithaca, New York: Cornell University Press.

Thurow, Lester

1992 Head to Head: The Coming Economic Battle Among Japan, Europe, and America. New York: William Morrow and Company, Inc.

Tsebelis, George

1990 Nested Games: Rational Choice in Comparative Politics. Berkeley, CA: University of California Press.

Viner, Jacob

1948, October Power versus Plenty as Objectives of Foreign Policy in the Seventeenth and Eighteenth Centuries. World Politics, 1 (1), 1-29.

Wallerstein, Immanuel

1991 The Three Instances of Hegemony in History of the Capitalist World-Economy. In George Crane and Abla Amawi (Eds.), The Theoretical Evolution of International Political Economy (pp. 236-44). New York & Oxford: Oxford University Press.